الجسد في الثقافة الغربية 12- موقع الجسد ضمن رهانات السلطة والاستبداد

يعتبر موضوع الجسد من المواضيع، التي تطرق اليها المؤرخون، منذ مدة خلت. حيث درسوه في إطار حقلي الديمغرافيا والباتولوجيا التاريخيين، وتصوروه كوعاء للرغبات والحاجات، وكمكان لتحقق السيرورة الفيزيولوجية وللتحولات، وكموضوع وهدف للاعتداءات الجرثومية والفيروسية: لقد بين هؤلاء المؤرخون، إلى أي درجة أصبحت السيرورة التاريخية متورطة، فيما يمكن اعتباره الأرضية الأساس، الأكثر بيولوجية وحيوية، للوجود. كما بينوا، على نحو آخر، المكانة التي ينبغي تخصيصها وإسنادها، في إطار تاريخ المجتمعات ل” وقائع ” بيولوجية، كتنقل عدوى الجراثيم، والرفع من أمل الحياة. فإذا كان الجسد هو كذلك عند المؤرخين، فانه لا يجب أن يخفي عنا حقيقة أنه منغمس ومتورط، حتى النخاع، داخل حقل السياسة وعلاقات الاستبداد. حيث هذه الأخيرة تتلقفه، بقبضة من حديد، فتستثمره وتسمه (من الوسم)وتروضه، وتنكل به وتجبره على القيام بوظائف، وإصدار سيمياء/ دلالة معينة.
يرتبط الاستثمار السياسي للجسد، وفق العلاقات المركبة والمتبادلة، بتوظيفه وتسخيره اقتصاديا. فهو يستثمر، في جزء مهم منه، باعتباره قوة للإنتاج، داخل علاقات الاستبداد والهيمنة. لكن، بالمقابل، فإن تكوينه كقوة للعمل، تجعل من عملية الاستثمار هذه مشروطة
بإدراجه داخل نسق ونظام للخضوع، حيث الرغبة هي كذلك أداة أساسية، معدة ومدروسة ومستعملة بإحكام. فالجسد لا يصبح قوة نافعة ومدرة، إلا إذا كان جسدا منتجا وطيعا (قابلا للخضوع). خضوع لا يتم الحصول عليه، من خلال آليات بعينها، مثل العنف المادي أو الإيديولوجيا، إذ بالإمكان أن يكون هذا الخضوع، بطبيعة الحال، مباشرا وفيزيائيا، حيث القوة في مواجهة نظيرتها، عبر المراهنة على عناصر مادية، دونما حضور لعنف. ويكون هذا الخضوع (محسوبا) ومنظما ومفكرا فيه، بشكل تقني وهادف، دونما حاجة إلى استعمال الأسلحة والرعب. ومع ذلك، يظل في مقام الخضوع الفيزيائي. أي بالإمكان أن تكون هناك معرفة بالجسد التي ليست هي، بالضرورة، علم اشتغاله أو ضبط قواه، معرفة تتجاوز حدود القدرة على هزمه : معرفة وتحكم يشكلان ما يمكن تسميته او نعته ب:”التكنولوجيا السياسية للجسد”politique du corpstechnologie، باعتبارها نوعا من ميكروفيزياء الاستبداد.microphysique du pouvoir والتي تعمل الأجهزة، والمؤسسات على استغلالها، حيث حقل الصلاحية، يتموضع بين هذه الانشغالات الكبرى، والأجساد نفسها بماديتها وقوتها. (ميشيل فوكو “الجريمة والعقاب” منشورات غاليمار 1975).
غالبا ما نستحضر تلك المجموعة الهائلة من الإجراءات، التي جعلتنا المسيحية القديمة، بموجبها، نكره الجسد. لكن علينا، بالمقابل، أن نفطن وننتبه قليلا، إلى كل هذه الخدع التي، ومنذ قرون عديدة، قد دفعتنا إلى عشق الجنس، والرغبة في معرفته وتثمين كل ما يقال ويحكى عنه، وكذلك الدفع بنا إلى توظيف جميع طاقاتنا لمفاجأته، واعتبار فعل اماطة اللثام ونفض الغبار عن حقيقته، أمرا ضروريا ، وكذلك توجيه اللوم لنا، عن طريق هذه الخدع،جراء جهلنا به وإهمالنا، له لمدة طويلة . إن هذه الخدع هي من تستحق، اليوم، أن تكون موضوع مفاجأة. علينا أن ننتبه انه في يوم ما، ربما، وفي إطار اقتصاد مغاير للأجساد واللذات، سنفهم على نحو جيد كيف تأتى لخدع الجنس les ruses de la sexualite أن تجعلنا تحت سلطة مملكة الجنس، القاسية والفظة، إلى درجة تعريضنا لمهمة لا تنتهي، والمتمثلة في الكشف عن أسراره، وأن ننتشل، بالقوة، من هذا الظل، الاعترافات الأكثر حقيقة. إنها أحد مكامن سخرية هذا الجهاز: أن يجعلنا نعتقد، أن الأمر يتعلق بمسعى “تحريرنا”.

M foucault histoire de la sexualite 1 la volonte de savoir gallimard 1976


الكاتب : ترجمة : د. محمد الشنقيطي

  

بتاريخ : 08/04/2025