التكنيك السردي

 

لا بد أن يكون للسرد تقنية تفوق ما يتخيله الإنسان، بل إن كل ما يلاحظه وما يصادفه بات قابلا لأنْ يتحول إلى عمل أدبي. فالأدب، كدفقة شعورية، يلازمنا كالظل الحرون، ولا نبرح دائرته أبدا مهما حاولنا تجنبه أو القفز عنه. فبات من الواضح جدا ، أن العيش هو فتنة المحكي في الأقاصي، ومن ثم يخالجني سؤال يبدو غريبا شيئا ما: لو كان لكل امرئ، في هذا الحياة ، طاقة مبدعة بالكتابة ، فكيف سيصير هذا الوجود ؟ أيمكننا ، وقتئذ ، أن نقول إن الحياة تغمرها « الأدبية « ؟
في نشاط ثقافي ـ ترفيهي لإحدى الجمعيات بالمدينة استدعيت للحضور، فمن بين الأمكنة التي تروقني دائما المقاعد الخلفية، لأنني أستحضر وقتها نظرية الرؤى لجون بول سارتر وكلود إدموند مانييه . فكلما كنت في الخلف، فإنك تتلصص على كل حركة مشاكسة مهما كانت شاردة ، أو صغيرة . فالإحساس بنشوة الحرية، وأنت تراقب الحضور من خلف، يدفعك إلى تأويل الأحداث والسلوكات، ومن ثم تأخذ حكما قاطعا على كل ما يمور في باحة العرض .
إن أخذ المكان في الأقصى قد يتحول، مع مرور الزمن، إلى نرجسية عمياء ، بما هي حب الذات من تملك الفضاء بما فيه، علاوة على ذلك تصبح كل الحركات و الهمهمات رسائل أنت معني بها ، بل مشارك في تفسيرها وتأويلها، وإبداء الرأي فيها ، وكل هذه العمليات المعقدة تطرأ في غفلة منك .
فالرؤى في السرد تنهض على ثلاثة أنواع ، وهي : الرؤية من خلف، والرؤية المصاحبة ، والرؤية من خارج . إن المزية من وراء هذه الرؤى، لا تكمن فقط في إغناء التكنيك السردي فحسب ، وإنما تكمن في السطو الممنهج، الذي يمارسه الكاتب على شخصياته . فعندما يكون الكاتب أقل دراية من شخصيات الحكي أو في المستوى نفسه و الشخصية التي تدفع بعجلة الحكي إلى الأمام ، فإن الكاتب يمارس عمل المخبر الذي يتظاهر بالبلادة من أجل أن يبلغ حقيقة الجريمة، فساحة الجريمة هي النص الأدبي.
بيْد أن جل النصوص السردية في تاريخ الآداب، تتعلق جامدة بالرؤية من خلف، وهذا ضرب من النرجسية العمياء . فكل خيوط السرد لا تبرح أنامل الكاتب، فيقدم العمل كالخبير بدواخل و تشعبات العملية الإبداعية. فمن بين أشهر الروائيين ، الذين افتتنوا بهذه الرؤية ، في الأدب الإنساني ، نجد : أونغي دو بالزاك و غوستاف فلوبير ، من خلال روائعهم ، التي أغنت الأدب العالمي ؛ « الأب غوريو « و « مدام بوفاري « . أما رائد هذه الرؤية في الأدب العربي نجد : سارد حارات القاهرة ؛ نجيب محفوظ ، في « اللص و الكلاب « ، وانتقام سعيد مهران من رفاق الأمس ، بينما نجد عبد الرحمان منيف في « مدن ملح» ، مثــَّـل هذه الرؤية عندما غادر متعب الهذال وادي العيون، ولا أحد يعلم سبب المغادرة إلا السارد .
إن التكنيك السردي يتخطى لعبة الحبكة السردية، التي تجعل من الأدبية وعاءً شاملا للتخييل ، فتزيفتان تودروف أكد أن التعارض قائم بين الرؤى السردية الثلاث، مادام استحالة حجْب دور السارد في سدى النص الإبداعي. إن الرغبات التي أفصحت عنها إيما بوفاري ، وهي تتلقى خبر الولد الوسيم، الذي التحق بالفصل لأول مرة لم تـَحجب، عند لحظات البوح ، صوت السارد .
ومن زاوية أخرى ما كان لتودروف إلا أن يقر أن الرؤية من خلف ذات طبيعة ذكورية أو متمثلة ضمن تكنيك عمود القصيدة العربية ؛ لأن الشعراء الجاهليين أكدوا ، وبالملموس ، أن العمود هو رمز الفحولة و الذكورة ، فلا مجال إذن لأنثوية القصيدة ، التي جاءت بها نازك الملائكة . فكما عمود الفحولة كما الرؤية من خلف يستطيع السارد أن يحرك خيوط الحكي ، وفق رغبات جامحة يطأ الأحداث ، ويودع فيها بصمته الدالة على مروره . فمعرفة الدواخل والخوارج والشواغل وما يعتري الشخصيات من فرح وأمل وألم لهو أكبر دليل على أن السارد يطأ الحكي، ويـُودِع فيه ماءه الدافق ، الذي أخرجه من بين صلبه وترائبه . بالموازاة مع ذلك ، فكل العناصر الأخرى المشكلة للعملية الإبداعية ؛ من أفضية وأزمنة وأحداث ووصف كلها منشورة على حبل الرؤية السردية ، التي اختارها السارد .
لم تأت البنيوية مع رولان بارث و كلود سيمون، كي تزين فسيفساء المناهج التي تدرس الأدب فقط ، بل سعت إلى إحكام الغلق و الانغلاق على النص . فإذا كانت ـ أي البنيوية ـ تنظر إلى هذا الأخير من زاوية أنه حلبة صراع ، لا يمكن الزيغ عنها إلا إذا كنتَ منهزما ، فإن الرؤية من خلف ، من داخل هذا المنهج، اهتم بها الرمزيون بشكل كبير في الشعر أكثر من غيرهم . فمع بودلير وستيفان ملارميه ، في قصائدهم ، نجد أنهما استحضرا معا الرؤية من خلف، التي تبوصل خطابهم الشعري . ففي قصيدة « الغريب « يعرف بودلير أن الإنسان لغز ، وإن كانت له أصول تجيء عبر دفء الأسرة .
في ذات الاتجاه تتوج رحلة القبض على الرؤية السردية، كتكنيك الحكي، من خلال تدخلات المؤلف في مصير الشخصيات، وهو ما فعله جورج بلين في السرد عند ستاندال ، الذي كان متجها نحو الواقعية الذاتية .
فالتكنيك السردي جهاز يعتمل من داخل الحكي، بهدف التحكم أكثر في تقنيات السرد ، إلى جوار عوامل أخرى تنضاف كرؤية العالم ، التي ينظر بها الكاتب أو الشاعر إلى عالمه الخاص، وإن كانت مندغمة بالأيديولوجيا ، التي هي أصل الإبداع . فكثير من الباحثين والدارسين طرحوا أسئلة من قبيل : هل يمكن للشاعر أو الكاتب أن يبدع بمعزل عن دوافع ، تفرزها تلك الدفقة الشعورية، والتي تحفز المبدع على الإبداع ؟


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 03/02/2023