في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتُقاس فيه القيم بعدد الإعجابات والمتابعين، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي عالما موازيا، له قوانينه ومقاييسه الخاصة. عالم يخلط بين الحقيقة والتصنّع، وبين التجربة والتمثيل، ويحوّل الحياة اليومية إلى عروض مصورة محكومة برغبة الظهور، والهوس بالانتشار. في قلب هذا المشهد، برزت ظاهرة «التريند» كمحور رئيسي في تشكيل السلوك الرقمي والمجتمعي، حيث يسعى الكثيرون إلى تحقيق الشهرة السريعة، ولو على حساب المصداقية والراحة النفسية.
عالم زائف بواجهة مثالية
ما أن تفتح أحد التطبيقات الشهيرة كـ»إنستغرام» أو «تيك توك»، حتى تغمرك الصور ومقاطع الفيديو بألوانها الزاهية، وحيويتها الباذخة التي تنقل تفاصيل من حفلات لا تنتهي، أطباق شهية، أجسام متناسقة، وسفر إلى أجمل الوجهات. كل شيء يوحي بأن الحياة سهلة، وفاخرة، ومليئة بالنجاح والمتعة، لكن الحقيقة مختلفة تماما.
وراء هذه الواجهة المصقولة، يخفي كثيرون جوانبهم الحقيقية، ويصنعون نسخا محسّنة من أنفسهم لتتماشى مع تطلعات الجمهور، فالصورة الجميلة تُعد بعناية، والفيديو يُعاد تصويره مرارا، والابتسامة قد تُرسم فوق تعب أو حزن. ولعلّ الأخطر أن هذا التمثيل لا يُمارَس فقط على الجمهور، بل أيضا على الذات، حيث يبدأ الفرد في تصديق الصورة التي يصنعها لنفسه، ويعيش داخلها حتى تُصبح قناعا دائما.
ضغط المقارنة الدائمة
من بين أكثر ما تفرزه ظاهرة التريند من آثار سلبية، هو الإحساس بالنقص الناتج عن المقارنة، فالشباب والمراهقون، وهم الفئة الأكثر استخداما لهذه المنصات، يقارنون أنفسهم يوميا بحياة العديد من المؤثرين، ويشعرون بأنهم في وضعية تأخر، وحالة فضل، أو غير جديرين بالسعادة. في هذه المنصات يرى المتلقي شابة تسافر من بلد لآخر وتعرض حياتها كمغامرة لا تنتهي، بينما هو لم يغادر مدينته، أو شابا يقود سيارة فاخرة وينشر أرباحه من التجارة الإلكترونية، بينما هو يعاني في البحث عن عمل.
هذه المقارنة الدائمة، والتي تكون في أغلب الأحيان غير عادلة، لأنها مبنية على محتوى منتقى ومعدّل، تؤدي إلى مشاعر إحباط، وتقلل من تقدير الذات، وقد تدفع بالبعض إلى الانعزال، أو حتى إلى اتخاذ قرارات متسرعة في محاولة يائسة لمجاراة «التريند».
كل شيء مباح من أجل الظهور
بعض المستخدمين لا يترددون في نشر تفاصيل شخصية جدا، أو محتويات مثيرة للجدل، فقط ليحظوا بنسبة مشاهدة عالية. قد نرى من يُظهر لحظات حزنه وبكائه، أو يصور مواقف أسرية محرجة، أو يشارك في تحديات غريبة وربما خطيرة، كل ذلك بدافع «أن يُرى» وأن يُعلَّق عليه.
في هذا السياق، أصبح التريند أشبه بعقد غير مكتوب، يُجبر الأشخاص على مسايرة ما هو رائج حتى لا يُنسَوا، فالخوف من «النسيان الرقمي» أصبح كابوسا حقيقيا، يدفع البعض لخلق محتوى يومي بأي وسيلة، ولو على حساب الكرامة أو القيم.
حياة تُصوَّر ولا «تُعاش»
لقد تحوّلت الكثير من اللحظات اليومية البسيطة إلى فرص للتصوير والبث والنشر، فأصبحت اللحظة نفسها تُستهلك من أجل توثيقها لا من أجل عيشها. في عيد ميلاد، لا ينشغل الشخص بالفرحة، بل بعدد القصص المصورة التي سينشرها. في رحلة، لا يعيش المنظر، بل يبحث عن الزاوية الأفضل لالتقاط الصورة. في تجمع عائلي، يُستبدل الدفء الفعلي بالتصوير الجماعي المتكرر.
هكذا، تضعف الروابط الاجتماعية الحقيقية، ويقلّ عمق التجربة لصالح عرضها. وهكذا أيضًا، يصبح الإنسان أقرب إلى مخرج وممثل في آنٍ واحد، يعيش حياة لا تُعاش بل تُصوّر وتُبث.
هل من أمل في وعي جديد؟
رغم كل هذا، بدأت بعض المبادرات الرقمية تنمو، تدعو إلى التوقف عن مقارنة الذات بالآخرين، وتروج لمحتوى بسيط، عفوي، وأقرب إلى الحقيقة. بعض المؤثرين أيضًا بدأوا في مشاركة جوانبهم الإنسانية، بما فيها من تعب وإخفاق وملل، لإظهار أن خلف كل صورة جميلة، إنسان يعاني ويكافح مثل الجميع.
في نهاية المطاف، يبقى التريند مجرد موجة عابرة، أما الحياة الحقيقية فهي أعمق من الصور والمنشورات. إن السعي وراء الكمال الرقمي قد يُفقدنا متعة العيش ببساطة وصدق، ويُحوّلنا إلى نسخ متشابهة تلهث وراء إعجابات لا تُشبع، لذا علينا أن نُعيد التوازن بين الواقع والافتراضي، وأن نتقبل عيوبنا ونعتز بتفردنا، فالسعادة لا تُقاس بعدد المتابعين، بل براحة البال وصدق اللحظات.
إن التحدي الحقيقي اليوم ليس فقط في مقاومة التريند، بل في استعادة السيطرة على الذات، والعودة إلى العيش بصدق، خارج شاشات الهواتف، بعيدا عن هوس الظهور، وفي انسجام مع الواقع، بكل ما فيه من بساطة ونقص وجمال غير مرئي.