«الجاهلية» تراجيديا كوميدية عن حكايات مغربية غير مكتملة

يستمر المخرج هشام العسري في مراكمة عمله السينمائي المغاير، وإثارة الجدل النقدي حول أفلامه الروائية الطويلة التي بلغت الستة، وآخرها فيلم “الجاهلية” الذي يبدأ بلقطة إيروتيكية كبيرة تليها سلسلة لقطات أخرى توحي بغرابة الشخوص والأشياء كما تعوّدنا في أفلام المخرج السابقة، ويكاد ينتهي بها مع التركيز على دق
الوتد في الأرض والحبل المشدود إليه.

يسمح التراكم الذي أنشأه المخرج المغربي هشام العسري عبر أفلامه المتعاقبة بمساءلة الثابت والمتحول في سينما المخرج الشاب، والنَّظَر في مدى تطورها من عدمه، وكذلك في تعميق اشتغالها على تحولات المجتمع المغربي منذ التسعينات إلى اليوم، لا سيما وأن موضوعات الجنس والسياسة والدين منشدّة إلى بعضها البعض في جل أفلامه.
وترى إلى أي حد يمكن الزَّعْم بأن هشام العسري يفكر في موضوع واحد، وهو ما ترتب عليه إنجاز فيلم واحد، ظل المخرج يقوم بالإضافة إليه، والدوران في فلكه، وتنويع زوايا التقاطه من فيلم إلى آخر؟
وفي فيلم هشام العسري الجديد المعنون بـ”الجاهلية” تحمل بعض الحوارات الفيلمية نفحة وجودية طافحة، ملؤها التذمر والرغبة في الموت، فمن السريالية أن يطلب شخص معين من الآخرين مساعدته في إنجاح الطريقة التي يريد الانتحار بها مقابل دفع الأموال!
لكن، سرعان ما يأخذ منه شخص -أول- بعض النقود ثم يشبعه ضربا وينصرف بعد إخباره بأنه لم يكن في يوم من الأيام مجرما، وأن سجنه جاء نتيجة منحه الاضطراري لشيك دون رصيد؛ وتعبّر فتاة -ثانية- أخرى لا نرى ملامح وجهها عن رغبتها في تقديم يد العون له، وتحقيق حلمه لكن خوفها من انكشاف هذا الفعل وما سيليه من تبعات، لن يمر دون ضجيج في هذه البقعة الموسومة بالبَصِّ.
ومع ذلك، فهي تثنيه عن العدول عمّا يفكر فيه، لأن قتل النفس أو الانتحار فعل مذموم يعقبه الدخول إلى جهنّم، وهو ما سيثير حفيظته فَيُعَقِّبُ عليها بما صار يروج من استهزاء بالوضعية الاجتماعية في المغرب عبر وسائط التواصل الاجتماعي اليوم، ومنها “مات المغرب منذ الخمسينات، وما تبقى فمجرد عذاب القبر!”، و”إياك أن تقول في الآخرة بأن الدنيا قد أغرتك وأنت من سكان المغرب، فسوف يهزأ منك الكفار!”.
ولا ينبني الفيلم على حكاية واضحة، وإنما تتمحور مفاصله السردية حول العلاقات غير المنطقية أو العشوائية بين شخصيات شبه مهزوزة، وذلك بعد إلغاء عيد الأضحى سنة 1996 إثر ما يمكن أن يلحق آنذاك بالقطيع الاحتياطي من ضرر واستنزاف، وهي ذريعة سردية غريبة، وغير مؤثرة في مصائر الشخوص بالنظر إلى الاهتزازات النفسية والإحباطات المتوالية التي تطالهم: فما علاقة الفشل في الحصول على العمل كراقصة بإلغاء عيد الأضحى مثلا؟ وما علاقة المرجعيات النفسية للشخوص ووضعياتهم الاجتماعية بذلك؟ لا شيء إلاّ الإشارة إلى عبثية ما يحدث من حولنا!
يجمع الفيلم أناسا تتقاذفهم الظروف وتجمعهم المواقف التراجيدية الكوميدية في فضاءات وأمكنة شبه معزولة، وغير مأهولة بالناس إلاّ لماما، وهذا ما يفيد هامشيتهم، ويزكي معاناتهم وعذاباتهم المضاعفة.
وتتميز شخصيات الفيلم بالعزلة، وعدم ارتباطها الراسخ بالعائلة أو الأسرة وكأنها منقطعة الأصول، فضلا عن سيادة معاناتها الداخلية الغامضة، وكذلك إقبالها على أفعال مُنَفِّرَة ومثيرة للاشمئزاز.
شخصيات تفتقد للدفء والحنان، ولا تطمع إلاّ في التحرر من الخصاصة أو الوحدة، بل إن الغرابةَ مألوفة في حياتها: انتعال ما يشبه الحذاء المصنوع من قوارير المياه المعدنية، والرغبة في المشاركة ضمن مسابقة لتقشير البرتقال، ولَفِّ الرأس في ورق المرحاض، وقلي المفاتيح ثم رميها على الجالسين أسفل الشقة أو تزويج البنت من الملونين للحفاظ على النقاء، والرغبة المَرَضِيَّة في التعذيب، وغيرها.
ويبحث المخرج هشام العسري في كل فيلم له عن طرق جديدة لتصوير بعض اللقطات كأن تتحول عدسة الكاميرا إلى قَعْرِ كأس يرى منه الشخصُ شخصا آخر؛ وأن يشاهد الطفل ما يدور حوله بواسطة علبتين قصديريتين صغيرتين للطماطم بعد أن قام بثقبهما بواسطة مسمار، وتَحْوِيلِهِمَا إلى ما يشبه النظارة المثقوبة؛ والتقاط نفس الطفل وهو يتبول من الثقوب المحدثة بآجور حائط إسمنتي؛ واللعب على انعكاسات الشخوص والأشياء في المرايا والماء..
وتلك اجتهادات تُقَوِّي المجاز البصري وتشحنه، فضلا عن بعض الإشارات البلاغية الأخرى كحمل الناس في عربة يدوية (البرويطة)، ودوران آلة الحفر دون سائقها الراغب في الموت، والرجل الذي اشترى فردة حذاء من شخص آخر أوهمه بأنها تلك التي قذف بها الصحافي العراقي منتظر الزيدي الرئيس الأميركي جورج بوش الابن!
ويقدم الفيلم بعض الشخصيات ذات التصرفات والمطالب العجيبة كشخصية الغني (حسن العلوي) الذي يتسلى بتعذيب سائقه؛ والقاضي (مالك أخميس) الذي زَوَّجَ بشكل انتقامي ومَرَضِي شخصا من أخته في الرضاعة، خاصة وأنها تسببت في دخوله لحالة غيبوبة بعد أن ضربته بمكواة كهربائية أَدَّتْ به لفقدان ذاكرته، ثم جاء القاضي للمطالبة بما يسميه “الحق في التفخيد” أو ما يدل على الرغبة في ممارسة الجنس معها بالرغم من أنها تعاني كزوجة مقيدة وسجينة البيت، من حالة اضطراب ذهني متقدمة.
ويتطور السرد الفيلمي عبر تقطيع الزمن بطريقة انحدارية تجعله يتقهقر من الرقم “12” إلى “1” في ما يشبه العد العكسي لعدد أشهر السنة، وهو ما يعني أن الأمور تسير بالمقلوب، ولا يحكمها ناظم عقلاني.
وحدها غرابة التحولات والطبائع تتسيّد على واقعنا، فالسنة عبارة عن فوضى عارمة ومعاناة متزايدة، والحياة مشاهد ولقطات عجيبة تتوالى بشكل سريالي: إنها طفل غريب يتسلى بشكل طفولي لا تنقصه غرابة، وهي شابة تائهة متسكعة، وهي ممارسات عجائبية تصير مقبولة داخل مجتمع يتصالح معها بشكل غريب أيضا!
وتتكرر بعض العناصر السابقة في أفلام المخرج انطلاقا من كتابة السيناريو الذي يعتمد التقطيع والتشظي واللاخطية، ثم إسناد بعض الأدوار لممثلين سبق لهم وأن لعبوا أدوارا أساسية في أفلامه السابقة، فضلا عن اعتماد تصوّر بصري يميل إلى المزج بين تحريك الكاميرا أو تثبيتها وفقا لمنظور حركي متجدد، والميل للتصوير في الأماكن الهامشية، وإن كانت باذخة، إضافة إلى استمرار النبش في التاريخ المغربي الراهن، وانتقاد مختلف المظاهر السلبية فيه كالفوارق الطبقية والتسلط والإقصاء والمعاناة النفسية كاليأس، الكآبة، الإقدام على الانتحار، والفصام وغيرها.
عن (العرب اللندنية)


الكاتب : محمد أشويكة

  

بتاريخ : 27/10/2018