‘التــأريخ الكــبــيــر لديفيد كريتسشيان» 3/2

لإعادة كتابة تأريخنا الطبيعي والبشري بطريقة تستفيد من الرؤية العلمية التي تعتمد على منظور الأنساق المعقدة المتفاعلة مع بعضها في إطار مركّب حيوي واحد . ثمة مؤرّخون خرجوا على سياقات البحث التأريخي في أصول النشأة الأولى الخاصة بكلّ مجتمع وراحوا ينقّبون بجهد وصبر في حكاية الأصول الأولى الخاصة بالبشرية باعتبارها مركّباً بشرياً واحداً شاملاً بصرف النظر عن التباينات العرقية والبيئية المحلية ، ويدعى هذا البحث ( التأريخ الكبير Big History ) – ذلك المبحث الذي أسّسه المؤرّخ (ديفيد كريستشيانDavid Christian) وجعل منه برنامجاً بحثياً حافلاً بشتى الكشوفات المعرفية التي أثارت إعجاب الكثيرين ومنهم (بل غيتس) الذي تبرّع للمشروع بعشرة ملايين دولار على أمل أن يصبح المشروع برنامجاً دراسياً في الثانويات والجامعات الأمريكية بديلاً عن التواريخ التقليدية التي تعلي شأن الوقائع بدل الأفكار .

 

كتب (بِل غيتس) في مدوّنته الألكترونية العالمية عام 2012 التقريظ التالي بشأن فكرة (التأريخ الكبير): فجّر ديفيد كريستشيان عقلي؛ فها نحن أمام إنسانٍ متفكّر قرأ الكثير في الروابط الجامعة بين العلوم والإنسانيات والعلوم الإجتماعية، وربط كلّ مقروءاته في صيغة إطارية بنيوية جامعة، وقد بلغت بي الدهشة حدّ أنني تمنّيتُ دراسة مقررات مدرسية وجامعية في موضوعة (التأريخ الكبير) في أيام شبابي؛ إذ أنّ هذا الأمر كان كفيلاً بجعلي أتفكّر بطريقة أفضل بشأن كلّ عملي المدرسي وقائمة مقروئاتي اللاحقة ومجمل رؤيتي المهنية. إنّ مايفعله (التأريخ الكبير)، بخاصة، هو أن يضع العلوم في سياق تأريخي بالغ الإدهاش يمتلك القدرة على توضيح الكيفية التي يمكن بها تطبيق الأفكار العلمية على الكثير من الجوانب المعاصرة في حياتنا.
إنّ فهم قصة الأصول الأولى للبشرية موضوعة حاسمة في تشكيل صورة المستقبل الذي نتوجّه إليه وترتسم معالمه أمامنا في اللحظة الحاضرة، وستتكفل القراءة الواعية والصبورة لهذا النوع من التواريخ المستحدثة في إحاطة القارئ بنظرة محدّثة وغير مسبوقة ستمكّنه في نهاية الأمر من حيازة قدر أعظم من المعرفة يكفي لتفهّم مكانة الإنسان في هذا الكون من جهة، وإدراك العلاقات المشتبكة بين الإنسان وسائر البشر والموجودات في هذا العالم والكون بعامة .
ديفيد غلبرت كريستشيان David Gilbert Christian مولود عام 1946: مؤرّخ وأستاذ جامعي مختص بالتأريخ الروسي، وقد حاز شهرة عالمية نشأت بسبب تعليمه وتبشيره بمقاربة جديدة للتأريخ العالمي أسماها (التأريخ الكبير Big History).
بدأ ديفيد كريستشيان تدريس البرنامج الدراسي الأول في التأريخ الكبير عام 1989 بمعونة عدد من الأساتذة المتخصصين في مجالات معرفية عديدة من العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية والإنسانيات. يُعرَفُ عن ديفيد كريستشيان بأنه كاتب مُجيد للغاية ويمتلك القدرة في جعل الأشياء المعقدة تبدو أمراً يبعث على المرح والفكاهة والتفكّر المسهب في الوقت ذاته.
ألّف البروفسور كريستشيان عدداً من الكتب، أذكر منها:
– خرائط الزمن: مقدّمة إلى التأريخ الكبير، 2005.
• Maps of Time: An Introduction to Big History, 2005
– التأريخ الكبير: مابين اللاشيء وكلّ شيء، 2014 (بالإشتراك مع سينثيا ستوكس براون وكريغ بنجامين).

•Big History: Between Nothing and Everything , 2014, (co-written by Cynthia Stokes Brown and Craig Benjamin)
– قصّة الأصل: تأريخ كبير لكلّ شيء، 2018
•Origin Story: A Big History of Everything, 2018

أقدّم أدناه ترجمة للمقالة المعنونة (التأريخ الكبير: لِماذا نحتاجُ إلى تعليم ” قصّة الأصل ” الحديثة ؟) التي نشرها ديفيد كريستشيان في الموقع الألكتروني (The Conversation) بتأريخ 7 تشرين الثاني 2012 . أدناه الرابط الألكتروني لهذه المقالة:
تشكّل كلّ المجتمعات البشرية – وتعلّمُ أيضاً – أساطير الخلق أو قصة الأصل Origin Story الخاصة بها، وهذه القصص هي بمثابة حكاياتٍ شاملة وذات سطوة تتجاوز المديات الطبيعية المعهودة؛ لكنّ هذه القصص غالباً ماتتقاطع مع السرديات التي تحاولُ عرض الكيفية الحقيقية التي إنبثق كل شيء بها إلى الكينونة التي صار عليها.
توفّر مثل هذه السرديات خرائط فكرية يمكن أن تساعدنا في موضعة أنفسنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا في هذا العالم فضلاً عن إمدادنا بوسائل القدرة على التفكّر العميق فيه. إنّ موضعة أنفسنا في سياق شيء أكبر من أنفسنا ذاتها لهو أمرٌ خليقٌ بجعل قصص الأصل قادرة على إمدادِنا بالمرتكزات الفكرية والأخلاقياتية.
هذا هو السبب الذي يجعل كلّ التقاليد الروحية تحوز على هذه السرديات الكبيرة في تفاصيلها؛ فنحنُ نشهد مثل تلك السرديات في قلب كلّ من المجتمعات الصغيرة ذات التقاليد الشفاهية مثلما نشهدها في المصنّفات اللاهوتية التي تزخر بها الأديان الكبرى ذات البُنيات المؤسساتية الراسخة.
لعبت حكايات الأصل أيضاً، وبصورة تقليدية، دوراً مركزياً في التعليم لأنها منحت المعرفة شكلاً ومعنى مناسبيْن؛ لكن في أنظمة تعليمنا العلمانية الحديثة نحنُ لانقدّمُ تعليماً بشأن قصّة الأصل، فقد صرنا معتادين على غياب مثل تلك القصص إلى حدّ غدا معه أمراً طبيعياً أن نتعلّم ونُعلّم من دون واحدةٍ من قصص الأصل.


الكاتب : ديفيد كريتسشيان / ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

  

بتاريخ : 05/06/2020