التناص وأشكاله، والبعد الاجتماعي في رواية «أتربة على أشجار الصبار» لعبد الواحد كفيح

أولا: التناص:

يعد شكلوفسكي من الأوائل الذين أشاروا للتناص، إذ يرى أن إبداع النص يدرك من خلال معارضة نص آخر، ليأتي بعده باختين ويضع عوالم التناص تحت ما سماه باسم الحوارية؛ أي أن الخطاب من منظوره يدخل في علاقة مع خطابات سابقة عن قصد أو غير قصد ويقيم معها حوارا، ولكن التناص كمصطلح تبلور على أيدي الحسناء جوليا كريستيفا من خلال عمليتها السميائية في كتاباتها المتنوعة للمرة الأولى التي كتبت بين سنتي 1966/1967، وأعيد نشرها في كتابيها سميوتيك، ونص الرواية،وكتابها علم النص.
هذا فيما يخص السياق التاريخي وباكورة ظهور التناص، فما هي أشكال التناص في رواية أتربة على أشجار الصبار؟

• التناص في رواية أتربة على أشجار الصبار:
تكشف لنا الرواية كثيرا من النصوص التي تم تذويبها في لغة جديدة حافظ الروائي عبد الواحد كفيح على هويتها، في حين ذاب الآخر في أسلوب الحكي السائد في الرواية، ومن أكثر التناصات المتضمنة في الرواية:
أـ التناص مع النص الديني:
لقد وظف الروائي نصوصا دينية انصهرت مع الحكي حتى يتوهم عند قراءتها للوهلة الأولى أنها تنهل من استعمال لغة السرد؛ وهو ما ينم عن حضور للدّين في ثقافة الكاتب سمياء على محمول في الذاكرة محفوظ لا يمكن التخلص منه ،وهذا التناص مع النص الديني قائم على نوعين :
✓ تحويل التطابق:
وهو نقل نص من سياق إلى آخر مع الحفاظ على نظامه التركيبي ووحداته المعجمية، أي إعادة إنتاجه إلى درجة أننا لا نجد فرقا بينه وبين النص الأصلي باستثناء حذف العزيزتين، مما يجعل النص الأصلي جزءا من بنية الكلام في النص الروائي، ومن أمثلته في الرواية قوله» إلى تماسيح أو طيور عملاقة بلا ملامح أو قردة خاسئين»، فالشاهد قوله قردة خاسئين اقتبسها من قول العزيز «كونوا قردة خاسئين» البقرة، الآية 65.
والمثال الآخر ساقه عند حديثه عن الطاعون ومخلفاته على دوار مريم «تركها خاوية على عروشها تنعب فيها البوم والغربان»، ففي قوله تناص مع قوله تعالى في سورة البقرة كذلك الآية 259» أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها».

✓ تحويل التصرف :
أما النوع الثاني من التناص مع النص الديني ما يسمى بتحويل التصرف؛ الذي يجوِّز الروائي لنفسه التصرف في النص الأصلي بالاستغناء على بعض كلمه أو جمله أو استبدالها بأخرى، أو حذفها من السياق، وسنكتفي بمثالين لهذا النوع؛ أولهما قوله» بولّي صالح يمشي بين الناس يأكل ويشرب ويتجول في الأسواق» ص12، الذي يتناص مع قوله تعالى «مالي هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أن أنزل عليه ملك فيكون معه نذير» الفرقان/ الآية 7، أما المثال الثاني قوله في ص36» حاشا لله ما هذا بشرا إن هو إلا شيطان رجيم» المأخوذ من قوله عز وجل «حاشا لله ما هذا بشرا إن هو إلا ملك كريم» يوسف، الآية 13.
ب: التناص مع الأجناس الأدبية:
وبما أن الرواية حقل ينفتح على نصوص وأجناس أدبية، فإن الرواية قيد الدراسة فتحت أبوابها على عدد كبير من النصوص، ومن التناصات التي تصب في هذا اللون نجد التناص الأسطوري، والتناص مع الأمثال والحكم، والتناص مع القصص الدينية، والتناص مع الشعر، وبهذا نقول إن رواية أتربة على أشجار الصبار فضاء منفتح قابل للتفاعل مع أجناس متباينة. نبدأ ب:
• التناص مع القصص الدينية:
نورد في هذا السياق قصة الشرقاوي الخادم مع سيدته الصالحة التي راودته عن نفسه فاستعصم ل»يركع على ركبتيه سائلا ربه أن يجعل له مخرجا يرزقه من حيث لا يحتسب وينجيه من ورطته» ص 187، فقصة الشرقاوي تضارع قصة يوسف عليه السلام عندما همت به زوجة العزيزـ يمكن الرجوع لقصة يوسف مع زليخة ـ.

✓ التناص الأسطوري:
نعني بالتناص الأسطوري استحضار الروائي بعض الأساطير القديمة في عمله، فعبد الواحد كفيح استحضر أسطورة في روايته قيد الاشتغال نجدها في محراب تاريخ العرب، يقول: «رأى على بعد مسافات بعيدة، أسراب طيور جارحة من نسور وعقبان وغربان كالغيوم السوداء تجلل قبة السماء» ص 23، إذا ما عدنا قليلا إلى تاريخ العرب في العصر الجاهلي ويحثنا في جعب أساطيره نجد أسطورة عرفت بحدة نظرها تسمى زرقاء اليمامة التي كانت ترى على بعد ثلاثة أيام من السير، وقصتها أوردها الشاعر الجاهلي النابغة في معلقته، يقول:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت**إلى حمام شراع وارد الثمد.

✓ التناص مع الأمثال والحكم.
أورد الروائي قولا شهيرا لسيبويه في مسألة حتى التي قال فيها شيخ البصرة أموت وفي نفسي شيء من حتى، إذ يقول كفيح» وفي قلوبهم شيء من حتى» ص36.

ثانيا: البعد الاجتماعي وتجلياته في رواية أتربة على أشجار الصبار
تعتبر الرواية ظاهرةَسوسيولوجيةَ بل هي مرآة يتخذها الروائي لمحاكاة واقع يعيشه المجتمع، فهي نتاج لذلك الزخم والتراكم الاجتماعي الذي يعيشه الروائي كما في الخبز الحافي مثلا، أو تعيشه إحدى شخصياته كما في محاولة عيش لمحمد زفزاف، أو واقع تعيشه أسرة أو فرد منها كما في الرواية قيد الدراسة، فأين يتجلى البعد الاجتماعي فيها؟
إن القارئ لرواية أتربة على أشجار الصبار يلحظ جليا أنها قائمة على ثنائيات تقيم جسورا متباينة؛ كثنائية الفقر في مقابله الغنى وثنائية الحب والكراهية وثناية الخيانة والوفاء.
✓ ثنائية الفقر والغنى:
يعد الفقر مدار أحداث الرواية، بل هو الخيط الناظم بين التيمات الاجتماعية المبثوثة في ثناياها، ولعل ذلك يصادفنا في أول صفحة « إنه راع من الرعاة» ص7، فكلمة راع حمالة لحمولة ثقافية متعلقة بالفقر، وفي مقابله نجد الغنى ملازما له. لذلك أدرجنا هذه الثنائية في طليعة هذه الثنائيات.
يصور الروائي مظاهر الفقر على شخوصه يبين تجلياته عليها»وكل ما استطاعوا حمله على الأكتاف قِرب ماء بالية من جلد ماعز وأكياس تكاد تكون فارغة إلا من بعض كسرات خبز يابسة، وحبات حمص مملح» ص49.
وعند حديثه عن سكان الصفيح الذين هاجروا إلى المدينة التي تنخرهم وتبسط قسوتها عليهم وتقدم لهم الفقر عربونا على كرهها لهم» ازدحموا وتساكنوا، وتكاثروا، فكثرت مشاكلهم.. يظلون النهار كله، ويبيتون الليل جله، يكدون في ظروف قاسية، مطاردين الرزق في حجوره الأشد قسوة وظلمة وظلما»ص97. ويقول في موضوع آخر يصور حال الفقراء» يحملون الفقر المدقع على أكتافهم» ص100.
وينقلنا الروائي إلى تمظهرات الفقر على إحدى شخصيات الرواية، تلك المرأة التي ساعدتها ميلودة التقشيرة على تخطي ظلام الولادة «فجلبت للنفساء آنذاك، حليبا دافئا ورغيفا طازجا بعدما علمت أنها فقيرة معدمة تعيش هي وزوجتها تحت عتبة الفقر» ص171
ويرصد لنا في موضع آخر الفقر وتجلياته ومخلفاته على علال زوج هنية، الخادم الصديق للحاج حمادي «ما الذي يرغب في إفراغه من هذا الصدر العاري الضامر، الذي دبغته سنوات الفقر ورعي الغنم، وما قساه أثناء حروبه الدائمة مع كل فصائل الذئاب»ص239/240.
وهناك صور أخرى للفقر في الرواية، بيد أن أبشع صورة تلك التي تعيشها ميلودة التقشيرة المتجاوزة درج الستين التي اتخذت من عالم الزبالة محيطا تبحر فيه، تغرس مخالبها في المقامة ككاسر ينقض على فريسته، وسرعتها في التنقيب فاقت جهاز جي إم تي» أصبحت تبعثر الأزبال بحنكة ودربة فاقت النباشين، بل أصبحت تسبق عمال النظافة إلى قمامات قبل حملها ونقلها» ص153. وكذلك العشة التي بنتها واتخذتها بيتا يأويها من زحف أيدي اللصوص ولسعات البرد وحر الهجير.
في مقابل هذه الفئة التي تعيش الويلات، والتي نخر الفقر أجسادها راسما تجاعيد المعاناة عليها تاركا أطلالا سقيمة على أساريرهم، نجد فئة تنعم في الرفاه وتعيش البذخ والترف على حساب هؤلاء الفقراء، تكتنز الأموال… ونستقي من الرواية نصوصا تصور الغنى» أقام على غير العادة، مأدبة على شرف عليّة القوم.. أكلوا ما لذ من الطعام وطاب، واحتسوا ما ألذ ما في الشراب» ص31، إذ يعرض الروائي شخص بوعزة الذي تسلق درج الغنى بعد ما كان راعٍ، فجنى الكنوز والأموال وأضحى ذا جاه وسلطة وسعة وشرف»فيدفق في عبه ـ يقصد بوعزة ـ المال الوفير، وبذلك أصبح له زيادة على الحكمة والسمعة، نفوذ وسلطة وجاه» ص20.
ينتقل الروائي إلى بيان ملامح الغنى على شخصية عيسى الروبيو الذي يعد من أرقى رجال المدينة، ليتجذر اسمه بين دواليب السلطة فله مال وسلطة، وأما زوجته فيكفينا القول إنها زارت الحرم الشريف مرات عدة، والعطايا التي قدمتها للفكيكي وأمه الميلودية.
✓ ثنائية الخيانة والوفاء:
ضمت الرواية مشاهد لثنائية الخيانة والوفاء في مواطن عدة، فالخيانة التي تعد فعلا شنيعا ونتاجها خبيث، لأن ممارستها لا تكون إلا في جنح الظلام والعتمة والاختفاء عن الأنظار، إذ نجد الروائي كفيح ساق أحداثا تظهر للقارئ الجانب الغادر البغيض المتحكم في تصرفات الإنسان، فيهوي به في هوة سحيقة» اكتشفوا صدفة ـ يقصد أعين بوعزة ـ أن الشيخ بقده، وقامته.. وسلطته الدينية يخرج ليلا مترجلا، إلى بيت بعيد.. فعلموا أنه على علاقة بسيدة لعوب يزورها بعد حلول الظلام» ص 67. وها هو الورع، مدعي النبوءة، ولي من أولياء الله الصالحين بوعزة وقع في حبل متاهة الخيانة «كان يتسلل كل جمعة تحت جنح الظلام، لاقتحام خلوة خليلته.. وتعود إلى فراشها تتجرع غصة الخيانة الاضطرارية» ص68.
لم تقتصر الخيانة على الشيخ وبوعزة بل وصلت أوصال حبلها محمد الفكيكي مع الخابية الخادمة في شبابيك السينما» فاعتادت أن تهاجمه وتجره إلى الأعلى…» ص18.
لقد اعتاد الفكيكي ارتداء ثوب الخيانة والغوص في سبر أغوار المجون، إذ رمى بيد سيده رمية متثاقل ناسجا عالما تحفه معالم الشهوة والانصياع لملذات الحياة مع زوجة عيسى الروبيو السعدية أو سعاد التي أقدمت على خيانة زوجها أكثر من مرة»فاستطاعت الإقامة بين أحضانه ولم تبلغ عنه عوجا» ص284.
وكذلك السر الذي احتفظت به لسنوات تقدم على البوح به لميلودةالتقشيرة المتمثل في أن أحد أبنائها تشك بأنه ابن عيسى الروبيو.
في مقابل الخيانة نجد الوفاء، فبينما كان محمد الفكيكي ينعم مع الخابية في عالم الخلاعة تحت وطأة الخيانة وهتك رباط الوفاء والحشمة التي عزمت يزة الاعتصام والتحلي به، نجد أمه العجوز تصون عرض زوجته من نظرات المارين «تلتفت إلى كنتها تدعوها آمرة، أن تغطي وجهها اتقاء نظرات الأغراب العابرين الذين كانوا يلتفتون مسددين لها نظرات تعجب فاضحة فاحشة» ص86.
✓ ثنائية الخنوع والانتفاضة:
لقد أبانت الرواية الجانب الضعيف في بعض شخوصها لعدم قدرتها على مجابهة الجور والواقع، أو الدفاع عن حقوقها أو الاستسلام النابع عن الفشل، ونجد أحداثا ثار فيها الخانع بمجرد خطاب تحفيزي أو إثارة شرارة الانتفاضة على بعض تلكم الجوانب التي تكشف خنوع الشخصيات في الرواية.
تستفهم الخابية محمدا عن سبب ترك الرِعاع يأخذون ماله ويشتتون سلعته وهو خانع مستكن. فيجيبها ذلك الإنسان المسالم الودود أنه لا يريد معاملة هؤلاء الشرذمة بالمثل، تقول له: «إذا ما بقيت على هذه الحال من الذل والمهانة فسي…»ص 120، يترك لنا الراوي مجالا لتأويل الحذفالذيربما قصدت به الخابية اغتصاب محمد، الشيء الذي أثار حفيظته وأيقظ في نفسه ذلك الثور الهائج الذي أخمدت شروره لسنوات طوال. وهناك صورة أخرى للخنوع المتمثلة في شخص الحاج المكي الذي انتشر خبر خيانة زوجته له فأضحى ذليلا جاسر الرأس في الأسواق على حد تعبير الروائي.
في مقابل الخنوع نجد الانتفاضة، إذ سأكتفي بذكر انتفاضتين بارزتين في الرواية هما:
✓ انتفاضة محمد الفكيكي في وجه منحرفي المدينة الذي ألحق بهم هزيمة نكراء في مشهد هوليودي يمهد ولادة زعيم جديد لساحة سينما كاليبسو.
✓ انتفاضة الميلوديةالتقشيرة التي ثارت في وجه السلطة بأعوانها دفاعا عن تجار الأرصفة مدونة بماء من ذهب مظاهرة لم تشهدها المدينة من قبل، لتجعل لنفسها رمزا للمقاومة والانتفاضة فحظيت باحترام التجار وثقتهم، ومن هذه الحادثة اكتسبت لقبها التقشيرة.
إن عبد الواحد كفيح في روايته أتربة على أشجار الصبار تطرق إلى قضايا اجتماعية لا تقل أهمية عن الثنائيات السابقة، هذه القضايا وليدة التهجير القصري الذي قاسته عائلة الفكيكي، فيكتب على جبين العائلة معاناة في المدينة الذي سميته بالغربة والضياع في المدينة وكذا الاستغلال والجهل.
✓ الغربة والضياع في المدينة.
كل بدوي يجد نفسه غريبا عن موطنه وقريته، فهو مرأى قاس لمخالب المدينة وبطشها وبسط معالم الفقر على وافديها، تلفظهم إلى بواطن شوارعها طرحى مشردين، ولعل ما يزكي قولنا نعت الروائي المدينة التي أقبلت عليها عائلة الفكيكي بالمدينة الغول «تستظل عائلة الفكيكي بالعراء والهواء وتفترش أزقتها وتكابد مرارة الجرح ووحشة الغربة القاسية» ص85.
أما الفكيكي فأراد أن يكتشف عالم المدينة الغريب بحثا عن قوت يومه وإسكات قرقرة أمعائه «هناك اكتشف عالما آخر، اكتشف عالم غريبا من الدور والمباني العصرية، وغيرها من الأشياء العجيبة» ص86.
ومن تجليات الغربة في المدينة ما يظهر في خطاب الميلودية لابنها « إني رأيت هذه المدينة قاسية بلا قلب، فاستبدل قلبك بقلب فيل أيها الحلوف «ص 92، رغم هذا الخطاب الحاوي للتفاؤل، والداعي لإقبار شراسة المدينة وتخطي غربتها التي زرعت خيبة أمل في قلبه تعيش الميلوديةالتقشيرة حالة اغتراب وضياع وتوتر، فهي تخفي بحرا من العبر والدمع «لأن هذا العالم فعلا شكلّ لها شبكة عنكبوتية لا تعرف لها مدخلا ولا مخرجا» ص93. فضلت متوجسة من هزيمة ذلك البدوي أمام شبح المدينة الغول وتعود أدراجها إلى مكان لفظها دون رحمة «يبدو أنك تتوقع الهزيمة، وتتأهب للخسارة في معركة لم تخضها بعد لأن تبتلعنا المدينة ونتيه فيها ونضيع خير من أن نعض على ذيلنا ونعود القهقرى أيها الجبان» ص102.
لم يتجرع محمد الفكيكي مرارة الغربة لوحده بل طالت أمه، فعندما أرادت أن تشمر على سواعد الجد والسعي بحثا عن لقمة عيش تنجيها من معركة حامية الوطيس في بطنها وبطن كنتها يزة، فعندما هجرت عالم الزبالة تصبو إلى عمل جديد وجدت نفسها «كالكلبة الضالة في ميناء المدينة العظيم بين الجماهير الغفيرة من البحارة الصناديد» ص164.
إن المدينة جهنم البدوي تقشع عنه عفويته « وتحرر روحه من كل أنواع الأدب والتأدب والخلق المفرط» ص157.
✓ الغربة في البادية:
من الطبيعي أن يعيش الإنسان غريبا عن وطنه وترابه، ولكن من الغريب والعجب والخبل أن يعيش غريبا في البادية أو غريبا في بادية تشابه هندسة قريته وثقافتها، وحديثي عن الشرقاوي نجل محمد الفكيكي الذي وجد نفسه غريبا بعد واقعة مراودة الصالحة له، وازداد تأزما وضياعا بعد إطلاق الصالحة رصاصة الخلاص على زوجها الحاج حمادي «يختفي إلى الأبد عن هذه القرية التي أحبها من كل قلبه، ولم تجلب له إلا النحس والنكد، ومنذ ذاك بدأ يحس بشعور مبهم، وحدة، فراغ، وضياع» ص237.
نختم الغربة في القرية ذلك التهجير الذي عاشه كل من علال وحمادي، بعدما طردا من بلدتهما، فعاشا غربة وتشظيا، فعلال عاش خادما للحمادي هذا الأخير عض يد سيده ولقي نهاية مأساوية. وبهذا فالبدوي قد يعيش داخل كنف بلدته أو خارجها غربة وتشظيا.
✓ الجهل وتجلياته في الرواية:
من يجهل أن سريره قاس ينم جيدا، من هذا المثل نجد أن أحداث الرواية قائمة على الجهل الديني والإيمان بالخرافة والأسطورة، الذي ترتب عنه التهجير ـ كان سببا في فقر عائلة الفكيكي ـ والاستغلال، فالمشعوذ يكتسي قداسته في «عالم الجهلاء الذين يعتقدون اعتقادا راسخا أنه فعلا بوسعه مسخهم إلى عصافير..أو قردة خاسئين» ص10، بل الجهل القائم على الإيمان بالخرافة يدفع الإنسان إلى التشبث بالشعوذة والابتعاد عن الخالق «لا تنفع اليوم صلاة استخارة ولا استسقاء ولا انتظار بشارة، وإنما طلب منها استحضار قواها الغيبية» ص75.
يمكن أن نقبل الجهل من لم تداعب أنمله قلما أو من لم ترمق عينه سطرا أو من لم يلفظ لسانه حرفا أو كلمة فصيحة، ولكن عندما يتعدى الجهل ويصل بواطن عقول من هم حماة الناس علما وسلطة فهذا لا يمكن قبوله، فالقيد «قايضه بتمائمه مقابل أن تمتد يده طولا وعرضا، لتعبث بحقوق الناس» ص13.
✓ الاستغلال في الرواية:
أـ الاستغلال الديني:
عبَّد الجهل الطريق لبزوغ الاستغلال، سواء الديني أو السلطوي،فالدين في الرواية كان سبيلا لقضاء مآرب شخصية على حساب جهل الناس وإيمانهم بالشعوذة ومعتقد الخرافة، فاستطاع الدجال بوعزة أن يستغل قدرته الخرافية للاستلاء على ممتلكات الفكيكي «فبعدما استولى على أرضه رضخ محمد لمشيئته فباعه كل ما يملك.. بدءا بالدواب والبهائم.. باعه نوافذه وأبوابه.» ص50.
لم يكتف بوعزة باستغلال مكانته الدينية للاستلاء على كل يابس وأخضر لممتلكات محمد بل «استطاع بدهائه وسلطته أن ينتزع له زوجة في ريعان الصبا، تنحدر من أسرة غنية متدينة كان أبوها من أكابر الفلاحين» ص77.
ب ـ استغلال السلطة:
لقد كانت السلطة في الرواية رمزا للفساد مساهمة في تشظي عائلة الفكيكي بعدما تواطأت مع بوعزة للاستلاء على المرس أو الفدان الفوقاني.
كما يبين الروائي فساد السلطة التي تمد يدها للبطش بمصير الناس مقابل المال «كل تلك البنايات التي نبتت كالفطر إنما نمت.. بمباركة السلطة وتواطؤ القواد والباشوات» ص294.
إن هذا التواطؤ الخسيس سيمهد لولادة بوعزة جديد تحت مسمى محمد الفكيكي الذي استغل الفقراء «وهكذا لم تأخذه رأفة ولا رحمة في الفقراء والمساكين»ص274. فقد ملأ قلبه بالشياطين دهس الغلابة من أبناء جلدته، بطريقة طاعنة في القسوة» ص 281.
✓ على سبيل الختم، إن عبد الواحد كفيح وضع أصبعه على مكمن داء المجتمع المغربي، الذي يعيش هذه التيمات التي تم الوقوف عليها،
✓ على كل قارئ أن يساهم في نشر الوعي وبخاصة في ما يتعلق بالجهل الديني.
✓ إن الرواية قيد الدراسة شخصت لنا مجتمعا بل شخصيات مريضة إما بحب المال، أو بحب السلطة.
✓ إن الروائي كفيح ارتدى قبعة السوسيولوجي تارة وقبعة السياسي تارة أخرى.


الكاتب : محمد فكار

  

بتاريخ : 24/06/2022