التجربة والرؤيا لعبد اللطيف سندباد.. عبد الكريم الطبال نموذجا

إذا كان الإبداع عامة رؤية للحياة و الكون حسب الباحثة الوجودية سيمون دو بوفوار،فإن حقيقة الإبداع الشعري جديرة بالـتأمل وقمينة بالنظر، ذلك أن للشعر أسراره العميقة، تتصل بمصدره وخباياه وأسراره.ترتبط هذه الأخيرة بقوى باطنة لذات الشاعر، تختزل في قوى النفس و العقل و القلب/الروح على السواء. يخلق الشاعر من خلالها نوعا من التوازن لتتحول إلى مصدر إبداع.لذلك عد الشاعر قديما قريبا من النبوءة والكهانة.كما عومل معاملة الأنبياء الذين يخرقون حجب الغيب المتأبية على دونهم على حد تعبير ابن سينا.
يندرج في هذا الإطار كتاب’’التجربة والرؤيا،عبد الكريم الطبال نموذجا’’للباحث عبد اللطيف سندباد،الصادر في طبعته الأولى عن منشورات آفاق للدراسات والنشر بمراكش/المغرب،2021،في 112صفحة من الحجم المتوسط.
يتكون الكتاب من تقديم للدكتور عبد الجليل هنوش(أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بجامعة القاضي عياض بمراكش)،ومقدمة وأربعة فصول.جاءت كالتالي: 1.الفصل الأول:التصور المنهجي.
2.الفصل الثاني:التجربة الشعرية.
3.الفصل الثالث:الرؤيا الشعرية بوصفها تجسيدا. 4.نموذج للتطبيق:قصيدة’’مرآة’’للشاعر عبد الكريم الطبال.

افتتح الباحث عبد اللطيف سندباد مقدمة كتابه بسؤالين جوهريين هما:ما الذي يجعل التجربة الشعرية والرؤيا الشعرية من منظور مناهج الدراسات الأدبية الحديثة تستحق المواكبة والاستقصاء على نحو متجدد؟ ما الذي يجعلنا على استعداد لخوض هذه الرحلة الأدبية مع شاعر مثل عبد الكريم الطبال؟ ليؤكد الباحث في مقدمة الكتاب على أنه عمل على رصد عدد من الخرائط الذهنية والمنهجية، وضبط الأدوات الإجرائية، واستخلاص قواعد عامة، فيما خلصت إليه أجوبة المختصين في قضايا الأدب والمنهج بصدد التجربة والرؤيا. أما عن اختياره لتجربة الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال،فيشير الباحث إلى أنه يسعى إلى جر المتلقي إلى وعي استقصائي لمفهومين جوهريين من عمق عملية الإبداع الفني،هما الرؤيا و التجربة.والبحث عن مدى قابليتها لكل إجراء تطبيقي في الشعر، ذلك أن رصد التجربة والرؤيا في شعر عبد الكريم الطبال،أو غيره،يظل محصورا في خصوصية الدائرة الفردية لكل قصيدة شعرية. لعل هذا ما جعل الباحث يركز في كتابه على قصيدة’’مرآة’’.وذلك من خلال ضبط أساس نظري، وتصور منهجييراعي خصوصيات النص الإبداعي/موضوع الدراسة، إذ بدون مراعاة هذين البعدين في العملية التحليلية، تظل جميع التصورات المنهجية حبيسة الإسقاط و التعسف والتبرير.

1.الفصل الأول(التصور المنهجي)

خصص الباحث عبد اللطيف سندباد هذا الفصل للحديث عن وضعية الإشكال المنهجي في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة والمعاصرة التي لم تكن دوما في وضعية مستقرة ومقبولة من طرف الجميع. إنها وضعية قلقة نظرا لتغير مفهوم المنهج، والتعسف في استعماله، وتطبيقه على النص الإبداعي وفق تصورات سابقة وخلفيات جاهزة ليؤكد على أن مختلف الاستعمالات المنهجية في هذه الدراسات الأدبية والنقدية تنحصر في ثلاثة أضرب تتمحور حول النص،المبدع،المتلقي.لأن النص الإبداعي حسب الباحث (نشاط فعال بأوجه متعددة،وسيرورات تفاعلية بذل فيه جهد وعرق،وبناء تركيبي تشكيلي ينطلق من لحظة محددة. وسرعان ما يعبر عن حقائق كونية متعالية وإنسانية محايثة حين يستوفي شروط تكوينه وتصوره العام)ص:31. وإذا كان الأساس النظري يرتبط بتفاعل المكونات الداخلية للنص والعوامل المساهمة في تشكيله، فإن المحلل وهو يتأمل ويتتبع تفاعل إغراءات عناصر النص الفنية، يجد نفسه في غمرة الأساس النظري، بدلا من أن يكون معطى سلفا. ليخلص الباحث في هذا الفصل إلى أن النص الشعري الذي لا يستطيع خلق أساسه النظري، هو نص يفتقر إلى كثير من حرارة التجربة وأسرارها الكامنة.

2.الفصل الثاني(التجربة الشعرية)

تناول الباحث عبد الطيف سندباد في هذا الفصل قضايا عدة.جاءت كالتالي:التجربة الشعرية بين المفهوم التفسير(ص:35)، التجربة معاناة(ص:41)، التجربة والعالم الخارجي(ص:44)، حدود الذاكرة(ص:45)، حدود الواقع(ص:47).
ربط الباحث قضية التجربة الشعرية بمستوى التصور الذي تسبح فيه القصيدة قبل مرحلة التجسيد والتشكيل.ونظرا لهذا البعد الذاتي/النفسي للإبداع، فقد أشار الباحث إلى تصورات الدراسات السيكولوجية(كارل جوستاف يونغ، فرويد).أما عن التجربة الشعرية باعتبارها معاناة، فقد نظر إليها الباحث من زاوية المبدع نظرا لارتباطها بقدرات المبدع ودلالاته الشعورية.
وفي علاقة التجربة بالعالم الخارجي، اعتبر الباحث التجربة الشعرية مشروطة بالعالم الخارجي من حيث هو كل دينامي.لا يمكن فصل عملية الإبداع الشعري عنه.مما يمكن معه القول باستحالة تمخض التجربة الشعرية بعزلها عن عالمها الخارجي. وفي إطار حديثه عن حدود الذاكرة،حصرها الباحث في(مدى انفعال تجربة الشاعر بالتجارب الشعرية السابقة عن تجربته الجديدة، سواء أكانت متعلقة بتجاربه الفردية أو بالموروث الوطني أو القومي أو الإنساني بصفة عامة)ص:45 لأن الشاعر ليس سوى معيد لإنتاج سابق في حدود من الحرية على حد تعبير محمد مفتاح.أما عن حدود الواقع، فأشار الباحث عبد اللطيف سندباد إلى أن التجربة الشعرية لا تستوفي شروط استكمالها، إلا بكونها مشروطة بالعالم الخارجي تستمد منه توازنها وتناغمها بدون تفريط ولا إفراط. أما حين يفتقد الشاعر هذه الأحوال الدافعة والتوترات الجامحة المستقاة من خلال تفاعل ذات المبدع بعالمه الخارجي، فإنه مهما وصل بتجربته، فلا يعدو أن يصل مقام احترام حدود العالم الخارجي بشقيه: حدود الذاكرة وحدود الواقع.

3.الفصل الثالث (الرؤيا الشعرية بوصفها تجسيدا)

ناقش الباحث عبد اللطيف سندباد في هذا الفصل المكونات الداخلية للنص الشعري، حيث حصرها في ما يلي:الرؤيا الشعرية (ص:53)، المستوى اللغوي(ص:60).وقد حصر هذا المستوى في الصورة الوصفية(ص:65)والصورة الإدراكية(ص:68).كما تناول في الفصل نفسه المستوى الإيقاعي(ص:72).حدد هذا المستوى في إيقاع الكلمة(ص:74)،إيقاع الوزن(ص:75)،موسيقى القافية (ص:77 ).حيث أكد في بداية هذا الفصل على أن أعمق ما يمكن أن نعرف به الإبداع هو كونه رؤيا، لأن هذه الأخيرة (بطبيعتها كشف ماهوي للتجربة الشعرية الخصبة.سواء على مستوى اللغة أو مستوى الإيقاع،باعتبار هذين الأخيرين يؤسسان لكل ما هو جوهري في التجربة الشعرية)ص:53.
بعد أن فصل الباحث القول في الرؤيا الشعرية ومكوناتها الأساسية،أكد على أن الخيال عند الشاعر لا يقل أهمية عن مفهوم الرؤيا الشعرية.فكلاهما(حسب الباحث)ينطلق من المحدود والثابت.هنا تظهر خصائص العبقرية الشعرية لدى شعراء الرؤيا التي لا تبرز إلا من خلال البناء الفني للقصيدة.سواء على المستوى اللغوي أو على المستوى الإيقاعي.

4.الفصل الرابع(نموذجللتطبيق:قصيدة’’مرآة’’للشاعر عبد الكريم الطبال)

انتقل الباحث في هذا الفصل من المستوى النظري الذي هيمن على الفصول السابقة،إلى الممارسة التطبيقية لتفاصيل ما انتهت إليه مدارس النقد الأدبي حول التجربة والرؤيا الشعريين،حيث سعى إلى الاشتغال بها على قصيدة ‘’مرآة’’ للشاعر المغرب عبد الكريم الطبال.قسم الباحث هذا النص إلى ثلاثة مقاطع أساسية.انتقل بعد ذلك إلى تحديد التشكيل الصوتي في القصيدة ليؤكد على أن الرؤيا الشعرية في هذه القصيدة كل متنامي، لا تنتهي، وإنما لتعود إليها على شكل خذروف على حد تعبير الباحث(ص:95). يتحول باستمرار من القوة إلى الفعل، ومن الموت إلى الانبعاث. وهذا الأخير حسب الباحث قانون ماثل في مختلف بناءات النص على مستوى البناء اللغوي والتشكل الصوتي والدلالي و التداولي.إنه القانون الذي يحكم الرؤيا الشعرية في قصيدة عبد الكريم الطبال.يتسم بالخصب والتفجير و المبادرة والحوار الداخلي المنفتح على تناغم الإنساني بالكوني.

خلاصة

خلص الباحث عبد اللطيف سندباد إلى أن قابلية قصيدة ‘’مرآة’’لعبد الكريم الطبال على بعث الرؤيا لم تعتمد فقط على الإيقاع واللغة بمفردهما، بل في علاقاتهما مع المتلقي باعتباره محورا مدعوا للنظر في النص نظرة الشاعر الخالق له.كما تعد القصيدة عديمة الفاعلية إذا لم يصاحبها تصوير لغوي وإيقاعي يضفي على متلقيها الحيوية والحيرة والتعبير عن حقيقة الوجود الإنساني الخالد. على الرغم من بعض الثغرات المعرفية والمنهجية التي بدت لنا في هذا العمل النقدي، فإنه سيغني المكتبة النقدية المغربية خاصة والعربية عامة.


الكاتب : سعيد بوعيطة

  

بتاريخ : 31/12/2021