الترجمة باعتبارها تواصلا ثقافيا

بداية، لا بد من التأكيد على أن هناك تعريفات كثيرة للترجمة اقترحها منظرون في الدراسات الترجمية وأيضا لسانيون ولغويون وفلاسفة ومفكرون. وأكثر هذه التعريفات تركز على نقل المعنى من لغة إلى أخرى. وبشكل مختصر وبسيط، أرى بأن الترجمة هي نقل محتوى نص ما من لغة معينة إلى لغة أخرى مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات اللغة الأصل وأيضا خصوصيات اللغة الهدف من حيث مستويات التركيب والدلالة والثقافة وغيرها. ويبقى المعنى بطبيعة الحال هو ما يهم بالدرجة الأولى في عملية الترجمة. ولنقل هذا المعنى، يؤكد عبد السلام بعبد العالي مثلا على دور المترجم الأساسي في عملية الترجمة. فالمترجم في نظره ينبغي أن يكون قادرا على تجاوز الصعوبات التي يخلقها تعدد اللغات والثقافات التي تحملها. يجب على المترجم أن يكون قادرا على الإتيان بنص مشابه للنص الأصلي وإذابة المسافة الموجودة بين النص الأصلي والترجمة.
وفي تناوله لإشكالية الترجمة، ربط جاك دريدا قضية الترجمة بمفهوم التحويل. Transformation وقد استعار عبد السلام بنعبد العالي هذا المفهوم، وأحاطه بجملة من المحددات المعرفية والعلمية، مؤكدا على أن القصد من التحويل في الترجمة تحويل النص واللغة معا، فالنصوص المترجمة تملك روائح اللغات الأصلية:
« لا ينبغي أن نفهم التحويل هنا في اتجاه واحد. الترجمة لا تحول النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله تحول في ذاته اللغة المترجمة. ويمكن أن نتذكر هنا ما حدث للكتابة باللغة الفرنسية عندما تفتحت على الأدب الأمريكي وأخذت تترجمه. بل إن هذا ما نلاحظه اليوم في اللغة العربية حيث أصبحنا نشتم في نصوصها رائحة اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. فليست الترجمة إذن، هي ما يضمن حياة النص المترجم ونموه وتكاثره فحسب، وإنما هي ما يضمن أيضا حياة اللغة والفكر ونموهما وتكاثرهما.»
دائما ما يتم ربط الترجمة بالخيانة التي تعتبر سمة ذات نفحة ثيولوجية. بيد أن عبد السلام بنعبد العالي يؤكد على أن اللغة في حقيقة الأمر هي الخائنة: « هناك ترجمات تكتسب أهميتها التاريخية من خيانتها للنص، إن صح التعبير. بل إن من الأدباء من يهتم بالترجمة فقط بقصد الاغتراب والخروج من المألوف والابتعاد عن اللغة المكرورة. إنهم يجيئون إلى الترجمة بالضبط لما تنطوي عليه عمليتها من «خيانة» وغرابة .»
ومن جهة أخرى ، ومن خلال تجربتي المتواضعة في مجال الترجمة، أرى أن على المترجم أن يختار النصوص بعناية مغلبا قيمتها المعرفية والفكرية والأدبية على أي مبرر آخر. وحتى إذا اقترحت عليه بعض الأعمال من طرف ناشر معين، فعليه أن يكون مقتنعا تمام الاقتناع بقيمة العمل سواء الجمالية أو الفكرية أو الفلسفية أو الإبداعية أو الثقافية وإلا ستكون عملية الترجمة ذات أهداف تجارية فقط. لذلك، فأغلب النصوص التي ترجمتها إلى حدود الآن، كنت أنا من بادر إلى ترجمتها إما لقيمتها الجمالية والإبداعية على غرار بعض مؤلفات الهايكو للشاعر سامح درويش وديوان الشاعر نور الدين محقق وأيضا ديوان الشاعرة مريم البقالي . هذه الدواوين الشعرية ترجمتها من اللغة العربية إلى الإنجليزية من أجل خلق تواصل بينها وبين قراء اللغة الإنجليزية . وبحكم اهتمامي بالدراسات الثقافية وبالفلسفة وبالفكر عموما فقد وجدت أن العديد من المقالات الفكرية والفلسفية والنقدية تستحق أن يطلع عليها قراء اللغة العربية. ولأن بعضها ينتمي إلى الحقل الفلسفي الغزير بالمصطلحات والمفاهيم الفلسفية، فإن المجهود يكون دائما مرهقا ويتطلب الكثير من الاشتغال والبحث والمراجعة المتأنية قبل الإتيان بترجمة مقبولة . فقد ترجمت مثلا بعض نصوص الفيلسوف الأمريكي صمويل فييبر وبعض المقالات الفكرية والنقدية للكاتب والمفكر عبد الكبير الخطيبي والتي كتبها منذ فترة طويلة ولا تزال تمتلك راهنيتها المعرفية. وهذه النقطة تحيلني إلى الحلقة الأهم في عملية الترجمة وهو المترجم. فالمترجم لا ينبغي أن يتعامل مع النصوص وكأنها نصوص عامة. بل عليه أن يعي جيدا بأن النصوص لا تنتمي فقط إلى عالم لغوي بكل حمولاته الدلالية واللغوية والثقافي،ة بل إنها قد تنتمي إلى مجال أدبي أو فكري أو فلسفي أو غير هذه المجالات التي لها خصوصياتها وعوالمها المعرفية الخاصة والتي ينبغي الاطلاع عليها قبل ممارسة عملية الترجمة. أظن أيضا أنه من المستحب أن يطلع المترجم على بعض استراتيجيات وآليات الترجمة التي اقترحها المنظرون في مجال الترجمة لتبديد الصعوبات التي يجدها المترجمون أثناء ترجمة النصوص. هذا بالإضافة طبعا إلى ضرورة تمكن المترجم تمكنا جيدا من اللغة الأصل ومن اللغة الهدف. وعلى المترجم أن يستحضر دائما الخصوصيات الثقافية للغات التي يترجم منها، وأيضا اللغات التي يترجمها إليها وإلا ستكون ترجمته بدون أثر لا جمالي ولا ثقافي ولا معرفي. المترجم ينبغي أن يكون مبدعا وليس فقط ناقلا للمعنى من لغة إلى أخرى.
عملية الترجمة ليست محفوفة بالورود بل يصادف المترجم دائما بعض الصعوبات خاصة في ترجمة بعض المفاهيم أو المصطلحات، وأيضا بعض الأمثال الشعبية التي إذا ترجمت حرفيا فقدت قيمتها المعرفية والثقافية لأن الأمثال الشعبية لها ارتباط وثيق بالثقافة التي أنتجتها. لهذا، فإن الاطلاع على نظريات الترجمة كما قلت سابقا يساعد كثيرا على تجاوز هذه الصعوبات من خلال استعمال بعض الاستراتيجيات والآليات الترجمية. فكما هو معلوم، فنظريات الترجمة ساهمت بشكل فعال في اقتراح مجموعة من الآليات والاستراتيجيات الترجمية والتي أثبتت الدراسات العلمية نجاعتها وقوتها. وهناك عدد كبير من المترجمين من يستعمل هذه الاستراتيجيات بدون إدراك أو وعي نظرا لافتقارهم ربما إما لتكوين أكاديمي في مجال الترجمة أو ربما لعدم اطلاعهم على النظريات الترجمية بشكل عام. هناك مجموعات من الآليات والاستراتيجيات تستعمل في الترجمة نذكر منها: الترجمة الحرفية والترجمة عن طريق الاقتراض والاقتباس والتكييف والترجمة الثقافية وغيرها. المترجم أيضا ينبغي أن يكون قارئا جيدا وذا ثقافة واسعة التي ستساعده بكل تأكيد في تفكيك وتحليل ثم ترجمة النصوص المختلفة.
في المغرب، لا بد أن نعترف أن الترجمة هي عملية فردية وأغلب المترجمين لا يعيشون من الترجمة بل هي مجال يستهويهم ويترجمون بعض الأعمال التي تناسب تكوينهم وميولاتهم الفكرية والمعرفية. وبالتالي، فلا بد من الإشادة بالمساهمة الفعالة التي يقوم بها المترجمون المغاربة في حركة الترجمة في العالم العربي. بالفعل، لا بد من التأكيد على أنها مبادرات فردية تندرج إما ضمن اهتمامات المترجمين بأعمال معينة، وإما ضمن اقتراح من كاتب النص الأصلي أو ضمن اقتراح من الناشر في بعض الأحيان. ولكن، للنهوض بهذه المساهمة لا بد من تجميع هذه الجهود الفردية المتفرقة ضمن مؤسسة خاصة بالترجمة تقوم الدولة بتوفير مقر لها، وتسخر لها إمكانيات مادية وبشرية. ويضطلع المركز بإعداد برنامج سنوي خاص بترجمة الأعمال التي يتم اختيارها حسب أهميتها وقيمتها الفنية من وإلى اللغة العربية. لا بد من الاشتغال على مشروع في الترجمة من أجل معرفة ما يكتبه الآخرون، ومن أجل التعريف أيضا بما نكتبه نحن. الترجمة كما يقول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي تنفخ الحياة في النصوص وبالتالي، لا بد من إعطاء أهمية أكبر للترجمة عموما في المغرب ومن ضمنها الترجمة الأدبية.
في السياق نفسه، لا بد أن يتفاءل المهتم بمستقبل الترجمة في المغرب ويبتهج بعد إعادة تنظيم أكاديمية المملكة المغربية، حيث تم إنشاء الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التي عهد إليها بتشجيع ترجمة الأعمال المغربية من اللغتين العربية والأمازيغية إلى اللغات العالمية، وكذا العمل على ترجمة الدراسات العلمية المرجعية وتشجيع البحث العلمي في مختلف قضايا الترجمة من خلال التنسيق مع الهيئات الدولية المتخصصة في مجال الترجمة. وفي هذا الإطار، نظمت أكاديمية المملكة المغربية مؤخرا عدة ندوات وورشات حول الترجمة ،وحول سبل تطوير مجال الترجمة في المغرب. وكانت آخر أنشطتها محاضرة للمترجم والباحث المغربي فريد الزاهي تحت عنوان: “الترجمة، من الفعل إلى الفكر: رهانات التجديد والمراجعة الثقافية.”

* كاتب ومترجم
من المغرب


الكاتب : مراد الخطيبي*

  

بتاريخ : 17/03/2022