لاتقاء المهالك، وتأمين تقلبات المعاش استعان مغاربة الأمس بالطقوس السحرية لاستدرار رَحمة السماء. جَرى الاستدرار في سَوْق الغيث كما في منع حدوثه. يهمُّ الباحث هنا أن يقف عند تفصيل جوهري في تناول الظاهرة: تعايش النصوص الدينية جنبًا إلى جنب مع الممارسات السحرية والطقوس الغيبية. يتعلق الأمر، في هذا المستوى من التحليل بممارسات اجتماعية اتصل فيها حقل المقدس مع حقل المدنس اتصالاً وثيقاً دون أن يتحدد بوضوح الحد الفاصل بينهما.
وإذا تقدمنا في الزمن، فتردد المجاعات في تاريخ المغرب والأندلس قد لا يجد تفسيره ضرورة في عتاقة تقنيات الإنتاج، ولا في تأثير المُؤثرات المناخية على مُجمل عمليات الإنتاج…بل في النزوع الذهني لفئة عريضة من الفلاحين نحو المحافظة والتقليد، وفي طريقة تسويق الإنتاج، وأيضاً، في مورفولوجية البِنيات الاجتماعية وشكل تنظيمها، فضلاً عن هيمنة التدبير الإداري والهاجس الأمني لنظيمة المخزن، وأخيراً في غياب التخطيط الاقتصادي الذي يقود نحو التراكم المفضي للاستثمار دون أن نغفل عن طريقة توظيف المخزن للمجاعة.
حول مسألة عتاقة وسائل الإنتاج وعلاقتها بالأرض، يستوقفنا نص لجودار L. Godard كُتب سنة 1860م يصف من خلاله المحراث الخشبي والمِنجل المستعملين في عملية الحرث في مغرب ما قبل الاستعمار»…بقيت الزراعة في المملكة الشريفة على حالة بدائية، بسبب كسل الفلاحين وجشع المخزن، لأنه يُثقلهم بضرائب مُرهقة، ولا يسمح لهم بتصدير منتوجاتهم في ظروف مناسبة. الناس هنا يجهلون معنى توزيع الأراضي واستعمال السماد. أما الأدوات الزراعية فهي عتيقة، إذ يبدو أن المحراث الخشبي يعود إلى أربعة آلاف سنة لما يظهر عليه من بساطة وضعف. فبإمكان الفلاح لوحده أن يحمله على ظهره بما في ذلك جهاز الجرِّ المرتبط به. ونادراً جدًّا ما يجر هذا المحراث، الذي لا يتجاوز عشرة أقدام طولا زوج من الثيران أو الخيول، ففي معظم الأحيان يجرُّه بغل أو حمار أو بقرة. وقد رأينا أزواجاً مكونة من حمار ومعزة، أو حمار وبقرة، وكذلك حمار وامرأة… هذه الحالة الأخيرة رأيناها بأم أعيننا في الجزائر…ويستعمل الجمل أيضا في عملية الحرث. ولا يحدث هذا المحراث سوى أخاديد سطحية وضيقة جدًّا. أما الأحجار فلا يهتم الفلاحون بازالتها. وتقتصر خدمة الأرض على زرع القمح والذرة البيضاء لمدة سنتين وترك الأرض للاستراحة والرعي خلال السنة الثالثة. وبالرغم من هذا الاحتياط، تفقد التربة خصوبتها، حيث لا يكفي رماد التبن المحروق بعد الحصاد لتسميدها، ولذلك يلجأ المزارعون إلى اجتثاث الأحراش وحرقها، ولكن بعد محصولين أو ثلاثة تفقد الأرض طاقتها من جديد…وفي وقت الحصاد يحشُّ الفلاحون سنابل القمح بمناجل صدئة…فلو كانت ظروف الإنتاج مواتية لاستطاع المغرب توفير الغذاء بسهولة لضعف سكانه، وتصدير القمح بكميات توازي ما ينتجه الآن، بحيث تعطي الحبَّة الواحدة من ستين إلى مائة حبة، عوض خمس وعشرين أو ثلاثين حبة…».
طبعاً، يُطيل المؤرخون اليوم الوقوف عند معادلة الجفاف البنيوي في ارتباطه بشيوع الذهنيات الخرافية. والحق، تكاد ترتقي هذه الإطالة لأن تكون عنصراً من العناصر الفاعلة في تفسير أحداث تاريخ المغرب. فقد كان لتردد الجفاف باستمرار وانحباس الأمطار أن رسَّخ سلوكيات وقيم اجتماعية أفضت نحو العجز والخمول والتوسل بالكرامات والمعتقدات السحرية…ففي سياق ذلك، توسل المغاربة بحقلي المقدس والمدنس من أجل استيعاب الأسباب الخفية التي كانت تقف وراء حدوث الاضطرابات الجوية، وشاع بين عوامهم، كما خاصتهم، بَركة مطر شهر أبريل. في هذا الشأن، يُخبرنا المؤرخ عبد الهادي بياض نقلا عن ابن البيطار عن حادثة مهمة جدا حينما كان سكان الأندلس يزعمون أن نبات اللوف «غرنينة» يُحدث صوتاً يوم العَنصرة، ويقولون إن من سمعه يموت في سَنته تلك.
لا شك أن هذه الحادثة وغيرها كانت تٌظهر تشبع الثقافة الشعبية بحمولات غيبية، وتُفصح عن تجذر الخرافة في الوعي الديني عند المغاربة خاصة في لحظات اهتزاز السلطة.
في تاريخ المغرب تكررت لازمة في التحليل: كلما اشتد تردد الاضطرابات الجوية، كلما اتسع نطاق الذهنية الخرافية فهماً وتأويلاً. والواقع، لم تكن تخل قرية ولا مدينة من كاهن أو مُنجم أو ساحر يدعي قدرته على تحليل وتفسير الأشياء الخفية، أو التظاهر بقدرته على بسط السيطرة على المؤثرات المناخية وفق طقوس يزعم نجاعتها في استجلاب المطر وتفجير عيون الماء وتحويل القحط إلى خصب وإبراء العلل الصعبة والحد من الأوبئة الفتاكة، فضلا عن الإخبار بالاضطرابات المناخية المرتقبة.
وقد جرت العوائد الثقافية عند المغاربة على تحديد توقيت لتوقع سقوط المطر، فكان الأسبوع الثاني من شهر دجنبر هو تاريخ توقع الموسم الفلاحي. ويعقب الترقب تأويل المُنجمين الذين يرقبون الليالي السبع، فإن كانت مطيرة، كان القول بخِصب العام، وإن أتت صاحية، كان القول بالقحط والجفاف.
استجاب المغاربة تحت تأثير القحط والجفاف إلى تأويلات المنجمين، فقد عُهد على سكان غمارة الاستعانة بالسحرة والمُنجمين من أجل استدرار المطر. وقد نقل المؤلف المجهول عنهم أن الناس كانوا يقصدون حاميم وأخته ديو في القرن الرابع الهجري، ويستغيثون بهما لحظة اشتداد الحروب والقحوط. ففي عهدهما شاعت الخرافات إلى حد ادعائه النبوة. وقد استمرت الذهنية السحرية في الشمال الافريقي كما عاينها الإثنوغرافيين الأجانب، وارتبطت بالنساء أكثر من الرجال وِفق ما انتبه إلى ذلك ابن خلدون. فنساء أغمات أقبلن على السحر بشكل كبير جدا، وتعاطين له ممارسة وتأويلا، فاشتهرت منهن زينب النفزاوية التي نُقل عنها أخبار مستطرفة غريبة، وقال البعض إنها كانت كاهنة تمتهن السحر، وقال البعض الآخر، إنها كليمة الجن، واعتبر آخرون بأنها ساحرة وكاهنة.
نتحدث عن ممارسة دينية مقبولة اجتماعيا، وتحظى بقبول واسع. لم يجد المرابطون غضاضة في الاستعانة بعموم الدجالين والمشعوذين والسحرة أثناء إقدامهم على بناء عاصمة ملكهم بمراكش من أجل توفير المياه في موضع جاف وقاحل. وقد استعان قادة المرابطين من خدمات بعضهم لوضع لمعرفة مصادر الماء المجلوب للمدينة تجنبا لقطعه عنها.
وكان من وَقْع ذلك، أن تعمقت بشكل كبير أزمة الضمير عند المغاربة في كل لحظة جدْب، صَفوة وعوام. فقد نقل الونشريسي بعضا من اعتقاد الناس في قدرة المنجمين والسحرة في التأثير على الناس، حينما نقل واقعة وجود رجل يدعي رفع المطر على الخلق ثمانية أعوام ولا يرحمهم بقطرة. من الواضح، أن عدم ترسخ قواعد التحليل العلمي في تفسير الاضطرابات المناخية، وإذا أضفنا إلى ذلك، التضييق الممنهج الذي حوصرت به العلوم العقلية والشرعية، نكون قد استجمعنا عناصر التحليل، ونكون إذاك قد استوعبنا المناخ العام الحاضن الذي زاد من انتشار ذهنيات التعليل الخرافي، مع ما رافق ذلك من شعور بالعجز والقصور، وسرعة في تصديق المشعوذين والمنجمين والعرافين.
* (جامعة القاضي
عياض، مراكش)


