الجن، الشياطين والسحر .. الخيروالشر في الثقافة الإنسانية -7-

عالم السحر عالم مليء بأشياء قليلة نعتبرها حقيقة وفيه كثير من الأساطير والخزعبلات ، اختلط فيه الديني (الإيماني) بالأسطوري والخرافي. وخيارنا للخوض فيه ليس من باب الترف الثقافي، ولكن، لكوني شخصيا ـ أريد أن أفهم ـ قبل أن أحاول الإجابة عن تساؤلات الطلبة أولا، وثانيا، لكوننا ـ نحن المغاربة عموما ـ غالبا ما ننعت من طرف المشارقة بالسحر، وننعت كمغاربة1 ـ مغاربة المغرب الأقصى خصوصاـ بهذه الظاهرة. وفي المغرب ينعت به أهل منطقة سوس من المغرب الجنوبي المتاخم للصحراء ويشار إليهم في هذا الصدد بالبنان.
وأنا بطبعي أحب أن أبسط الأمور، وأقتحم المجالات غير المعروفة لديّ، أحاول استقراء النصوص بمنهج أهل التخصص (في التاريخ والدين والأنثربولوجيا والأدب والثقافة الشعبية عموما .. ) لكي أنوّر نفسي أولا، ولأجل تقريب الموضوع و تبسيطه للمتعلم، ولكل من أراد البحث في المجال، ثانيا.
هدفي دائما ـ إن كان ممكنا ـ هو إجلاء الغامض من الأمور عن طريق معرفة رأي المتدخلين في موضوع معين بمختلف مشاربهم و اختلاف تخصصاتهم، حسب ما أراه .. و ليصحح لي ذوو الاختصاص ، كلٌّ في مجاله حسب رأيه و رؤيته ..
و لأصدقكم القول ، فقد جاءتني الفكرة عندما شاهدت إعلانا تلفازيا عن الشيخ المغربي (الذي يسترد الحبيب ويرُدّ المطلقة (والناشز) ويزوج العانس .. و ربما يُجمّد الماء ) و تساءلت عن تلك النظرة المشرقية عموما لمواطني المغارب (جلهم) بكونهم مهووسون بالسحر و السحرة، وهو الأمر الذي لم أتقبله ولم أستسغه، فما أعلمه هو أن السحر ارتبط ببابل فما الذي جعل المغرب يشتهر به . وبالرغم من أننيمغربي وأعيش بينهم بصفة دائمة ، ولأصولي السوسية، لم أر يوما من يذهب إلى ساحر أو دجال إلا من باب التداوي بالأعشاب أو ما يسميه البعض الطب النبوي ويسميه آخرون الطب البديل. و كباقي البشر ـ الذين أعتبرهم عاديين ـ فإني أسمع فقط عن بعض الناس(وربما هناك من يفع لذلك ـ حتى من معارفي ـ إلا أنهم يتحاشون الحديث عنه) فلا(أنا) ذهبت، ولاذهب أحد معارفي ـ على حد علمي ـ و إنما ـ كما الجميع ـ سمعت، أو قيل وقال، وحدثني فلان عن فلان عن علان .. دون مشاهدة عينية أو حضور. اللهم معاينتي الشخصية لليالي كناوة (والشوافات) أحيانا، وزيارتي لبعضهن للوقوف عن كثب بما يقمن به (وهن غير سوسيات، كما صرحن، إلا واحدة) ، ورؤية المواد المعتمدة في إطار علمي محض. (و كم من مرة طردت طردا).

 

تغير القيم
ما الذي يجعل هذه القيمة أو تلكتخبو جذوتها ولا يعتد بها ؟ قد يكون الجواب بسيطا ،و لكنه غير مصرح به . فالطبيعة البشرية تتنصل من بعض التقاليد إذا كانت غير لائقة بها و بظروف عيشها ، بحيث تُحدِث الجماعة قيما يرى الجيل الجديد أنها أصلح له في ظرْفٍ ما، و يستحيل الحفاظ على القيم القديمة لعدم مسايرتها للعادات المستحدثة أو الوافدة ، من ثمة يجب عدم التشبث بهذه القيم التي تتحكم في صياغة القوانين الوضعية ، والتي قد تجعل الفرد مرفوضا ليصير مُمَجاً من طرف الآخرينإذا لم يساير التطور، هذا المجتمع كان قد ابتكر آلية للعقاب منذ القديم (السجن و الحرمان من الحرية) كلما خرج الفرد عن تلك القيم و ابتعد عنها ، و إلى جانب السجن كمؤسسة ضابطة ابتدعت قبله البشرية آليات للعقاب في حال كان الجرم أكثر قوة ، إلا أنه في العصر الحديث اعتبر الخازوق وقطع اليد و الحرق و المقصلة و الشنق أو القتل عموما غير إنساني ، فتحولت تلك العقوبات (إلى عقوباتأكثر حفاظا على كرامة الإنسان) وصارت أكثر رحمة ، حيث بقي السجن بضوابط معينة هو العقوبة الأمثل . إلا أن الردع لم يعد موجودا لأن قيمة العقوبة لا تساوي قيمة الجرم. و قبلها كانت العقوبة الإلهية أو البشرية تثير الخوف في النفوس، مما يجعل الشخص أكثر انضباطا وكانت التجمعات البشرية أفضل (أو على الأقل تبدو كذلك) .إن الخوف من السلطة الإلهية أو السلطة البشرية يُوجّه السلوك ، ولكنه يصير قهريا إذا تمت المبالغة فيه ، و يصير الخوف من شيء ما ملازما للبشر ..قد يكون الخوف من العقاب الإلهي ،و قد يكون الخوف من السلطة بسيطرتها و أجهزتها القمعية سببا ليعم الأمن، ولكنه قد ينتشر اضطرارا دون وعي الإنسان باكتسابه لهذه القيم أو الإيمان بها و حين نقول الوعي فنحن نتحدث عن المعرفة أولا ، ثم التجربة بعد ذلك .
من هنا كانت الفضيلة (الخير) بالنسبة ـ لواحد ـ (ك)سقراط توازي المعرفة، و لا يمكن إدراكها إلا بها ، و بما أن المعرفة تقتضي الإيمان بنسبية الخير و الشر ، فكل الأجهزة و المؤسسات تحاول أن توجه السلوك ما أمكنها، و تحوّل بعض الأمور إلى قيم تراها خيرة و في صالح الجماعة ، فضبط السلوك و استعمال العنف ضد من لا ينضبط شيء محمود تجاه أولئك (الغيرأسوياء) ، مادامت كل سلوكاتنا تتحكم فيها تلك الدوافع الداخلية معية المؤثرات الخارجية بغض النظر عن معرفتها أو الجهل بها أو نسبيتها ، فالخير يكون كذلك وفق المستفيد منه ، و الشر يكون كذلك وفق المتضرر منه ، مما يعني أن الخير بالنسبة لمجموعة قد يكون شرا بالنسبة لأخرى . بل يعتبر الجهل بذلك غير وارد في التبرئة من الجرم . وقد عقلنا منذ وعينا أنه « لا يعذر أحد بجهله للقانون «.
إن معرفة ذلك (الخيروالشر) هو أساس المعرفة بالنسبة للبوذية التي ترى أن حقيقة الشرهوالإحساس بالألم (كيفما كان نوع هذا الألم)، والحياة كلها شر دائم، أوخير مؤقت أي لذة سريعة الزوال ـ بل خاطئة ـ ما دامت تنتهي إلى الألم . من هنا كانت المعرفة هي إدراك الخير والشر مما يفضي بالتفكير البوذي إلى مفهومي التناسخ والكارما كنتيجة لحب الإنسان للذة ممنوعة على العنصرالبشري . وإذا كان هذا منظورها فإن الزرادشتية ترى أن أصل الشر هو عامل خارجي عن الذات الإنسانية نظرا للصراع الدائم بين النوروالظلام لمحاولة السيطرة على العالم . وعلى الإنسان أن يحاول ما أمكنه أن ينتصر للنور (الخير) ويقاوم بكل ما أوتي من قوة قوى الظلام (الشر). أما المانوية فهي ترى أن ذلك من طبيعة الحياة . إنه اامتزاج بين النوروالظلام، إذا لايمكن للإنسان أن يحيى حياته دون هذين الشيئين باعتبار أن الشر هو ابتلاء من الحياة للإنسان .
وهنا ترى المسيحية أن الإنسان معرض للخطيئة التي جاءت للبشرية من الأصل (الخطيئة الكبرى = أكل التفاحة) إلا أن الإنسان لم يرث هذه الخطيئة من آدم (عس) وإنما ورث منه ضعف الطبيعة البشرية التي توقعه في الخطيئة ما دام الإنسان حرا في اختياراته وعليه أن يتفطن دائما للحيل التي يقوم بها الشرير (الشيطان) معتمدا على الطبيعة الضعيفة للبشرية.
وبغض النظرعن سبب ذلك الشر (الألم) فالإسلام يرى أنه ابتلاء من الله لعباده، فموت الولد وذهاب المال والصحة أصلا ما هو إلاعطاء إلهي أي هبة ربانية، والله تعالى يختبر الإنسان بهذه الآلام، ومن الخطأ تسميتها شرورا بل هي مجرد محنة لزوال نعمة عبارة عن هبة ليس للإنسان يد في امتلاكها. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى :
« أحسب الناس أن يُترَكوا أن يقولوا آمنا وهم لايُفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم ليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين « أوقوله : « ونبلوكم بالشر والخير فتنة ..» .
من هن اكثُر البلاء في الصحة والمال والولد لأن ذلك اختبار لقوة الإيمان ومدى مجاهدة الشر (إبليس) في مقابل الضعف البشري.
والعقلانية الإسلامية كما تمثلت في المعتزلة ترى الشر ذلك « الضررالقبيح ومايؤدي إليه « في مقابل الخيرالذي هو « النفع الحسن وما يؤدي إليه» .إنما تسمي الضرر شرا على سبيل المَجاز لاالحقيقة، فلا يقال في الضرر أنه شر كالعمى والعجز عامة إلا على سبيل التجوز أي كاستعمال لغوي لمعرفة النعم (الخير) لأن الإنسان لايفهم معنى ذلك العجز في حينه ومصلحته تكون فيه، ولايعرف الحكمة منه، إذ تغيب عن المخلوق لقصر نظر هو فهمه والإحاطة به. فالله عز وجل يجب أن ينزه عن فعل الشر، وجميع ما يلحق الفرد هوخيرلهولا يدري الحكمة من ذلك. كما قال أحدهم: إن كل ما يوصف بأنه ضررومضرة لاتسمى بذلك إلا عن طريق المجاز. فكل ألم وغم أو مايؤدي إليهما من غيرأن يعقب ذلك نفعا يوفى عليه، .. فلا « توصف المعاصي بأنها ضرر من حيث تؤدي إلى العقاب» .
هكذا نستنتج أن الله لايفعل إلا خيرا وكلما يصدر عنه ليس فيه إلا صلاح للعباد، لذلك قال عزمن قائل : « ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشرالصابرين ..»
إن البشر لايدرك ما يوحى من العلي القدير لنبيه (أولم يصل بعد إلى إدراكه) ، كما أن ما يلحق الإنسان من خيرأوشرهوالمسؤول عنه بحرية خياراته التي تستطيع فعل الخيرأو الشر (هل الإنسان مخيرأومصيرومسير؟ لم تستطع البشرية لحد الآن أن تصل إلى كنه ذلك) ،فالمعتزلة لتنسجم مع توجهها ستصطدم بعقلها (البشري) ومنطقيتها التي ستجعلها في حيص بيص، مما أدى إلى تدهورها، لأنها ـ حسبما فهمتـ لم تستطع أن تنزه الخالق العادل والحكيم في تعامله مع عباده (أوعبيده ) ، « إنّ اهديناه السبيل إما شاكر او إما كفور « ليكون للثواب والعقاب معنى منطقيا لينسجم مع قوله تعالى في آل عمران 108» وما الله يريد ظلما للعالمين « .
ـ كيف يُنظَر إلى الخير والشر؟
حسب علم النفس، يولد الإنسان صفحة بيضاء فيتعلم من محيطه أي أنه يكتسب المعرفة مما وصله وحس بذلك المحيط يتعرف على قيم الخيروالشر. ونحن في ثقافتنا نقول: إن الشر هو ما تأمرنا به النفس الشريرة، ونسميه أحيانا الباطل أو وساوس الشيطان، ذلك الشيطان الذي يدفعا لمرءإلى ارتكاب المعاصي (فعل الشر) ، فكلما يفعله الإنسان ليس من ذاته ولكن يتعلق بالآخر (الشيطان لعنه الله) الذي يستغل ضعفنا للدفع بنا إلى المعصية، منذ الخطيئة الأولى ذلك أن الشيطان الذي سيبقى إلى أن يرث الله الأرض و من عليها سيوسوس للإنسان وهذا دوره . و الله سبحانه أعطاه تلك الرخصة كي يمتحن البشر منذ أن طلب إليه ذلك إذ قال لرب العزة» ..لأزين لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين « .
وهذا ماجعل عالما مسلما كابن القيم يقول : « ومن مكايده أنه يسحرالعقل دائما حتى يكيده ولا يسلم من سحره إلا ما شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه أنفع الأشياء ..»
وليس هذا فقط، بل يرى صاحب كتاب « عالم الجن والشياطين « أن الدعوات إلى الاشتراكية والشيوعية .. وكل ما يمكن أن يخلص البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع .. من دعوات البعض إلى خروج المرأة (كاسية عارية ) باسم الحرية .. وكل تلك الأفكارالمسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا وتلك الدعوات التي ترى .. كل ذلك امتداد لسبل الشيطان الذي كاد لآدم (ع) منذ عهد قديم، وهو تَزْيين الباطل وتَحْسينه، وتَقبيح الحق وتَكريه الناس فيه ..
ولاأرى أن من يكرّه الناس في الدين إلا مثل هذه الأقوال لبعض (الشيوخ)ـ وماأكثرهم ـ والذين يُرجعون كلما نقوم به في سلوكنا اليومي (من شرور) إلى الشيطان، وعوض أن يُنظِّروا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا فيما يوافق المرجعية الدينية ويطلبوا للناس الهداية يهاجمونهم في ما اتفقوا عليه ويتناسون أن الناس جبلوا على الوسطية واستأنسوا بقوله: « لا إفراط و لا تفريط « ، ولا يدري أولئك (الشيوخ) أن ما يأتون به من أدلة قرآنية ويعتقدون أنهم يدافعون عن الدين « ويظنون أنفسهم على حق وهدى» إن ما هو مردود عليهم لأن «القرآن حمّال أوجه « وأظنهم ممن قال فيهم الحق سبحانه :
« قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» . وهم لايفعلون شيئا غيرالانتقاد وتكرار ما جاء به الأولون، وكأن الخلاف في هذه الأمور شيء هين،وكأنهم لايدرون أن «الحرام بين والحلال بين وبينهما أمورمشتبهة فادرأوا الشبهات «.


الكاتب : عبد الله خليل

  

بتاريخ : 04/09/2023