صدرت رواية « انجيرونا» للكاتبة والروائية المغربية ليلى مهيدرة عن دار غراب للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى سنة 2021 بمدينة القاهرة جمهورية مصر العربية، وهي الرواية الثالثة للكاتبة بعد محاولتها الروائية الأولى «ساق الريح» والمحاولة الثانية:» رائحة الموت». وكلها محاولات تستبطن نفسية شخوص مستمدة من واقعنا المعاصر. وتعالج ظواهر اجتماعية من منظور نفسي سيكولوجي.
تطالعنا الرواية في البداية، وهي ترصد حالة شخصية ترقد في المستشفى وتعاني من الجنون، غير أن طبيعة الشخصية الذكر في الرواية تخالف المعهود، إذ أن الكاتبة تقمصت دورا غير الأدوار المعروفة والمألوفة لدى الكاتبات النساء اللواتي يخضن غمار التجريب في الرواية العربية. كما يفعل بعض الكتاب الذكور عندما يتحدثون بلسان النسوة، وتجد هذا داخل النص بشكل مكشوف. وهي تتحدث على لسان الحارس الليلي، كأن الكاتبة تعلن تضامنها مع الحراس الليليين من خلال التعريف بمعاناتهم وهمومهم وآلامهم وتطلعاتهم.
غالبا ما يكون العنوان المصرح به مفتاحا لفهم مضمون الرواية، غير أن عنوان: « أنجيرونا»، ظهر جليا أنه من بين العناوين التي لا يمكن فهمها بسهولة وهي عناوين حديثة العهد، تدخل ضمن الرواية الجديدة، من قبيل : «أماريتا، يوتوبيا….» تلك العناوين المخالفة للمألوف والتي تدخل ضمن ما يسمى بأدب الفانتازيا أو الفانتاستيك، وهو الأدب العجائبي أو الغرائبي والتي تربك القارئ وتجعله يبحث عن تفسير منطقي لها، ويظهر من خلال هذا التحليل أن العنوان تم اختياره عن قصد ليمارس دور الإثارة والإغراء، ويدفع القارئ لمطالعة الرواية ومحاولة اكتشاف أفكارها وفهم مواضيعها. فهل هذا يعني أن الرواية تعالج ظاهرة غير منطقية بمنظور لا عقلاني؟
إن محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال تفرض علينا قراءة الرواية، وتقودنا مباشرة للتعرف على مضمونها العام، فنقول إن الرواية تعالج ظاهرة من الظواهر المرضية التي تنتشر بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية، وهي ظاهرة الجنون الذي تعرض له بطل الرواية: الحارس الليلي، هذه الصدمة التي جعلته يكتب يومياته، وقد اختارت الكاتبة شخصياتها من الهامش، لتميط اللثام عن معاناة هذه الفئة المحرومة.
يأخذنا فضاء الرواية إلى عوالم سردية مختلفة، ولو أنه محدود في المستشفى الذي يرقد فيه الحارس الليلي والمكان الذي يعمل فيه، وهو يمنح الحرية للكاتبة في إبداع أحداثها، ويخلق مساحة للكتابة عن الذات والبوح للتعبير عن حالة مرضية، كأنها حالة لا تشفى إلا بالكتابة والبوح والتعبير عن همومها ومعاناتها، وهي تتحدث بلسان الشخصية البطل، وتوظف ضمير المتكلم كنوع من الكتابة الذاتية.
وسنحاول الكشف عن بعض التيمات الموضوعاتية والنفسية التي عالجتها الكاتبة في الرواية:
إن الحديث عن التيمات النفسية يفرض الانطلاق من نفسية الشخصية الأولى التي تجسد دور البطل، ومعاناته الدائمة كحالة مرضية، تتضمن كل معاني الحزن والألم والجنون، وهي جزئيات كانت الموضوع الأساس الذي حفلت به الرواية.
تيمة الجنون:
تكشف الرواية عن حالة مرضية ألمت بالبطل الحارس الليلي، وهي حالة نفسية كثيرا ما تعتريه، وتستبد به في أوقات عمله، مما يدفع للكتابة عن ذلك في يومياته. وتقدم لنا مصير البطل المأساوي الذي انتهى به المطاف مرميا ومهملا في مستشفى الأمراض العقلية لهذا فالجنون والهذيان في الرواية ليس حالة مرضية عرضية فحسب، بل أسلوبا ونمط عيش فرضته قسوة الحياة، وبعض الأعمال المتعبة كالحراسة الليلة ومهنة التدريس. وحالة الإنسان العاطل، وهي ظواهر أماطت الرواية عنها اللثام، وكشفت عن الجانب النفسي والسلبي منها، وكان التعاطي معها سهلا، لكثرة هذه الظواهر وانتشارها بشكل كبير في مختلف المدن التي تعيش حالة من النزوح إليها.
تيمة الحزن:
تتحقق تيمة الحزن لتطغى على الأحداث، بواسطة الذوات المنكسرة، التي تعبر عن مأساة الإنسان المعاصر، وهو يعيش حالة من التشرد والضياع، يجد الأبواب مقفلة أمامه، بعدما لفظته الحياة، فيجد نفسه ملقى ومهملا في الشوارع والسجون والمستشفيات.
تتقاطع قصص وأحداث الراوية وتلتقي في مصير واحد تعيشه الشخصيات، بحيث تصبح الرواية صرخة للتعبير عن معاناة المتعبين والمقهورين والمهمشين والمنسيين من أبناء الوطن، فلا تجد عزاء لها إلا في البوح كوسيلة للانعتاق والخلاص من مجتمع لا يرحم. وتنصت الكاتبة بإحساس مرهف لأصواتهم المعبرة عن القلق والخوف في الليل البهيم، صراخ لبشر ساعة الغدر بهم في ليل مظلم، وصراخ الكلاب الضالة، فيصبح الليل عالما آخر غير عالم النهار، تتعالى فيه هذه الأصوات إلى ما لا نهاية.
تيمة الموت:
يتحول الموت إلى صمت، للتعبير عن حالة البطل في المستشفى، يدفعه ذلك الاحتماء بالصمت نحو حجب الإحساس والشعور بالأشياء، والإغراق في الصمت المربك، محاولا الهروب من واقع مرير، حيث يصبح نمطا للعيش الذي يختار البطل. فيلجأ البطل إلى الصمت والكتابة وسيلة منه للخروج من حالة الموت والشلل التي أصابته، والصمت سلاحه و أداة قوة يلجأ إليها لجعل الآخرين يثرثرون في حضوره، فيكشفون بذلك ظنونهم وحيرتهم وما يخفونه عندهم.
إن ممارسة التعري والكشف عن نفسية الشخوص في الرواية، تفسح للمجال للحديث عن هواجسها وهموهما، والتي تخبئ في جسدها المتعب أحلاما منكسرة وآمالا خائبة. إنها ذوات مكلومة فاقدة للأمل في الحياة، تعيش حالة من التمزق والتشظي والانشطار الذاتي بين الماضي والحاضر فتفكر في الاستقلال والانعزال عن الآخرين في شقق هامشية. وعندما تكشف نفسية البطل عن عريها، وتبوح بما يخالجها، تموت، والموت عنده لا أهمية له، مادام أن لا أحد يبالي به، لأن الجميع يتماهى مع الحياة ويعيش على إيقاعها.
تيمة الذاكرة:
تتحدد تيمة الذاكرة في الرواية بواسطة قدرة البطل على استرجاع حياته الماضية، وطفولته البئيسة، التي ساهمت في تكوين شخصيته وانتهت به إلى مصيره ليعمل حارسا ليليا للسيارات في حي هامشي. وبفضل هذه التقنية الموظفة في الرواية يسترجع البطل علاقته المحمومة والمتوترة بوالديه، حيث يعبر عن هذه العلاقة بنوع من الصراع والتمزق الداخلي بين عاطفة ما يشعر به تجاه والديه من حنان وحب، وما يعتريه من كره أحيانا، إن هذا الصراع بين العواطف، يسبب حالة من اليأس والإحباط والصراع النفسي الذي يعيشه البطل.
وأخيرا، فالرواية تمارس مروية العبث ولعبة الموت لتمويه القارئ، والوصول إلى النهاية الحتمية لحالة مرضية تعيش على حافة التشرد والجنون، ويكون سبيلها الوحيد هو الخلاص والانعتاق من قبضة مجتمع لا يرحم، فتقرر الانتحار في نهاية الأمر، عندما ترمي بنفسها من أعلى بناية في المستشفى المحلي للأمراض العقلية. لتنتهي الرواية بحدث هامشي هو نوع من التشويق الذي بدأت به لإيهام القارئ بصحة المروي، وانتهت به.