التخزين والادخار في المدينة المغربية

ثمة فائدة للتأكيد على أن الحواضر المغربية عرفت سلوك تخزين وادخار الأقوات عبر تاريخها الطويل، والذي يكشف في حقيقة الأمر عن نمط ثقافي له حمولته الحضارية، كما يعكس هاجس الجوع الذي ظل يطارد الإنسان المغربي، في ظل نمط القلة والكفاف الذي لطالما وسم معاشه اليومي، نمط فرضه قهر الطبيعة ودورية القحوط التي لطالما أناخت بكلكلها على البلاد والعباد.
وهذا ما يُفسر كيف أن المًصنفات التراثية احتفظت بإشارات تاريخية غنية بخصوص أهمية الادخار، وتحذير المسرفين من عاقبة التبذير زمن الخصب، آية ذلك وصية العالم عبد لله بن محمد بن أبي بكر البوشواري جاء فيها: « وهناك وصية أوصى بها…قال لله تعالى «كلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين». وقد فسر الدهر ذلك لنا تفسيرا. فإن سنين المجاعة لا تجد فيها إلا ما ادخرته في السنين المخصبة. فعليك بالادخار ثم إياك وإياك السرف. فادخر ما أمكنك من الإدام والزرع والجلبان واللفت اليابس والهرجان والخروب وغير ذلك، وزريعة كل شيء، ثم إياك ثم إياك التفريط في التبن، فهو تبر لا تبن وهو أساس كل شيء… ومن لم يدخر شيئا، فالويل له والثبور والفضيحة في الدنيا والآخرة … وادخر الزرع بقدر الإمكان، فإن كان ولابد من بيعه للفساد، فبدله بنوى الخروب أو بالذرة، فإنها لا تسوس أو الجلبان أو بالإدام… وإياك وسلف الزرع وإفساد التبن، فاخزنه متى تجد شيئا منه. فإنك ستندم إذا لم تخزنه في وجوده..».( كتاب المعسول، ج 17، صص 256 – 258 ). ونفس الأمر ينطبق على الأمثال الشعبية التي ظلت تحفز على الخزن والادخار منها مثلا :
اللي يوفر عشاته لغداته الأيام اعطاته * اللي دس من عشاه لغداه ما يتشفى فيه اعداه «.
Brunot ( L ), Proverbes et dictions arabes de Rabat , p : 71
وتدخل مبادرة الادخار بالمدن ضمن اختصاص السلطة المركزية بشكل كبير، إذ أنها تملك أكبر المستودعات والمخازن المخصصة للأقوات بها، حيث كان يخصص قسم منها لأفراد البيت الحاكم والدوائر المقربة من السلطة والخدم والجيش، في حين كان قسم آخر من الأهراء؛ وهي عبارة عن مباني واسعة يتم فيها تخزين الحبوب والمواد الاستهلاكية الأخرى من أجل تموين الأسواق، واللجوء إليها أثناء حلول المجاعة من أجل إنقاذ المنكوبين والمُعسرين. Rosenberger, Société, pouvoir et alimenation, p :72.
وقد أشار مصدر يهودي إليها، أثناء حديثه عن دخول العثمانيين إلى مدينة فاس في عام 961هــ/ يناير 1554م، يقول : « هْرَبْ الشريف [ محمد الشيخ السعدي ].. وُخلى مال كثير.. ومن الزرع والشعير الهرية خلاَهُمْ مملْيين» . ( كتاب التواريخ، ص 17 ).
ويبدو أن السلطان كان يولي مسألة تموين أهل المدن بالأغذية الأساسية عناية فائقة، وخاصة عاصمة السلطة الحاكمة، فلم يلبث أبو حسون – بعد استيلاءه على مراكش عام 1015 هـ / 1607 م، حتى أخرج كل ما يحتويه قصر السلطان المولى زيدان من « كل صنف من الطعام المدخرة» وفرقه على أهلها ( تاريخ السودان، صص 204 – 205 ).
وجاء في رواية السفير البريطاني جون وندوس Windus الذي زار المغرب في عهد المولى إسماعيل العلوي ( 1672 – 1727 م)، بأن هذا السلطان كان يملك عددا من المخازن التي تبقى مليئة مدة طويلة بالحبوب. ولتزويد مخازن السلطة، يزرع الأهالي سهل المعمورة الشاسع وعدة مناطق أخرى من البلاد. ( رحلة إلى مكناس، ص 69 ). وبالمِثل أشار عبد الكريم بن موسى الريفي إلى أن المولى إسماعيل فتح عام 1135 هــ / 1723م «أهراء الزرع وفرق كثيرا منه…وذلك كان دأبه في ذلك الغلاء، فكثرت الخيرات ورخصت الأسعار في جميع الأقطار ..».( زهر الأكم، ص 201 ).
أما في ما يتعلق بالأساليب والطرق المُبتكرة من طرف ساكنة المدن للحفاظ على الأطعمة والمأكولات المدخرة، فيخبرنا مصدر أجنبي عن بعض منها، كخزن الزبدة في جِرار طينية تدفن تحت الأرض، وقد يمر عليها أربع أو خمس سنوات، كما يتناولون لبنا رائبا يعمل على شكل جبن ويحمض، ويكون جاهزا بعد خمس أو ست ساعات، وقد يخزنونه إلى أن يصبح عتيقا، ثم يتناولونه بعد أن يجف ويقبح طعمه ( رحلة إلى مكناس، ص 49 ). وقد قدم لنا إبراهيم بن محمد التزركيني العيني[ ت. 1199 هـ / 84-1785 م] في رحلته الحجية طريقة أخرى لتحضير اللبن المجفف؛ والذي سماه ب» الإكليلة»؛ حيث يتم نزع زبده، ويجعل في البرمة على نار حتى ينزل ماؤه، ويجعلونه في وعاء كقفة حتى يقطر جميع مائه. ثم ييبسونه ويطحنونه ويصير سميدا كسميد القمح، فإذا أرادوا أكله سخّنوا سمنا وجعلوا فيه تمرا إن وجد، وجعلوا فيه شيئا من هذا السميد وخلطوا ذلك فأكلوه ( المعسول، ج 13، ص 289 ).
ولم يكن تخزين المنتجات الغذائية حِكراً على المسلمين، بل كان اليهود بدورهم يدخرون المواد الغذائية، وهو ما يُستشف من إشارة تاريخية أوردها مصدر يهودي بخصوص جفاف عام 1090 هـ /79-1680م، حيث ذكر بأنه لم تكن هنالك «آفة ولا شعور بصوت الجوع، لأنه كان بملاح فاس أغنياء كثيرون.. بيوتهم مملوءة بكل الطيبات، والغلال الكثيرة، وخزائنهم مملوءة، وكانت مطامير اليهود مملوءة، ولم تنته إليهم مجاعة ذلك الزمان».( كتاب التواريخ، ص 62 ).أما بالنسبة للمسيحيين، فقد أشارت الأسيرة ماريا متلن Meteleen التي عاشت خلال القرن 18 م، عند حديثها عن مجاعة عام 37-1738م أن المسيحيين بالمغرب كانوا يخزنون الأموال والأقوات في المطامير خوفا من المغاربة، وتقول «أن ذلك حسب عادة أهل البلد، حيث يخزن السكان كل شيء في باطن الأرض». (من تاريخ المغرب وحاضرته الإسماعيلية، ص35 ).
وصفوة القول إن سلوك التخزين والادخار شكل أداة ضرورية لمجابهة ظرفية القلالة والندرة التي ظلت تعاني منها الدولة والمجتمع المغربي، في الحاضرة وباديتها على حد سواء، وحتى الأساليب التي كان يتم توظيفها في هذه العملية هي في واقع الأمر تُشكل تراثا حضاريا متجذرا في المخيال الجمعي للمغاربة، وهو ما تكشفه الأمثال الشعبية التي ظلت تحفز على الخزن والادخار للنجاة زمن المسغبة، ولذلك عد سلوك التخزين من ضروريات الحياة في تاريخ المغرب، لدرجة إضفاء القدسية عليه ومنحه مكانة عليا.

(*) أستاذ باحث في التاريخ والحضارة/ جامعة القاضي عياض بمراكش


الكاتب : سعيد إدحمان (*)

  

بتاريخ : 24/06/2022