الترجمة الأدبية في المغرب: مسارات ورهانات 3/3

تجدر الإشارة إلى أن تطور نسبة ترجمة الدراسات الأدبية في الألفية الثالثة – مع تسجيل الحضور المحتشم للمرأة في هذا المجال، مقارنة بحضورها المتزايد في مجال نقل الإبداع عن لغات مختلفة، تطور مواز لتنامي الخطاب النقدي حول الترجمة في هذه الحقبة. ففي الألفية الثالثة شهد الحقل الثقافي المغربي تزايداً ملحوظاً في نسبة ترجمة الدراسات الأدبية، إذ صدر تقريباً ما بين سنة 2000 وسنة 2011 ثمانية وستون كتاباً مترجماً في مجال الدراسات الأدبية، مع العلم أن الترجمات المغربية الصادرة في المجلات المغربية والعربية، تفوق هذا العدد بكثير.
وحسب إحصاءات مؤسسة الملك عبد العزيز، يشكل عدد ترجمات الدراسات الأدبية من سنة 2015 إلى سنة 2018 نسبة مهمة من مجموع الترجمات المغربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، مع تسجيل التحاق اللغتين الإيطالية و العبرية (وإن بنسبة رمزية) بقائمة اللغات المصدر بالنسبة للمترجمين المغاربة، وتنامي حضور الإنجليزية بفضل الحرص على ترجمات الأصول. والحال أن بيان نشر الكتب في المغرب خلال 2017-2018 السالف الذكر، أكد أن اللغة الإنجليزية استطاعت أن تتقدم الإسبانية، وأن تحتل المرتبة الثانية بعد الفرنسية بنسبة 18،54، للعلوم الإنسانية والاجتماعية فيها النصيب الأكبر .
ولعل أهم ما يسترعي الانتباه في ترجمات الألفية الثالثة تعميما – إلى جانب التنويع اللغوي، وتزايد عدد المترجمين المنخرطين في عملية النقل من مختلف المعاهد والأقسام الجامعية في ظل استمرار حضور الأسماء السابقة، تركيزها على الاتجاهات الفكرية والنظرية ما بعد – الحداثية والتيارات النقدية ما بعد البنيوية وما بعد – الكولونيالية  (ميشيل بوتور، خورخي لويس بورخيس، ريتشرد هارلند، إيتالو كالفينو، موريس بلانشو، أدريان مارينو، بيير شارتييه، ماري جوزي مونزاين، ميلان كونديرا، دافيد لوبروتون… / خالد أمين، حسن  الطالب، نزهة حفو، عبد النبي ذاكر، نعيمة بنعبد العالي، محمد مساعدي، محمد مخطاري، محمد الرامي، عبد المجيد النوسي، محمود عبد الغني…. إلى جانب عبد السلام بن عبد العالي، سعيد علوش، أحمد بوحسن، سعيد بنكراد، أحمد المديني، محمد مشبال،…)، مع اهتمام ملحوظ بالمجال السيميائي، وتخصيصاً كتابات أمبرطو إيكو التي افتتحت بها الألفية الثالثة عهدها (الأثر المفتوح)، وربطت من خلالها الترجمة المغربية العلاقة مع التفكيكية، كما أضاءت عالم السرد وهي ترسخ المجال، بواسطة ترجمة كتابات من قبيل التأويل بين السيميائيات والتفكيكية ونزهات في عالم السرد، إضافة إلى كتابات تجديدية لأيريك بويسنس، وألجيرداس جوليان غريماس، وجاك فونتيني، ويوري لوتمان.
ويندرج هذا الاهتمام ضمن العناية القصوى بفن التأويل والقراءة تعميماً (هانس روبرت ياوس، ﺘﻴﺭﻱ ﺇﻴﺠﻠوﻥ، فولفغانغ إيزر، سيغــــــفريـــــد شميدت، مارك فورمالي، فيليب صورلس، رولان بارط، عبد الفتاح كيليطو،…)، جنباً إلى جنب مع العناية بشعرية الترجمة وشعرية القصيدة والشعريات الجديدة في الدراسات المسرحية والالتفات إلى المنظورات النقدية الأمريكية اللاتينية، وتحديد مفاهيم الأنواع المستحدثة (التخييل العلمي)، فاستنبات حقول جديدة (المتخيل السياحي، وفتح الآفاق على جغرافيات ثقافية مغايرة، بالتوازي مع الحضور النسبي لترجمات الشكلانية والبنيوية.
وللتدليل أخيراً على مدى تأثير النمو المطرد لترجمة الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية تعميماً، منذ السبعينيات إلى اليوم في حقل التأليف بالمغرب، رغم النقص والمعوقات، وعلى مدى نجاحه في قلب المعادلة بين العربية والفرنسية، نحيل على المشهد الذي رسمته إحصائيات مؤسسة الملك عبد العزيز للغات الإنتاج في هذه المجالات خلال 2017- 2018، والذي يضع العربية على رأس القائمة بنسبة إنتاج تصل إلى 18,12%، تليها الفرنسية من بعيد بنسبة 16,25%، والأمازيغية بنسبة 1,37%، والإنجليزية بنسبة 0,87%، فالإسبانية بنسبة 0,26%، والبرتغالية بنسبة 0,13%. مع العلم أن التأليف بالعربية في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية كان نادراً وشبه منعدم خلال الحقب السابقة عن الطفرة التي عرفتها الترجمة في مغرب الثمانينيات تخصيصاً.

4 – تركيب

رغم غياب جغرافيات ثقافية وازنة من مشهد الترجمة الإبداعية في المغرب ،وضعف تمثيلية جغرافيات أخرى (إنتاج جزر الأنتيل، والهند، وأوروبا الشرقية، وإنتاج إفريقيا جنوب الصحراء الأنجلوفونية، والقوقاز، …)، يعد هذا المشهد الذي يشبه ورشاً مفتوحاً باختراق أكبر في المستقبل لعوالم هذه الثقافات بواسطة لغاتها الخاصة أو عن طريق لغة وسيطة، ولو بتمثيلية رمزية، تدل على ذلك الترجمات الأخيرة التي التفتت إلى أعمال روائيي وشعراء الثقافة اليابانية والثقافة الصينية -التي نتوقع أن يتم التفاعل معها بعمق قريباً بفعل الدينامية التي يعرفها تدريس الصينية بالجامعة المغربية – إلى جانب الالتفات – ولو بشكل تمثيلي– إلى إنتاجات كتاب ينتمون إلى الثقافات: اليونانية، والإيطالية، والنمساوية، والنرويجية، والتركية، والبرازيلية، والأنتيلية، والهولندية، فالجورجية…، من قبيل إنتاجات: موراكامي هاروكي، ماي جاو، كيغو هيغاشينو، دوريان سوكيغاوا، نيكوس كازنتزاكيس، ستيفان زفايغ، نودار دومبادزي، نيكو لوكيبانيدزي، أولاف هاوكه، ….).
في المقابل، يؤكد مشهد ترجمة الدراسات الأدبية استمرار الأكاديميين المغاربة – في الغالب- في تحمل مسؤولية تحديث وتجديد الثقافة بواسطة الترجمة، بالاتكاء على عصاميتهم وعلى جهودهم الفردية في البحث عن الدعم واستثمار الفرص لفائدة الثقافة المغربية لعدم توفر أي منظمة حكومية أو غير حكومية مغربية خاصة داعمة لحركة الترجمة ومساهمة في تقنينها، مع سعي واضح إلى مواكبة التيارات والاتجاهات المختلفة وإلى تعزيز تنويع المصادر النظرية والمنهجية ببوادر الانفتاح على لغات أخرى…، مما سيؤدي مستقبلاً إلى مزيد من تقليص هيمنة اللغة الفرنسية على المشهد الترجمي المغربي بفعل سلطة الإرث الاستعماري، وهي اللغة التي شكلت على مدى عقود وسيلة المثقف المغربي الأولى لتدارك التأخر التاريخي. وفي هذا السياق، نشير إلى أن تنامي نسبة حضور الإنجليزية في الترجمة الأدبية المغربية مع توجه واضح نحو نقل الدراسات الأدبية في مقابل انحصار الإسبانية في ترجمة الإبداع، يعد مؤشراً دالاً على تأثير مركزية اللغة المصدر دولياً في تنوع الحقول والأجناس التي يتم نقلها عنها.

 

الهوامش

1انظر :
-Edition et Livre au Maroc-Rapport annuel (2017-2018) / Fondation du Roi Abdul-Aziz Al Saoud, en ligne: http://www.fondation.org.ma/web/article/108
2- انظر: البيانات الحالية لحركات الترجمة في المنطقة الأورو-متوسطية: مشروع أطلقته مجلة ترانس أوروبيان ومؤسسة آنا ليند الأورو-متوسطية للحوار بين الثقافات ،بإدارة جيسلان غلاسون ديشوم وجيما أوباريل، تنسيق: أناييس – تريسا خاتشادوريان، ترجمة جمال شحيد، 2018، الرابط:
www.ahewar.org › debat › show.art.asp
3- سعيد علوش، خطاب الترجمة الأدبية من الازدواجية إلى المثاقفة (المغرب الحديث ،1912-1956)، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، 1990.
4- مزوار الإدريسي:
-“المعتمد”: منسيات الحداثة الشعرية، العربي الجديد، 17 نوفمبر 2015، الرابط:
https://www.alaraby.co.uk › culture › 2015/11/17
– “كتامة” تاريخ قصير لترجمة ضد التيار، العربي الجديد، 28 نوفمبر 2015، الرابط:
https://www.alaraby.co.uk
5- رودريغيز سييرا فرانسيسكو مانويل، ضون كيخوطي في الريف: مشروع ترجمة بتطوان في ظل الحماية الإسبانية، الرابط:
https://www.academia.edu

6-Edition et Livre au Maroc-Rapport annuel (2016-2017), op.cit., en ligne :
https://www.academia.edu › Edition_et_livre_au_Maroc_2016-2017
7-Mohamed -Sghir Janjar, L’édition au Maroc: 1955-2003. Etat des lieux,  Références maghrébines, Casablanca ,juin 2005.
8-انظر في هذا الشأن: عبد الله العمد، أوضاع الترجمة في المغرب(في سبيل إقرار الخطة الوطنية للترجة، دار بالماريس بالرباط، 2012.
9-انظر : الترجمة في المغرب: أية وضعية ؟ وأية استراتيجية ؟، منشورات وزارة الثقافة، 2003.
.10- Richard  Jacquemond
– Les Arabes et la traduction : petite déconstruction d’une idée reçue, La pensée de midi, N. 21, 02/2007.
-Les flux de traduction entre le français et l’arabe depuis les années 1980: un reflet des relations culturelles, Gisèle Sapiro, Translatio Le  marché de la traduction en France à l’heure de la mondialisation, CNRS Editions, 2016 (HAL01514934).
-La traduction en arabe du roman mondial (1991-2015).Jalons pour une enquête, Maxime Del Fiol et Claire Mitatre (dir), Les Occidents des mondes arabes et musulmans , XIXe-XXIe siècles ,2018(HAL01838369).
-انظر في هذا الشأن مثلا :11
-Michael Peyron, Traduction en anglais et en français de textes amazighs en prose et /ou en vers, en ligne :
http://michaelpeyron2.canalblog.com/archives/2013/01/20/26202174.htm
-Hassan Banhakeia, La traduction poétique amazighe, Harmattan, 2017.
12- سعيد يقطين ، الأدب والمؤسسة والسلطة : نحو ممارسة أدبية جديدة، المركز الثقافي العربي ، بيروت – البيضاء، 2002.
13-انظر بهذا الصدد:
– شعرية الترجمات المغربية للأدبيات الفرنسية، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، 1991
– ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية في العالم العربي المعاصر، تحت إشراف ريشار جاكمون، منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالبيضاء / مؤسسة كونراد أدناور بالرباط، 2008.
وانظر أيضاً:
– Mohamed -Sghir Janjar, Traduction et constitution de nouveaux champs des  savoirs en langue arabe, in Transeuropéennes, Avril /2010,en ligne :
http://transeuropeennes.org/fr/articles/221/Traduction_et_constitution_de_nouveaux_champs_des_savoirs_en_langue_arabe.html
– Akram Odeh, La traduction des connaissances scientifiques en arabe : état des lieux , défis et perspectives,  Meta , N.61, Les Presses de l’Université de Montréal, 2016.

(°) أستاذة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس الرباط، دكتوراه دولة في «الأدب المقارن»، روائية وناقدة ومترجمة، عضو الرابطة العالمية للأدب المقارن، لها مجموعة من الأعمال والأبحاث، شاركت في عدد من الملتقيات والمؤتمرات الأدبية المغربية والعربية.


الكاتب : دة. فاتحة الطايب

  

بتاريخ : 18/10/2021