«التوسع البرتغالي في المغرب» للأستاذ عثمان المنصوري سعى إلى إعادة تقييم حصيلة المنجز البرتغالي حول الغزو الإيبيري..

 

حظيت ظاهرة الغزو الإيبيري التي ضربت بلادنا خلال مطلع العصور الحديثة باهتمام متزايد لدى قطاعات واسعة من المؤرخين المغاربة والبرتغاليين. وظلت للموضوع راهنيته الأكيدة، عبرت عنها سلسلة الدراسات العلمية والأعمال القطاعية التي تصدر بشكل مسترسل بهذه الضفة أو تلك. وعلى الرغم من أن البحث العلمي الوطني والبرتغالي قد استطاع تحقيق تراكم مثير على مستوى حصيلة المنجز الأكاديمي المرتبط بالظاهرة، فإن أهمية الأرصدة الوثائقية التي لا تزال غميسة والمصنفات البرتغالية المدونة المحفوظة في المكتبات المحلية وبدور الأرشيف، قد ظلت تحفز الباحثين نحو السعي لإعادة اكتشاف مجاهل الوثيقة والمخطوط والمذكرات والشهادات والأعمال القطاعية التي اشتغلت على الذاكرة المشتركة بين المغرب والبرتغال. ونكاد نجزم أن المجال يعرف فيضا استثنائيا قد لا نجد مثيلا له في أي دولة أخرى. ولعل مرد ذلك إلى عمق التأثير البرتغالي فوق الأرض المغربية خلال القرنين 15 و16 الميلاديين، ثم إلى استمرار انتصاب الكثير من التعبيرات المادية والرمزية البرتغالية داخل المخيال الجماعي للمغاربة، إلى جانب استمرار حضور المغرب داخل المخيال الجماعي للبرتغاليين على ضوء تراكمات مرحلة الغزو الإيبيري للعديد من الثغور المغربية لمرحلة فجر العصر الحديث.
ونتيجة لهذا المعطى، حافظت «المدن البرتغالية» ببلادنا، على الكثير من الشواهد المادية والرمزية الدالة على عمق الحضور البرتغالي، كقوة احتلال، وكسلطة هيمنية، وكتراث عمراني، وكموروثات ثقافية، وكتعبيرات لسانية. ولعل في نموذج مدن مثل أصيلا وطنجة والقصر الصغير والجديدة وأسفي وأزمور، خير دليل على عمق هذه التأثيرات وعلى قدرتها على اختراق الحدود الزمنية والجغرافية لظاهرة الاحتلال البرتغالي لأجزاء من ترابنا الوطني. وفي ذلك، خير حافز للباحثين وللمؤرخين المغاربة المعاصرين من أجل العودة المتجددة لتقليب صفحات الموضوع، بحثا في التفاصيل «المنسية»، وتقييما لحصيلة منجز الكتابات التاريخية البرتغالية والمغربية حول الموضوع، ثم تعميما للنصوص الدفينة التي اشتغلت على الموضوع، ولم تتح لها فرص الانتشار الواسع بين الباحثين والمهتمين.
في إطار هذا الأفق العام للبحث وللتنقيب، يندرج صدور الترجمة العربية لكتاب «التوسع البرتغالي بالمغرب»، مطلع سنة 2020، لمؤلفه المؤرخ البرتغالي دافيد لوبش، بترجمة رفيعة للأستاذ عثمان المنصوري، وذلك في ما مجموعه 184 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول، إن صدور هذا العمل بنصه العربي الراقي، يشكل نافذة مشرعة أمام باحثي المغرب في استشرافهم للمجالات الرحبة للدراسات البرتغالية المعاصرة، خاصة وأن الأمر يساهم في إعادة تقييم حصيلة المنجز البرتغالي حول الغزو الإيبيري، وفق رؤى متحررة من ضغط الحماس العاطفي الجارف في مقاربة قضايا الارتدادات المتداخلة للمد الإيبيري لبلادنا. ولقد عكست الكلمة التصديرية للكتاب هذا البعد بشكل دقيق عندما قالت: «اختار دافيد لوبش وهو المؤرخ البرتغالي المتمرس بتاريخ التوسع البرتغالي في المغرب أن يتناول هذا الموضوع منذ بدايته إلى نهايته، اعتمادا على الوثائق البرتغالية بالدرجة الأولى، وبدون السقوط في التضخيم والتمجيد اللذين سادا كتابات الإخباريين ومن سار في ركابهم من المؤرخين المعاصرين. إن تاريخ المغرب والبرتغال هو تاريخ متداخل، ومشترك، ولابد للباحث فيه من أن يأخذ بوجهتي النظر المتقابلتين والمكملتين لبعضهما البعض، لأن تغيير زوايا النظر يمكن حتما من تصور أوضح لهذا التاريخ…».
ولتوضيح الإطار العام لهذا التأليف، يقول الأستاذ عثمان المنصوري في كلمته التقديمية: «لقد مضى على تأليف الكتاب ما يربو على ثمانين سنة، وما يزال محافظا على أهميته، وخاصة بالنسبة للباحثين العرب الذين لم تسعفهم ظروف اللغة بالاطلاع عليه، ولا شك عندي أنهم سيغيرون، بعد قراءته، الكثير من المسلمات التي كانت لديهم عن هذا التاريخ، وسيتخففون من ثقل المصادر المغربية التي لا نجد فيها ما يغني عن الحياة في الثغور وعلاقاتها بمحيطها، وتفاصيل الأحداث الكبرى التي عرفها هذا التاريخ المشترك… واختياري لترجمة هذا الكتاب يدخل ضمن مشروع أتوخى منه خدمة الباحثين المغاربة بتمكينهم من التعرف على عدد من الدراسات والمصادر البرتغالية المتعلقة بتاريخ المغرب، التي ظلت وقد تظل بعيدة عن متناولهم، مع أن الاطلاع عليها سيغني معارفهم عن تاريخ المغرب وخاصة في الفترة الحديثة…» (ص ص. 6-7).
في هذا الإطار، سعى المؤلف إلى تقديم تتبع دقيق لمحطات الغزو البرتغالي لبلادنا، استنادا إلى مادة مصدرية غزيرة وإلى وثائق غميسة، وإلى استلهام علمي ساهم في تجاوز الكثير من أحكام القيمة التي هيمنت على أرصدة المكتبة البرتغالية المتخصصة في تاريخ المغرب. وللاقتراب من السقف العام لنمط الكتابة لدى المؤرخ دافيد لوبش، وكذا من انسيابية اللغة الراقية التي اعتمدها الأستاذ عثمان المنصوري في ترجمته المتميزة، يمكن الاستدلال ببعض مما ورد في الكتاب بخصوص واقعة احتلال البرتغاليين لمدينة أصيلا ثم لمدينة طنجة سنة 1471م. يقول المؤلف في هذا السياق: «قبل سنوات من هذه السنة، أدرك الدون أفونسو الفائدة التي سيجنيها من هذه الحروب الداخلية المغربية، وشرع في الاستعداد من أجل الاستيلاء على مدينة أصيلا. وتمت التحضيرات في وقت واحد بمدن بورطو ولشبونة ولاكوش، وقدم أسطول الشمال للالتحاق بنظيره في لشبونة في شهر غشت من سنة 1471، ومنها انطلقا معا إلى لاكوش للانضمام إلى أسطول الغرب. وفي يوم 18، خرج هذا الأسطول من لاكوش ووصل قبالة أصيلا يوم 20، تقريبا في نهاية اليوم. كان الأسطول الأكثر قوة والذي لم يسبق خروج مثله من البرتغال… وذهب في هذه الحملة أفضل رجال البرتغال: الدون أفونسو وابنه وريث العرش الدون جواو الذي كان عمره آنذاك 16 سنة، والذي قاتل ببسالة مثل أبيه. ومن بين النبلاء كوند فالانسا والدون هنريك دو مينيزش، قبطان القصر الصغير، وكوند مونسانتو، والدون ألفارو دو كاشترو، وكوند دو ماريالفا، والدون جواو كوتينيو، وقد ماتوا جميعا في القتال بالمدينة، مع العديد من غيرهم. بدأ الهجوم على المدينة يوم 21 وامتد إلى غاية يوم 24، الذي استسلمت فيه. كان القتال داميا وفقد الكثير من المقاتلين حياتهم من هذا الطرف وذاك. جعل المدافعون عن أصيلا مقاتلينا يدفعون غاليا ثمن نصرهم، سواء في المدينة أو المسجد أو في قلعتها حيث قاتلوا ببسالة. وكانت المعركة الأكثر دموية هي التي جرت في المسجد. أقفل المسلمون الذين لجأوا إليه الأبواب ورغبوا في المقاومة داخله، بدون جدوى. وقام كوند ماريالفا وفرقة من الفرسان بإحراق الباب، واندفعوا نحو بحر من الناس على الحصان وبالسيف المسلول، ويمكن جيدا تصور المجزرة التي أحدثوها بين هؤلاء الناس البؤساء… وأمام باب المسجد، استقبل الدون أفونسو، بموكب، واجتمعوا كلهم حول جسد كوند ماريالفا. جثا الملك على ركبتيه، وصلى: كان عليه أن يشكر ربه ثناء على هذا النصر الكبير. وقام في الحين بتوشيح ابنه فارسا، وبعده جاء دور الكثير من النبلاء الآخرين الذين أبلوا مثله وأبدوا شجاعة خارقة. في اليوم الثاني تم تحويل المسجد إلى كنيسة مسيحية، مع «مباركة» القديس بارتولوميو، لأن المدينة أخذت يوم 24 غشت. ولذلك يسير السكان في موكب احتفالي في كل سنة وفي نفس اليوم لتخليد هذا التاريخ… أدى الاستيلاء على أصيلا إلى انتشار الرعب في المغرب، من الشمال إلى الجنوب. وقام سكان طنجة، الخائفون من مصير أصيلا، بإخلاء المدينة. فتمكن ذوونا من دخولها من دون قتال. وقبل الذهاب إلى هناك، أمر الدون أفونسو بترتيب الأشياء المتعلقة بالمدينة الجديدة، وعين الدون هنريك دو منزيش، كوند فالنسا، قبطانا عليها، فكان إذن أول حاكم لها… وعلى مقربة من أصيلا، فرغت مدينة العرائش من سكانها. ولم تكن مسورة، ولذلك كانت على ما يبدو بدون أهمية كبيرة لنا. ويفترض أنها كانت ضمن المناطق المشمولة باتفاق السلم والتابعة ضمنيا للبرتغال…» ( ص ص. 54- 60).
وعلى هذا المنوال، انساب المتن المثير لدافيد لوبش، مقدما إضاءات دقيقة حول وقائع الاحتلال، ثم على امتداداتها المتداخلة في التأثير على الأوضاع الداخلية لدولة البرتغال، ثم على المصير السياسي لدولة المغرب وعلى معالم تشكل السلط المحلية بمختلف المدن المغربية التي كانت عرضة للاحتلال الإيبيري، وعلى رأسها مدن الشمال المغربي وحواضره الكبرى. وبذلك، أضحى الكتاب نصا مرجعيا بالنسبة لكل الباحثين المتخصصين في قضايا الغزو الإيبيري للثغور المغربية، سواء على مستوى الوقائع العسكرية والسياسية المباشرة، أم على مستوى التأثيرات الرمزية والحضارية المتبادلة داخل مكونات الذاكرة المشتركة لكل من المغاربة والبرتغاليين.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 11/02/2021