لتسهيل تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ينبغي كذلك إعادة النظر في طريقة إعداد وإدارة سياستنا التنموية
إصلاح أنظمة التقاعد سنة 2016 ليس سوى علاج مؤقت
تميز المحيط الدولي في سنة 2016 بتزايد كبير في حدة الشكوك الناشئة عن تنامي النزعة الشعبوية والحمائية، فضلا عن استمرار التوترات الجيوسياسية. وفي هذا السياق، تباطأ نمو الاقتصاد العالمي إلى 3,1 %، مسجلا بذلك أدنى معدل له منذ أزمة 2009. ويعكس هذا الضعف على الخصوص تباطؤا ملموسا في البلدان المتقدمة، لاسيما الولايات المتحدة وبقدر أقل منطقة الأورو. وفي البلدان الصاعدة الرئيسية، تراجع النشاط الاقتصادي في الصين والهند وخفت حدة انكماشه في روسيا والبرازيل.
وقد كان لتباطؤ النمو تأثير على التجارة العالمية، إذ لم يتجاوز نموها 2,2 %. كما شهدت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة انخفاضا ملحوظا، لاسيما باتجاه البلدان النامية، بعد أن تضاعف نموها في سنة 2015 .
وعلى العكس من ذلك، استمر تحسن وضعية سوق الشغل في البلدان المتقدمة الرئيسية، حيث انخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى النسب المسجلة قبل الأزمة بفضل استمرار المستوى المرتفع لمناصب الشغل المحدثة، وواصل تراجعه في منطقة الأورو وإن كان مستواه على العموم يظل مرتفعا.
وفيما يتعلق بالسلع الأساسية، شهدت هذه السنة انعكاسا لمنحى الأسعار التنازلي، حيث عادت أسعار النفط إلى الارتفاع بعد الاتفاق على خفض الإنتاج المعلن عنه في نونبر، لكن متوسطها خلال السنة يبقى أدنى من المستويات المسجلة في سنة 2015 . وقد ساهم هذا التطور في استقرار التضخم العالمي، بعد أربع سنوات متتالية من الانخفاض، مع تسجيل ارتفاع في البلدان المتقدمة وانخفاض في البلدان الصاعدة والنامية.
في هذا السياق، استمر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في إعادة سياسته النقدية إلى مسارها الطبيعي، حيث رفع من جديد النطاق المستهدف لأسعار الفائدة الرئيسية، في حين عزز البنك المركزي الأوروبي الطابع التيسيري لسياسته، مما أدى إلى تزايد التباين بين توجهاتهما. وعلى الرغم من هذه التطورات، ظلت قيمة الأورو شبه مستقرة أمام الدولار الذي واصل ارتفاعه إزاء عملات البلدان الصاعدة الرئيسية. وبالموازاة مع ذلك، شهدت أسواق الصرف انخفاضا حادا للجنيه الاسترليني ارتباطا بالتصويت بالإيجاب على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
وقد كان لهذا المحيط الخارجي غير المواتي عموما والظروف المناخية القاسية تأثير على الاقتصاد الوطني الذي شهد سنة صعبة على عدة جوانب. فالنمو لم يتجاوز 1,2 %، وهو أدنى معدل له منذ سنة 2000 ، مع تسجيل انكماش حاد في القيمة المضافة الفلاحية واستمرار ضعف القطاعات غير الفلاحية. فقد تباطأ النشاط بشكل ملموس في الصناعات التحويلية وتواصل النمو بوتيرة ضعيفة في قطاع البناء والأشغال العمومية. في المقابل، عرف القطاع الثالثي تحسنا نسبيا، خاصة في الخدمات غير التجارية والتجارة والسياحة. ومن جانب الطلب، كانت مساهمة الصادرات الصافية في النمو سلبية بعد سنتين من المساهمة الإيجابية، في حين سجل الطلب الداخلي ارتفاعا بنسبة 5,5 % مدفوعا بتزايد ملموس في الاستثمار.
وانعكست هذه التطورات على سوق الشغل الذي تدهورت وضعيته بشكل كبير، حيث بلغ العدد الصافي لمناصب الشغل التي فقدها الاقتصاد الوطني 37 ألف منصب، وهي الخسارة الأولى منذ سنة 2011. قد تراجع التشغيل بحدة في القطاع الفلاحي وتحسن بشكل طفيف في قطاعات الخدمات والبناء والأشغال العمومية والصناعة، بما فيها الصناعة التقليدية. في ظل هذه الظروف، انسحبت نسبة مهمة من الساكنة النشيطة من سوق الشغل، مما أدى إلى مزيد من الانخفاض في معدل النشاط. ونتيجة لذلك، تراجعت نسبة البطالة بمقدار 0,3 نقطة مئوية إلى 9,4 %، لكنها واصلت الارتفاع في صفوف الشباب، خاصة في الوسط الحضري حيث إن أكثر من 4 من أصل 10 شبان هم عاطلون عن العمل.
وعلى صعيد التوازنات الماكرو اقتصادية، لم تستمر عملية تصحيح أوضاع الميزانية التي بدأت سنة 2013 وفق الوتيرة التي كانت متوقعة. فقد ظل عجز الميزانية شبه مستقر في نسبة 4,1 % من الناتج الداخلي الإجمالي، بينما استهدف قانون المالية نسبة 3,5 %. ويرجع هذا التجاوز إلى المستوى المرتفع لنسبة تنفيذ نفقات الاستثمار وتسديد مبالغ هامة من تسبيقات الضريبة على القيمة المضافة وتحصيل مبالغ أقل مما كان مبرمجا من هبات البلدان الشريكة في مجلس التعاون الخليجي. غير أنه تم التحكم في كتلة الأجور، إذ تقلصت نسبتها إلى الناتج الداخلي الإجمالي إلى % 10,3 ، بينما ارتفعت نفقات المقاصة بشكل طفيف بعد ثلاث سنوات من الانخفاض.
وفي هذا السياق، واصلت مديونية الخزينة منحاها التصاعدي، لتصل إلى 64,7 % من الناتج الداخلي الإجمالي. وارتفع مكونها الداخلي إلى 50,6 % والخارجي إلى 14,1 % من الناتج الداخلي الإجمالي. وأخذا بعين الاعتبار تزايد الدين الخارجي للمؤسسات والمنشآت العمومية، تفاقم الدين العمومي الإجمالي إلى 81,4 % من الناتج الداخلي الإجمالي.
واتسع كذلك عجز الحساب الجاري من 2,1 % من الناتج الداخلي الإجمالي في 2015 إلى 4,4 % في 2016 ، بعد أن سجل تقلصا مهما منذ 2013 . فقد تفاقم عجز الميزان التجاري بشكل ملموس، نتيجة ارتفاع كبير في الواردات، خصوصا سلع التجهيز، وتباطؤ ملحوظ في الصادرات التي تأثرت بانخفاض أسعار الفوسفاط ومشتقاته.
وعلى العكس من ذلك، أظهرت عائدات السياحة وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج أداء جيدا، مرتفعة بنسبة 5 % و4 % على التوالي، على الرغم من استمرار البطالة في مستويات مرتفعة في بلدان الاستقبال الرئيسية والمخاوف الأمنية في بعض بلدان المنطقة. كما استمر المغرب في جذب تدفقات هامة من الاستثمارات الأجنبية التي بلغت 33 مليار درهم، وإن كانت قد انخفضت مقارنة بسنة 2015 . وفي المجمل، واصلت الاحتياطيات الدولية الصافية نموها لتصل إلى 251,9 مليار درهم في نهاية دجنبر، وهو ما يمكن من تغطية أكثر من 6 أشهر ونصف من واردات السلع والخدمات.
في ظل هذه الظروف وعلى الرغم من الارتفاع القوي لأسعار بعض المنتجات الغذائية الطرية والتراجع الملموس في حدة انخفاض أسعار الوقود، استقر التضخم في نسبة 1,6 % ارتباطا بتراجع التضخم الأساسي.
في ضوء هذه التطورات وفي غياب ضغوط تضخمية، واصل بنك المغرب نهج سياسة نقدية تيسيرية لدعم النشاط الاقتصادي. فقد قام في شهر مارس بخفض سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 25 نقطة أساس إلى 2,25 %، مع مواصلة تنفيذ برنامجه لدعم التمويل البنكي للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة. ومن أجل ضبط السيولة في السوق القائمة بين البنوك التي عرفت تحسنا ملحوظا بفضل ارتفاع احتياطيات الصرف، رفع البنك نسبة الاحتياطي الإلزامي من 2% إلى 4%، مع منح تحفيزات للبنوك التي تبذل مجهودا أكبر فيما يخص منح القروض.
وموازاة مع ذلك، حرص بنك المغرب على انتقال قراراته إلى الاقتصاد الحقيقي من خلال تتبع وثيق لها مع النظام البنكي. وبالفعل، فقد انعكست قراراته على أسعار الفائدة في مختلف الأسواق التي واصلت انخفاضها، لاسيما أسعار الفائدة على القروض التي سجلت تراجعا مهما. وفي هذا السياق، تسارعت وتيرة نمو القروض البنكية الممنوحة للقطاع غير المالي من 0,3 % إلى 3,9 %، مدفوعة بقروض التجهيز المقدمة للمقاولات، سواء العمومية أو الخاصة. لكن القطاع لا يزال يشهد ارتفاعا في محفظة الديون المعلقة الأداء ويزداد تعرضا لمخاطر أسعار الفائدة، الذي تزيد من حدته المنافسة القوية بين البنوك.
ومن أجل دعم انتعاش القروض البنكية التي تأثرت بشدة بضعف الطلب خلال السنوات الأخيرة، قام بنك المغرب في سنة 2016 ، بمعية الجهات المعنية، بتدارس سبل إنعاش الائتمان البنكي. وقد شكلت خلاصات هذه الدراسة موضوع مذكرة تم توجيهها إلى الحكومة تقترح اتخاذ تدابير ملموسة من لدن جميع الأطراف. وتتعلق هذه التدابير على وجه الخصوص بتمكين المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة من الاستفادة من الصفقات
العمومية وتقليص آجال الأداء وإعادة هيكلة المقاولات التي توجد في وضعية صعبة وتحسين عملية اتخاذ القرار بشأن منح القروض بالإضافة إلى تعزيز حكامة المقاولات وقدراتها التدبيرية.
وعلى الرغم من هذه الظرفية، تمكن القطاع البنكي من الحفاظ على مستوى جيد من الأرباح والرأسمال، لاسيما بفضل توسعه في إفريقيا وتنويع أنشطته.
وفي بورصة الدار البيضاء، سجلت الأسهم ارتفاعا كبيرا بنسبة 30,5 %، وهو الأعلى منذ ما يناهز عشر سنوات.
غير أن السوق ظل ضعيف السيولة وبقيت مساهمته في تمويل الاقتصاد محدودة. ومن جهة أخرى، كان اللجوء إلى سوق الدين الخاص ضعيفا، مع تسجيل انخفاض ملحوظ في اقتراضات الشركات غير المالية.
وفي سوق العقار، ارتفع حجم المعاملات بنسبة 8,1 %، بعد تراجع طفيف سنة 2015 . وهم هذا التزايد كافة فئات العقار وجميع المدن الكبرى باستثناء مراكش وطنجة. وبموازاة ذلك، استمرت الأسعار في الارتفاع بوتيرة معتدلة بلغت 0,9 % مقابل 1,2 % في السنة السابقة.
وعلى مستوى التقنين، واصل بنك المغرب الإصلاحات المدرجة في برنامجه الاحترازي للحد من المخاطر التي يتعرض لها القطاع البنكي، وفقا لتوصيات البعثة الأخيرة لبرنامج تقييم الاستقرار المالي، وبالخصوص فيما يتعلق بمخاطر الائتمان والتركز الائتماني.
وعلى صعيد المراقبة الاحترازية الكلية، أطلق بنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية ورشا لملاءمة منظومة تسوية الأزمات البنكية مع المعايير الدولية الصادرة في الفترة ما بعد الأزمة، إلى جانب اشتغاله على إعداد وتنفيذ الأدوات الجديدة التي أوصت بها لجنة بازل. ويهدف هذا الورش إلى تطوير الأطر القانونية والتنظيمية والتعاقدية لضمان معالجة سريعة ومنظمة في حال انهيار بنك من البنوك ذات الأهمية النظامية، مع تقليل اللجوء إلى الأموال العمومية.
وعلاوة على ذلك، كثف البنك جهوده لاستكمال تنفيذ مشروع إطلاق البنوك التشاركية، والتي كللت بمنح أولى التراخيص لخمسة بنوك وثلاث نوافذ تشاركية. وانكب كذلك على إتمام المناشير المتعلقة بوظيفة المطابقة للآراء الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى والخصائص التقنية لمنتجات التمويل التشاركي وودائع الاستثمار. واشتغل بنك المغرب أيضا على إحداث النظام الضريبي الملائم للتمويل التشاركي وإصدار الصكوك ووضع ضمانات خاصة بالتمويل التشاركي متوافقة مع أحكام الشريعة.
وفي مجال الإدماج المالي، حققت المبادرات التي تم اتخاذها خلال السنوات العديدة الماضية بشراكة مع البنوك نتائج هامة، حيث بلغت نسبة تعميم التعامل البنكي 69 %. ورغبة منهما في الاستفادة من هذه الإنجازات، يواصل بنك المغرب ومديرية الخزينة والمالية الخارجية وشركاؤهما تكثيف جهودهم لإتمام وضع استراتيجية وطنية للإدماج المالي.
وفي نفس السياق، ومن أجل تطوير استخدام الأداءات الالكترونية، انكب بنك المغرب، بالتعاون مع الفاعلين المعنيين، على تصميم وتنفيذ حل وطني للأداء المنخفض التكلفة بواسطة الهاتف النقال. وموازاة مع ذلك، يواصل البنك الاشتغال على إتمام تعديل النصوص القانونية المنظمة لوسائل الأداء الكتابية وتعزيز استخدام هذه الأخيرة.
وفي إطار التوجه الذي تنهجه بلادنا في مجال مكافحة تغير المناخ، أطلق البنك، بالتنسيق مع وزارة الاقتصاد والمالية والهيئات الإشرافية الأخرى، مبادرة لإعداد خارطة طريق تحدد مساهمة القطاع المالي في هذا المجال.
ومن جانب آخر، تتواصل الجهود لضمان ملاءمة منظومتنا الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب مع المعايير الدولية. وستخضع هذه المنظومة خلال النصف الأول من سنة 2018 لتقييم من قبل مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي هذا الصدد، تم إنجاز تقييم ذاتي وطني للمخاطر في سنة 2016 ينتظر أن يؤدي إلى إعداد استراتيجية وطنية في هذا المجال. لكن نجاح هذا المشروع يتطلب تعبئة عامة من قبل جميع
الفاعلين المتدخلين على الصعيد الوطني في هذه المنظومة.
وفيما يتعلق بالقطب المالي للدار البيضاء، فقد تمكن من تعزيز مكانته ضمن الأسواق المالية العالمية، بعد سبع سنوات من إنشائه، حيث ارتقى إلى المركز الثلاثين على المستوى العالمي والثالث على صعيد منطقة إفريقيا والشرق الأوسط. غير أن ما تحقق من إنجازات من حيث الجاذبية يظل دون مستوى التطلعات وغير كاف إلى حد كبير، بالنظر للفرص الثمينة التي يوفرها استقرار بلدنا وانفتاحه، خصوصا على القارة الإفريقية. ولتحويل هذا القطب إلى أداة
فعالة لدعم هذا الانفتاح، تم إطلاق مشروع استراتيجي واسع النطاق يمتد لغاية سنة 2025 ويتطلب تحقيقه منح القطب المالي للدار البيضاء وضعا قانونيا مناسبا وموارد بشرية ومالية مناسبة.
بالنظر لمجمل هذه التطورات، يتبين أن 2016 كانت سنة صعبة على العموم، مع تراجع ملموس في النمو والتشغيل وتسجيل تطور غير إيجابي في عجزي الميزانية والحساب الجاري، مما يقود إلى الاستنتاج بأن اقتصادنا ما زال يعاني من نقط ضعف مهمة ويظل عرضة لتقلبات الظرفية الدولية والظروف المناخية.
وهذا المعطى يؤكد كذلك أن دينامية النمو التي انطلقت في بداية العقد الأول من القرن الحالي لا تزال تفقد زخمها، وأنه على الرغم من الإبقاء على الاستثمار في مستوى مرتفع وإطلاق العديد من الاستراتيجيات القطاعية في السنوات الأخيرة واتخاذ جملة من التدابير لتحسين مناخ الأعمال، لم يجد اقتصادنا بعد السبيل الناجع والنموذج التنموي الكفيل بتمكينه من تحقيق معدل نمو أعلى بشكل مستدام. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع حصة الاقتصاد غير المهيكل في الناتج الداخلي الإجمالي، كما تشير إلى ذلك معطيات الاستقصاء الأخير حول القطاع غير المهيكل، يثير تساؤلات حول نجاعة الجهود الرامية لعصرنة النسيج الإنتاجي.
ومما يجعل هذه الوضعية تبعث على قلق أكبر كون المغرب الذي اختار الاندماج في الاقتصاد العالمي، لم يستطع بعد تطوير عرضه التصديري بشكل يمكن من استغلال حقيقي للفرص التي يتيحها هذا الاختيار، باستثناء عدد قليل من القطاعات. وينطوي هذا الوضع على المزيد من المخاطر إزاء الصدمات التي يواجهها بلدنا. ومن أجل مواجهة هذه التحديات، لا بد من اعتماد جيل جديد من الإصلاحات من شأنها تعزيز قدرة الاقتصاد على الصمود في بيئة دولية غير مستقرة.
وينبغي أن يكون من أولويات هذه الإصلاحات تحسين الإنتاجية، التي تعد المحدد الرئيسي لمسار النمو على المدى الطويل. وفي هذا الصدد، يشكل التحول الرقمي، الذي غالبا ما يُعتبر الثورة الصناعية الرابعة، حافزا رئيسيا لزيادة القدرة التنافسية وتسريع وتيرة النمو. ويتعين على السلطات اغتنام الفرص التي يتيحها هذا التحول من خلال مواكبة الفاعلين الاقتصاديين والمواطنين في إطار استراتيجية رقمية، مما سيمكن من ردم الهوة مع البلدان الأكثر تقدما في هذا المجال.
وفي إطار هذا الجيل الجديد من الإصلاحات، يأتي قرار المغرب اعتماد نظام صرف مرن. وسيمكن هذا الانتقال من تعزيز قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات الخارجية والحفاظ على قدرته التنافسية. ومن الأمور التي تيسر تنفيذه تحقيق عدد من المتطلبات الأساسية المسبقة، لاسيما تحسين التوازنات الماكرو اقتصادية والتحكم في التضخم وقوة النظام البنكي ومتانته والتوفر على مستوى كاف من احتياطيات الصرف.
وفي هذا الصدد، تم وضع خارطة طريق مبنية على مقاربة تدريجية وتم إحراز تقدم كبير في تنفيذها. وإدراكا منه لأهمية انخراط كافة الأطراف المعنية من أجل إنجاح هذا الإصلاح، قام بنك المغرب وشركاؤه بوضع وتنفيذ استراتيجية للتواصل لإرشاد وتحسيس الفاعلين الاقتصاديين والقطاع المالي والأوساط الأكاديمية وباقي الأطراف المعنية.
وإجمالا، يمكن القول إن الظروف مواتية نسبيا لهذا التحول الهام لكنه لا يخلو من المخاطر. فنجاحه يبقى رهينا بالحفاظ على المتطلبات الأساسية، خاصة الانضباط المالي والتوفر على مستوى كاف من احتياطيات الصرف، فضلا عن استمرار تعبئة جميع الأطراف المعنية.
إن اقتصادنا الوطني، إلى جانب ضعف قدرته على الصمود، لم يحقق بعد القدر الكافي من النمو الشامل للجميع.
فقد شهدت وضعية سوق الشغل في السنوات الأخيرة انخفاضا مستمرا في معدل النشاط ومستويات مرتفعة من البطالة. ويدفع اليأس من الاندماج في سوق الشغل بجزء من الشباب إلى الإقصاء الذاتي، حيث إن أكثر من ربع الشباب اليوم لا يوجدون لا في وضعية تشغيل ولا تمدرس ولا تكوين. وبشكل خاص، فإن غالبية النساء غير نشيطات، لاسيما في المدن حيث تصل نسبة النساء غير النشيطات إلى أكثر من 80 %. وتعكس هذه التطورات عجز الاقتصاد عن جني ثمار التحول الديموغرافي للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويظل تحقيق تحسن مستدام في وضعية الشغل رهينا في المقام الأول بتسريع وتيرة النمو وبقدرة منظومة التربية والتكوين على الاستجابة لاحتياجات الاقتصاد بالشكل الكافي. فهذه المنظومة لا تعاني فقط من ضعف الأداء والجودة، ولكن أيضا، وكما يتضح من بعض التقييمات الوطنية والدولية، من مستوى مرتفع من التفاوت يعد من بين الأعلى في العالم.
وإذا استمر هذا الوضع، فإنه سيؤدي حتما إلى استفحال الفوارق الاجتماعية الكبيرة أصلا، كما أبرز ذلك جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2014. وغالبا ما يتم إغفال هذه الفوارق عند إعداد السياسات العمومية، بينما تشكل في الواقع عائقا أمام النمو على المدى الطويل فضلا عن عواقبها السلبية من حيث التماسك والاستقرار الاجتماعي.
ويفرض إصلاح منظومة التربية والتكوين نفسه على رأس قائمة الأولويات بالنسبة لبلادنا. في هذا الصدد، فإن نجاح الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية التي تم تقديمها أمام جلالة الملك لا يستوجب فقط انخراط كافة المتدخلين والمعنيين، من قطاعات وزارية وأطر تربوية ونقابات ومجتمع مدني، ولكن يتطلب أيضا وضع ميثاق وطني حقيقي يعمل على إرساء السلم والتآزر بين مختلف الفاعلين من أجل تهيئة أفضل الفرص الممكنة لإنجاح هذه الرؤية وتنزيلها كاملة في أقرب الآجال. وتحقيق ذلك من شأنه أن يعيد إلى المدرسة دورها في تكوين الرأسمال البشري ووظيفتها كآلية للارتقاء الاجتماعي ضامنة لتكافؤ الفرص.
ويتطلب تعزيز الطابع الشمولي للنمو كذلك نهج سياسات ملائمة لإعادة توزيع الثروة الوطنية. وفي هذا الإطار، ينبغي مواصلة الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة والرامية إلى وضع العديد من البرامج الاجتماعية. ولضمان استدامة هذه الأخيرة، فمن الضروري تحسين حكامتها وإخضاعها لتقييم منتظم. وعلى وجه الخصوص، ينبغي أن يكون توسيع قاعدة المستفيدين مشروطا بتوفر الموارد والتمويلات الكافية حتى لا تفقد هذه البرامج مصداقيتها.. ومن شأن وضع منظومة لاستهداف الشرائح السكانية الأشد فقرا أن يسهم في ذلك بشكل كبير.
كما أنه سيمكن من استكمال إصلاح نظام المقاصة، الذي يستفيد منه اليوم الأغنياء بشكل أكبر، كما تؤكد ذلك كل الدراسات.
ومن شأن إتمام الورش الهيكلي للجهوية المتقدمة أن يساعد أيضا في التخفيف من حدة التفاوتات بين المجالات الترابية. فبعد إجراء أول انتخابات محلية وإرساء أجهزة الحكامة المحلية، يبقى التحدي اليوم هو تحويل الجماعة الترابية إلى قطب اقتصادي حقيقي. ويتطلب هذا الأمر إيلاء الأولوية لتعزيز قدراتها لتمكينها من صياغة وتنفيذ سياسات واقعية تلائم سياقها. وفي الجانب المالي، ينبغي الاستمرار تدريجيا في تدعيم اللامركزية في مجال الميزانية مع الحرص على مواكبتها بتنمية الموارد المحلية من أجل الحد من تأثير ذلك على المالية العامة للدولة.
وبالنظر إلى الضعف المستمر للنشاط الاقتصادي، تواجه السياسة المالية اليوم معضلة تتمثل في ضرورة الاختيار الصعب بين نهج سياسة توسعية لدعم النمو أو اعتماد سياسة تقشفية للحفاظ على الاستدامة المالية. ومن أجل التوفيق بين هذين الهدفين، هناك هامش كبير يمكن استغلاله يتمثل في تحسين جودة النفقات ونجاعتها. وعلى وجه الخصوص، ينبغي مواصلة المجهود الاستثماري العمومي، مع توجيهه على نحو أفضل بكثير لتعزيز دوره كرافعة وتحسين تأثيره على الاستثمار الخاص والنمو.
وعلاوة على ذلك، ينبغي إيلاء اهتمام خاص بالوضعية المالية لبعض المؤسسات والمنشآت العمومية التي تعاني من مستوى مرتفع للمديونية يستدعي تصحيح ماليتها وتعزيز حكامتها. ومن شأن اعتماد مشروع القانون الذي وضع في هذا الصدد وتنفيذه الفعلي أن يسهم في تحقيق هذه الأهداف وتحسين أداء هذه المؤسسات.
وفيما يتعلق بأنظمة التقاعد، يشكل إصلاح سنة 2016 بكل تأكيد خطوة هامة إلى الأمام، لكنه ليس سوى علاج مؤقت، وبالتالي يظل غير كاف. فتسارع وتيرة تقاعد الموظفين في القطاع العام وتحسن متوسط أمد الحياة ما زالا يمارسان ضغوطا متزايدة على الاستدامة المالية لهذه الصناديق. لذلك، بات من الضروري الانتقال إلى المراحل التالية للإصلاح لضمان استمرارية أنظمة التقاعد.
وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي على السلطات استكمال مختلف الأوراش الجارية الرامية إلى تحسين مناخ الأعمال.
ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بتفعيل الآليات الكفيلة بضمان المنافسة الحرة والنزيهة، ومواصلة وتعزيز مكافحة الفساد، والتعجيل بتنفيذ إصلاح العدالة.
وأخيرا، ولتسهيل تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي، ينبغي كذلك إعادة النظر في طريقة إعداد وإدارة سياستنا التنموية. وفي هذا الصدد، سيكون من المناسب اعتماد مقاربة شاملة ومتسقة لصياغة السياسات العمومية وإنشاء منظومة للتتبع والتقييم. ولذلك، اقترحنا وضع إطار للتخطيط الاستراتيجي يمكن من تحديد رؤية طويلة الأجل وترتيب أولويات للأهداف والموارد.
إن بلادنا تحت قيادتكم تحظى بوضع متميز كواحة للسلم والاستقرار وفاعل رئيسي في مكافحة الارهاب وتغير المناخ. وإن الإجماع الذي واكب عودة المغرب للاتحاد الافريقي، وتجديد اتفاق خط الوقاية والسيولة مع صندوق النقد الدولي، وإبقاء وكالات التصنيف الدولية على تقييم إيجابي لآفاقه الاقتصادية، واستقطابه لتدفقات هامة من الاستثمارات الأجنبية، كلها دليل على الثقة التي يتمتع بها على الساحة الدولية.
ويتطلب تحويل المكاسب التي تنطوي عليها هذه الثقة إلى نتائج ملموسة تعبئة جميع قوى البلاد. وتحقيقا لذلك، ينبغي على السلطات توضيح الرؤية بشأن قراراتها وتحسين الحكامة على الصعيدين المحلي والوطني. كما يتعين على المقاولات إيلاء قدر أكبر من الأهمية لمسؤوليتها الاجتماعية والمواطنة في معايير قراراتها بغية تحقيق مردودية أفضل. ومن جهتهم، فإن الشركاء الاجتماعيين مدعوون لاتخاذ مقاربة بناءة على نحو أكبر مع رفع مطالب مشروعة ومعقولة.
وهذه الشروط وحدها الكفيلة بتمكين بلدنا من تسريع وتيرة التنمية وتعزيز النمو الشامل للجميع، مما سيتيح تحسين مستوى معيشة كافة سكانه وضمان رفاهية شبابه.