الجن، الشياطين والسحر .. السحرة والدجالون وطاردو الجن -8-

عالم السحر عالم مليء بأشياء قليلة نعتبرها حقيقة وفيه كثير من الأساطير والخزعبلات ، اختلط فيه الديني (الإيماني) بالأسطوري والخرافي. وخيارنا للخوض فيه ليس من باب الترف الثقافي، ولكن، لكوني شخصيا ـ أريد أن أفهم ـ قبل أن أحاول الإجابة عن تساؤلات الطلبة أولا، وثانيا، لكوننا ـ نحن المغاربة عموما ـ غالبا ما ننعت من طرف المشارقة بالسحر، وننعت كمغاربة1 ـ مغاربة المغرب الأقصى خصوصاـ بهذه الظاهرة. وفي المغرب ينعت به أهل منطقة سوس من المغرب الجنوبي المتاخم للصحراء ويشار إليهم في هذا الصدد بالبنان.
وأنا بطبعي أحب أن أبسط الأمور، وأقتحم المجالات غير المعروفة لديّ، أحاول استقراء النصوص بمنهج أهل التخصص (في التاريخ والدين والأنثربولوجيا والأدب والثقافة الشعبية عموما .. ) لكي أنوّر نفسي أولا، ولأجل تقريب الموضوع و تبسيطه للمتعلم، ولكل من أراد البحث في المجال، ثانيا.
هدفي دائما ـ إن كان ممكنا ـ هو إجلاء الغامض من الأمور عن طريق معرفة رأي المتدخلين في موضوع معين بمختلف مشاربهم و اختلاف تخصصاتهم، حسب ما أراه .. و ليصحح لي ذوو الاختصاص ، كلٌّ في مجاله حسب رأيه و رؤيته ..
و لأصدقكم القول ، فقد جاءتني الفكرة عندما شاهدت إعلانا تلفازيا عن الشيخ المغربي (الذي يسترد الحبيب ويرُدّ المطلقة (والناشز) ويزوج العانس .. و ربما يُجمّد الماء ) و تساءلت عن تلك النظرة المشرقية عموما لمواطني المغارب (جلهم) بكونهم مهووسون بالسحر و السحرة، وهو الأمر الذي لم أتقبله ولم أستسغه، فما أعلمه هو أن السحر ارتبط ببابل فما الذي جعل المغرب يشتهر به . وبالرغم من أننيمغربي وأعيش بينهم بصفة دائمة ، ولأصولي السوسية، لم أر يوما من يذهب إلى ساحر أو دجال إلا من باب التداوي بالأعشاب أو ما يسميه البعض الطب النبوي ويسميه آخرون الطب البديل. و كباقي البشر ـ الذين أعتبرهم عاديين ـ فإني أسمع فقط عن بعض الناس(وربما هناك من يفع لذلك ـ حتى من معارفي ـ إلا أنهم يتحاشون الحديث عنه) فلا(أنا) ذهبت، ولاذهب أحد معارفي ـ على حد علمي ـ و إنما ـ كما الجميع ـ سمعت، أو قيل وقال، وحدثني فلان عن فلان عن علان .. دون مشاهدة عينية أو حضور. اللهم معاينتي الشخصية لليالي كناوة (والشوافات) أحيانا، وزيارتي لبعضهن للوقوف عن كثب بما يقمن به (وهن غير سوسيات، كما صرحن، إلا واحدة) ، ورؤية المواد المعتمدة في إطار علمي محض. (و كم من مرة طردت طردا).

 

الباب الثاني
السحر وتسخير الجن والشياطين

إن موضوع السحر، عامة، موضوع مخيف، وهو مرعب لأننا لا نعلم عنه شيئا، أو بالأحرى، يحاول الجميع فهمه، كما يحاول (هذا الجميع) أن يعطينا رأيه فيه من خلال تحليله للظواهر ومحاولة فهمه لما ورد في القرآن. وليس كل من خاض في الموضوع يعتبر خبيرا، فكل ما ليس مؤكدا بالبراهين والتجربة ليس يقينيا ومن ثمة « كل يؤخذ من قوله ويرد « في هذا الباب.
فالسحرة والدجالون وطاردو الجن (ومنهم بعض من أصحاب ما يسمى بالرقية الشرعية) مردود كلامهم في الجن والسحر، وحسب السامع لهم فهم يقرؤون فقط القرآن، وهو كلام الله المقدس والمبجل (تعالى عما يصفون)، ولكن أغلبهم لا يريد به سوى غرض الحياة الدنيا ومتاعها.. ونعوذ بالله من هؤلاء.
والساحر غالبا يعتمد على الجن ويستعين بهم (من وجهة نظر البعض). ويتجه الناس إلى الساحرـ غالبا ـ إذ لم يجدوا حلا علميا و(طبيا) كحل للمشكلة الجسدية التي يعانون منها، فيلجؤون إلى السحر كآخر حل للخروج من الأزمة، وهو (حلما فوق واقعي) أقل ما يقال عنه أنه ميتافيزيقيا وما فوق طبيعي وخرافي.. (سمه ما شئت) لوضع حد لتلك المشاكل الواقعية المادية والنفسية الموجعة والمؤلمة، أول بلوغ مآرب دنيوية. وهو بمثابة آخر حل للخروج من أزمة مادية أو نفسية ألمت بهم.
وعالَم السحر (والجن) عالم غير معروف – و ما دام خفيا وموَارَى – يحاول السحرة إيهام الناس بتقريب العالمين و إمكانية اندماجهما (رغم صعوبة تصديقه) ، فالجن قد تشترك مع الإنس في أمور عدة ـ على الأقل ـ في ثقافتنا الإسلامية الشعبية، وتجعلهما يشتركان في التناسل والتكاثر (الجنس) والأكل والعقل والإدراك والإرادة وحرية الاختيار .. إلا أنهما ـ وهي من نقط الاختلاف بينهما ـ هم خُلقوا من نار وخُلق الإنسان من طين. مما يجعل الجن مختلفين عنا ـ نحن الإنس ـ في مستويات عدة وبِنِسَب معينة حتى في المشترك.. وهذا يجعلهم ينتمون إلى بُعْد آخر غير البُعد الذي ينتمي إليه بنو البشر، ومن المنطقي أنهم لن يلتقوا مع الإنس لاختلاف البعدين. فهما يختلفان في الخلق أي المادة التي خلقا منها (الصلصال يختلف عن النار) « قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين». مما يجعلهما قد يختلفان في أشياء أخرى وإن بنسب معين، ويجعل دخول الجني في جسم الإنسان صعب التصديق نظرا لاختلاف بعديهما اللذين ينتميان إليهما. حتى فيما يجتمعان فيه يختلفان فيه، فيحكى أن الرسول (ص) قال: « إنَّهُ جاءَني وفدُ جِنِّ نَصيبينَ ونِعمَ الجنُّ هم فسألوني الزَّادَ، فدعوتُ اللَّهَ لَهُم أن لا يمرُّوا بعظمٍ ولا رَوثَةٍ إلَّا وجدوا عليهِ طَعامًا « .هذا على أساس أننا نُسَلِّم باشتراكهم مع البشر في هذه الأشياء . مع العلم أن الذين كانوا برفقة رسول الله يوم الجن لم يشاهدوهم ـ وكما سبق أن قلنا، فالفكر البشر يبلغ درجة من النضج ولم يعد معه يطلب دلائل ملموسة (أي معجزات يراها بالعين) على صحة هذا الدين للإيمان به وإنما يكتفي بالرؤية القلبية التي تعتبر أعلى درجات المعرفة كما يقول العُبّاد الربانيون.. ـ فقد عُرف التصديق بالنص كما يقول الفقهاء أو بالعقل كما يقول الفلاسفة أو بالقلب كما يقول المتصوفة ـ
وقد ورد في صحيح مسلم ومسند أحمد عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود (ض)، هل صحِب رسول الله (ص) ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدنا هذا تليلة بمكة، فقلنا: اغتيل (أو) استطير، ما فعل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة باتبها القوم. فلما كان وجه الصبح ـ أو قال: في السحرـ إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول .. فذكروا له الذي كانوا فيه، فقال: إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم قال فانطلَق َفأرانا آثارهم وآثار نيراهم. وفي رواية الطبري عن ابن مسعود «بتّ الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون «.
فتكفي الرؤية القلبية لهذه الأشياء التي لن نراها نحن البشر العاديون كما لم يشهد أحد عملية الإسراء والمعراج وانتقال الرسول (ص) في المكان ولا نعلم إن كان الانتقال بجسده أم بروحه، والنبي له اعتبار خاص ووضعية خاصة فهو المختار والمصطفى ولا ينطق عن ا لهوى، وبالتالي فله خصوصيته. وتأكيدا على ذلك جاء عن أم المؤمنين عائشة (ض) : « نهاهم رسول الله (ص) عن الوصال رحمة لهم . فقالوا: إنك تواصل؟ قال « إني لست كهيأتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني « والوصال هو أن يواصل المرء صوم الليل والنهار لمدة يومين أو ثلاثة دون أن يأتي على ما يُفطر. وقد نقل عن ابن الزبير أنه كان يواصل بالعشر أو الخمسة عشر يوما .. والله أعلم .

علاقة الجن بالشياطين

لأصدق كم القول، فأنا لا أعلم شيئا عن الجن والشياطين إلا ما اكتسبته من ثقافتي الشعبية، فقد كنت أسمع مثلا « هذاك راه واحد الجن من فعله « ..» هذاك راه شويطين ..» كتصغير للفظة الشيطان دلالة على الطفل الذي يأتي بأفعال ذكية ولكنها مشينة وماكرة وربما خبيثة في نفس الوقت. بل كنت أتحاشى دائما البحث في الموضوع والخوض فيه .
والكلام عن الجن غالبا ما يأخذنا للحديث عن الشياطين، وكنت أظنهم مختلفين، وهذا ما أكسبتني ثقافتي الشعبية البسيطة، حتى قرأت قوله تعالى :
« وكذلك جعلنا لكل نَبِيّ عدوّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربكما فعلوه فذرهم وما يفترون «
هنا، فقط، فهمت أن الشيطان قد يكون من الإنس أو الجن، والمقصود به كل من يتعدى حدود الله ، غير أن المفسرين يعتبرون الشيطان الأكبر (أبوهم) هو (إبليس) ، وهو جني (أو مَلَك، المسألة خلافية) تشيطن بعد أن أبلس وصار بعد ذلك خالدا بأمر الله بعد أن طلب منه ذلك، كما جاء في قوله تعالى: «قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم «.

ـ الجن في اللغة العربية

الجن والجان والجِنّة، كلها أسماء لمخلوق واحد. فالجن اسم جمع مفرده جنّيّ وجنّية. وفي القاموس يشار إلى أنه من جَنّب معنى استثر وغطى، ومنه قوله تعالى :» فلما جنّ عليه الليل ..» أي ستره ظلام الليل وغطّاه.
فالجني ـ حسب هذا الكلام ـ لا يُرى، إذ ينتمي إلى بُعد آخر غير البعد الذي ينتمي إليه بنو البشر.
وبعض اللغويين يرون أن الجني جمع على الجنة والجان كما جاء في القرآن « من الجنة والناس.. «، أوقوله تعالى : « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون..» ، وقوله جل شأنه : «.. فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان.. «، وهذه الآية الأخيرة يعتمد عليها البعض لصوغ فرضية أن الجني مكنهم أن يتزوجوا الإنس .
وإذا كان بعض المستشرقين يرى أن أصل الكلمة عربي مأخوذ من جني، فإن هناك آخرين يرون أن جذر الكلمة موجود أصلا في اللغات الأكادية والعبرية والسريانية، وقد جاء بمعنى التغطية والستر.
وسواء كان جذر الكلمة من (جنن) أو (جنا) فهي تميل بنا نحو الستر والخفاء والتخفي، فمنه الجنان بمعنى القلب وسمي بذلك لأنه مخفي في الصدر ومستور بين الضلوع . والدرع يسمى (ِمجنّ) لأنه يستر لابسه، وسمي (الجنين) بذلك لأنه مخفي في رحم أمه .. وهكذا سمت العرب (الكفن) و (القبر) لأنهما يستران الميت ويخفيانه.من هنا سمي الجن كذلك لأنهم مختفون ولا يظهرون، كما سمت العرب قديما الملائكة عموما جنا، لأنها لا تظهر.
إن الكلام يجرنا للحديث عن الشيطان أو الملك الذي تحول إلى شيطان مارد وهو إبليس ويسمى أيضا الطاغوت كما ورد في سورة النساء: « الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا «
وكما يقول العقاد في «إبليس» وإنما سمي طاغوتا لتجاوزه حده وتمرده على ربه.. وأبلس في لغة العرب من لا خير عنده وأبلس يُبلس: يئس وتحير وسكت لانقطاع حجته.


الكاتب : عبد الله خليل

  

بتاريخ : 06/09/2023