الجسد و الأنا الشاعرة في ديوان «نطاق الجسد» للشاعر كمال الإدريسي

يحاول الشاعر كمال الإدريسي في ديوان»نطاق الجسد» التأسيس لمفهومه الخاص للجسد، منطلقا في ذلك من ثقافته الدرامية والشعرية، ومن تمكنه من زمام اللغة العربية ومعجمها الذي يحبل بالكلمات والألفاظ والعبارات المباشرة وغير المباشرة التي أسعفته في الإحاطة بنطاق / نطاقات الجسد الجلية، والخفية، الواقعية والمتخيلة التي تم تكثيفها وترميزها في استعارات وصور شعرية مبنية بأساليب فنية/ شعرية لا تخلو من لمسات حداثية سواء على مستوى التصور / الرؤية، أو على مستوى الكتابة النصية اللتين تحاولان الخروج عن السائد والمألوف نحو آفاق / نطاقات تعلي من شأن الجسد، وتعتبره جسرا بين الوعي وإدراك الوجود الإنساني، متمثلا بذلك رأي عبد الصمد الكباص الذي يذهب إلى أن الحداثة هي عودة الجسد إلى الإنسان ليغدو فردا، وعودة الحاضر إلى الوجود ليكون حرا.
يرى بعض النقاد أن وعي الإنسان يتفتح على الجسد ومن خلاله، وأن الألفة بين الإنسان
وواقعه، و تكيفه مع الحياة لا يكون إلا من خلال الجسد، لذلك فإنه من الطبيعي أن يصبح هذا الجسد محفزا قويا في كل عملية فنية/ إبداعية وخصوصا في الشعر، هذا الأخير الذي لا ينشأ في الإنسان ولا تتحقق أسباب وجوده كما يرى الشاعر أدونيس، إلا انطلاقا من الجسد، ولعل ذلك هو ما جعل أدونيس في ديوانه « أبجدية ثانية» يحتفي بالجسد، ويصور كل الوجود على أنه مواز للجسد و مشابها له ومندغما فيه.
إن الحضور الطاغي والمهيمن للجسد في هذا الديوان كما يوحي بذلك عنوانه « نطاق الجسد» يؤشر بدءا على أن موضوع القصائد / النصوص الشعرية، ستتخذ من الجسد بؤرة تشغل الذات الشاعرة وتحظى باهتمامها، وذلك من خلال توزيع دلالاته عبر صور شعرية تمتح، كما سبقت الإشارة من ثراء اللغة و من مرجعيات معرفية تعكس الموقف الفكري للشاعر كمال الإدريسي من مفهوم الجسد، و تكشف طريقة تفاعله مع هذا المفهوم الإنساني/ الوجودي، لذلك يمكن القول:
إن تصدر الجسد لكل قصائد الديوان، يعتبر مشروعا شعريا جديدا في مسار تجربته الشعرية، ينم عن شغف بالجسد، وعن تقدير كبير له يصل إلى درجة المقدس والمطلق، فالجسد، في منظور الشاعر هو الحب و الحياة وهو العشق و الجنس، وهو الأنثى و المرأة، وهو في نهاية المطاف علاقة حميمية بكل تفاصيلها الشعرية البعيدة كل البعد عن التقريرية والمباشرية، تروم العبور نحو الأنثى، وتتخذ من الآخر / المرأة ملاذا لها.
تحاول النصوص الشعرية في ديوان « نطاق الجسد» استنطاق الجسد، وجعله يفصح عن مكنوناته وحدوده الإنسانية الواقعية من جهة، وعن استشرافه، من جهة أخرى، خلق دينامية إبداعية/ شعرية/ جمالية، تتوسل بالعلاقة الجدلية بين الجسد والآنا الشاعرة، لتقديم تجربة شعرية جديدة ومغايرة، تحاول الإفصاح عن رؤية فنية حول طبيعة العلاقة التي تجمع الفعل الإنساني بالجسد، وعلاقة هذا الأخير بالإبداع الشعري الذي اتخذ من الجسد مادته الأولى من خلال الإنصات إلى كلامه اللانهائي الذي تصعب قراءته وتأويله بحكم ما يحبل به من أسرار وألغاز ومتاهات واقعية ومتخيلة:
«الجسد
لي
كمالي الرؤية المطلقة» ( ص: 30)
« يا جسد
ضج واشتد وصوّت
وأخرج بعض / كل ما بك
وأترك على حافة الشهوة دليك»
(ص: 46)
ويفهم مما تقدم أن هذه التجربة الشعرية الجديدة للشاعر كمال الإدريسي، تتأسس في ديوانه
«نطاق الجسد» على مفهوم الجسد باعتباره وسيلة شعرية محفزة على الخلق و الإبداع، وعلى التعبير عن أفكار ومواقف موغلة في الذاتية، تربك القارئ وتعصف به في متاهات التأويل، بحثا عن معاني ودلالات هذا الجسد وعن سياقاتها من خلال مجموعة من الدلائل والعلامات النصية/ اللغوية داخل الديوان، وكذلك من خلال رمزية الجسد التي تتوارى خلف مجموعة من الاستعارات والصور التي تتيحها رمزية اللغة وظواهرها الواضحة والخفية في الآن ذاته:
الجسد
ظل النار
يلهب أكف الوالهين،
يوشمهم بالعرق (ص: 12)

***********
الجسد ثقل الخفيف
ردام مغارة تتسع، و تتسيع بالدهن، بالطيب
ثقيل الخطو إذا يدب يسيب
للجدار الصدى والصفير . (ص: 29)
إن قصائد الديوان تترابط وتتواصل عبر جسر رابط هو الجسد، الذي يشملها و ينفذ خلالها بشكل يؤكد أن الشاعر يرغب في تقديم أحاسيسه الجياشة التي تعكس ذاتا شاعرة تهيم بالجسد ويهيم بها، للتحليق به إلى آفاق / نطاقات تسمح بتدفق الانفعالات الداخلية التي تختلج وجدان الشاعر، حيث ينفلت الجسد من حيز الدلالة المعيارية، ليدخل مجال التمثيل الرمزي الرحب والمعقد الذي يعمل على انحراف الأسماء و الأوصاف و الأفعال عن معانيها المقصودة، لتخلق في ذهن القارئ المتلقي دلالات أخرى ممكنة ومحتملة:
الجسد
صاري سفينة الشهوة
تمخر العباب الضباب (ص:8)
***********
الجسد
ذهب إذ تعدونه لا تحصونه
وماء ينفذ إلى صدوركم، تحضنونه
واختناق
إذ تغرق السفينة (ص: 11)
إن أول ما يثير الانتباه في هذا الديوان هو عتبة العناوين الطويلة لقصائده، حيث نجد الشاعر يتوسل ببنية الجملة الاسمية التي تبئر المصدر، وتؤسس عليه دلالة العنوان، ودلالة العديد من الأسطر الشعرية التي تتخلل ثنايا نصوصه الشعرية، وذلك بحكم قدرة المصدر على الوصف والتوصيف، وإمكانياته في اختزال السرد/ المحكي الشعري الذي يتوق إلى بناء صور شعرية تحاول رصد سيرورة الجسد و متاهاته الوجودية المعقدة والمركبة، وانعكاساتها على الذات الشاعرة وتجاربها المتعددة التي لا تعرف الاستقرار بحكم مكاشفاتها وأحلامها ورؤاها
وأسئلتها المقلقة التي جعلت من الشعر الملاذ الوحيد للتأمل والتخيل والتفكير:
ملاءمة الإيهام لخيالات المستبصر (ص: 26)
***********
حصول المصادفة يجلو المفارقة (ص: 32)
***********
صدأ المادة تلين له الرغبة (ص: 35)
ومن ما يثير الانتباه أيضا أن اللغة الشعرية تتميز على امتداد قصائد الديوان، بالثنائيات الضدية، وهي تقنية لغوية تكشف عن الفاعلية الشعرية التي تعتمدها هندسة المعنى لدى الشاعر كمال الإدريسي، وذلك بهدف خلق نوع من المفارقة في البنية الدلالية العميقة للنص الشعري،
وللمساهمة في ترسيخ الأبعاد الفنية والجمالية التي تؤثر في القارئ، وتستدعي لديه آليات التأويل للكشف عن الدلالات والمعاني المضمرة:
دون أن تمر من قناة شائكة / لينة (ص: 25)
الشيء في الشيء تقسيمة المزهر، ترتوي
بالممكن / المحال
في الخفض يرتفع المجال (ص: 29)
***********
منتفخ، وارف، قليل، غريب، نادر، فيروزي، غابوي، حجري، و متوحش) (ص: 18)
إن المتأمل في قصائد هذا الديوان، يلاحظ أن القصيدة الخامسة «ليونة، المضغ خشونة اللمس» تثير العديد من الأسئلة على مستوى بنيتها المعمارية، حيث تحول سطر من أسطرها الشعرية إلى مقاطع/ نصوص شعرية قصيرة ومكثفة، بشكل أضفى على القصيدة نسقا تنظيميا/ تركيبيا، يعكس اشتغال اللغة الشعرية على مستوى توليد معجم يروم الكشف عن طبيعة العلاقة بين الجسد والذات الشاعرة ويفتح مجالات واسعة للإدراك وللتأويل لدى القارئ المتلقي:
لقد احتفى الشاعر كمال الإدريسي في ديوانه «نطاق الجسد» بتقنية الوصف، وعمد إلى توظيفها في جل قصائده، باعتبارها آلية للكشف والبوح والإفصاح عن مكنوناته الذهنية والوجدانية، إلى درجة يمكن معها اعتبار هذا الوصف هو الحامل الأساس لصوره الشعرية، وما تختزنه من قيم فنية/ إبداعية، وما تحيل عليه من معاني ودلالات تنم عن إدراك الشاعر العميق لذاته بصفة خاصة وللعالم بصفة عامة:
الجسد
حق فيه الوصف
وحاق به العصف (ص:5)
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الوصف قد ارتبط في قصائد الديوان بآليتين شعريتين أساسيتين هما: الاستعارة والصورة، حيث وظف الشاعر الاستعارة باعتبارها تقنية بلاغية تعبيرية تقوم بإخضاع الغائب للحاضر، وتنبعث من لا وعي الشاعر ومن أحاسيسه ومشاعره الداخلية الدفينة، في حين تحضر الصورة في قصائد الديوان باعتبارها آلية إيحائية، لا تصف الواقع أو تحاكيه، بقدر ما تصف و تحاكي اللاشعور النفسي الباطني للشاعر، وتفجر تأملاته الذاتية الجوانية القابلة للتأويل و للانفتاح على كل القراءات الممكنة والمحتملة :
الجسد ماء
من عطش القفار
الجسد هباء
من وحي البخار
الجسد التراب المحتوت،
العهد والأصل والتحول والخطوة الأولى
إلى نهاية المسار (ص: 6-7)
يقوم الشاعر كمال الإدريسي في ديوانه « نطاق الجسد» بتأمل الجسد، و بإدراك طبيعة علاقته بالآخر/ الأنثى، انطلاقا من وعي خاص يعتبر الجسد والإحساس به محور الوجود/ الكينونة، لأنه هو المسيطر على كل شيء في الإنسان، لذلك يمكن القول إن الشعر قد تحول لدى الشاعر كمال الإدريسي إلى وسيلة للتعبير بشكل فني / إبداعي عن الجسد، وعن الفعل الجنسي ودوره في عملية الخلق من عدم، وفي تحويل الخيالي إلى الواقعي/ المتجلي، لذلك نجد أن كل قصيدة من قصائد الديوان تعكس، بشكل أو بآخر إبداعيه الجسد و سيرورته، وانتقاله من اللذة
والشهوة إلى التوهج والارتقاء الروحي نحو المطلق، ولعل ذلك هو الذي يدفعنا إلى اعتبار هذا الديوان وثيقة شعرية توثق لحياة الشاعر في علاقته بالجسد، وأن قصائده هي نصوص شعرية تخلد تفاصيل هذا الجسد وفاعليته في لحظات إنسانية حرضت الشاعر على التأمل في نفسه
وفي الواقع وفي الكون من خلال غواية الجسد باعتباره جوهر الحياة وسر البقاء و الاستمرار في هذا العالم:
كنت من عدم
كنت من خيال
وكان الجسد وسيلتي لأتجلى و أرى (ص: 5)

المراجع المعتمدة

المتــــــــــــــــــــــــــــــــن : نطاق الجسد – جامعة المبدعين المغاربة – الطبعة الأولى
– (2022)
محمــــــــد مفتـــــــــــــاح : رؤيا التماثل – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء
– بيروت – ( 2005)
فــــريد الزاهـــــــــــــــــــــي: الجسد و الصورة و المقدس في الإسلام – افريقيا الشرق
– الدار البيضاء – ( 1999)
اسماعيل محمد حسام الدين: الصورة و الجسد : دراسات نقدية في الإعلام المعاصر
– مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت ( 2008)
عـــبد الصمد الكــــــــــباص: الفرد، الكينونة و الله : الحق في الجسد – مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب، الأخبار 1/12- (2006)
علي أحمـــــــد سعيد أدونيس: أول الجسد آخر البحر – دار الساقي – بيروت ( 2007)


الكاتب : محمـد فـراح

  

بتاريخ : 13/01/2023