الجن، الشياطين والسحر .. العقل في بدايته البشرية -6-

عالم السحر عالم مليء بأشياء قليلة نعتبرها حقيقة وفيه كثير من الأساطير والخزعبلات ، اختلط فيه الديني (الإيماني) بالأسطوري والخرافي. وخيارنا للخوض فيه ليس من باب الترف الثقافي، ولكن، لكوني شخصيا ـ أريد أن أفهم ـ قبل أن أحاول الإجابة عن تساؤلات الطلبة أولا، وثانيا، لكوننا ـ نحن المغاربة عموما ـ غالبا ما ننعت من طرف المشارقة بالسحر، وننعت كمغاربة1 ـ مغاربة المغرب الأقصى خصوصاـ بهذه الظاهرة. وفي المغرب ينعت به أهل منطقة سوس من المغرب الجنوبي المتاخم للصحراء ويشار إليهم في هذا الصدد بالبنان.
وأنا بطبعي أحب أن أبسط الأمور، وأقتحم المجالات غير المعروفة لديّ، أحاول استقراء النصوص بمنهج أهل التخصص (في التاريخ والدين والأنثربولوجيا والأدب والثقافة الشعبية عموما .. ) لكي أنوّر نفسي أولا، ولأجل تقريب الموضوع و تبسيطه للمتعلم، ولكل من أراد البحث في المجال، ثانيا.
هدفي دائما ـ إن كان ممكنا ـ هو إجلاء الغامض من الأمور عن طريق معرفة رأي المتدخلين في موضوع معين بمختلف مشاربهم و اختلاف تخصصاتهم، حسب ما أراه .. و ليصحح لي ذوو الاختصاص ، كلٌّ في مجاله حسب رأيه و رؤيته ..
و لأصدقكم القول ، فقد جاءتني الفكرة عندما شاهدت إعلانا تلفازيا عن الشيخ المغربي (الذي يسترد الحبيب ويرُدّ المطلقة (والناشز) ويزوج العانس .. و ربما يُجمّد الماء ) و تساءلت عن تلك النظرة المشرقية عموما لمواطني المغارب (جلهم) بكونهم مهووسون بالسحر و السحرة، وهو الأمر الذي لم أتقبله ولم أستسغه، فما أعلمه هو أن السحر ارتبط ببابل فما الذي جعل المغرب يشتهر به . وبالرغم من أننيمغربي وأعيش بينهم بصفة دائمة ، ولأصولي السوسية، لم أر يوما من يذهب إلى ساحر أو دجال إلا من باب التداوي بالأعشاب أو ما يسميه البعض الطب النبوي ويسميه آخرون الطب البديل. و كباقي البشر ـ الذين أعتبرهم عاديين ـ فإني أسمع فقط عن بعض الناس(وربما هناك من يفع لذلك ـ حتى من معارفي ـ إلا أنهم يتحاشون الحديث عنه) فلا(أنا) ذهبت، ولاذهب أحد معارفي ـ على حد علمي ـ و إنما ـ كما الجميع ـ سمعت، أو قيل وقال، وحدثني فلان عن فلان عن علان .. دون مشاهدة عينية أو حضور. اللهم معاينتي الشخصية لليالي كناوة (والشوافات) أحيانا، وزيارتي لبعضهن للوقوف عن كثب بما يقمن به (وهن غير سوسيات، كما صرحن، إلا واحدة) ، ورؤية المواد المعتمدة في إطار علمي محض. (و كم من مرة طردت طردا).

 

وحدة الفكر البشري

إذا كنا نؤمن بأن الفكرالإنساني موحد، ونعتبرالحضارة الإنسانية صرحا أو بناءً حاولت كلّ مجموعة بشرية أن تضع فيه لبنة معينة، وفي نفس الوقت نؤمن بالتلاقح الثقافي وبمبدأ التأثير والتأثر الفكري، ولا محالة بوحدة الفكرالبشري ذي الأصل الواحد ، فلا مناص من اعتبار الإيمان بوجود الجن والشياطين تسلسلا فكريا، والاعتقاد فيه من الإيمان بما أنزل على الرسل. فالتاريخ البشري «كأركيولوجيا» قد يؤكد حصول الحدث الوارد في النص الديني ويؤكد واقعية الفعل والشخصيات والأمكنةـ لكن ، بغض النظر عن الأزمنة التي لايستطيع أحد ضبطها إلا عبر التقدير والتقريب ـ أي نعم ، قد نعتمد المعطيات المتوفرة ، ولكن لا يجب الجزم، فمن الخطأ فعل ذلك بما أنه ليس يقينيا. ونحن نقرأ أن الإنسان العاقل (الهوموسابيانHomosapien) قد ظهر قبل 200 ألف سنة ، والإنسان البدائي (المتوحش) نيودرتال ظهر قبل 350 ألف سنة و أنه عاش في العصر الجليدي بين آسيا و أوربا .. فذلك مجرد نظريات (افتراضات واحتمالات حسب التقنية والمواد المعتمدة)، وكأن القارة الأمريكية غير موجودة، و القارة الأفريقية غير موجودة أيضا رغم أنهم وجدوا فيها جدتنا (لوسي) بإثيوبيا وقدروا وجودها بأكثر من 3 ملايين سنة ، وإنسان جبل إيغود بالمغرب و قدروا وجوده ما بين 280 و 350 ألف سنة ، وذلك التحول الهائل من شرق أفريقيا إلى جنوبها ثم إلى غربها ، كل ذلك يعد ـ في نظرنا ـ نوعا من الافتراضات النظرية القابلة للدحض زمنيا..راضات ن البدائي (المتوحش) نيودرتال قبل 350 ألف سنة ..
وقد تزداد الأمور الخلافية تفاقما إذا كانت العلوم إنسانية، وهنا يكون الصدام، فكلما حاول علم إنسان يفهم السلوك البشري وجد نفسه في مأزق مع التفكيرالديني (الماورائي). فهو يحاول فهم السلوك بالتجربة أوعلى الأقل بنوع من التحليل العمودي لشيء يصعب عليه تفكيكه (أفقيا) . وهو يضع النظريات المحاولة للفهم ويطلق تسميات مركبة على أشياء يصعب فهمها،أوحتى الخوض فيها (البارابسيكولوجي كمثال) بل هناك من يؤمن بالجن (حسب ثقافة الممسوس) ، فقام البعض بجمع معرفتين (أو علمين) وركبهما في اسم واحد، وجعلهما يشتركان في الدراسة والموضوع كالإثنولوجيا وعلم النفس العضوي ( ethnopsychiatrie ).
هكذا وجد بعض ما يسمى بالعلم (كعلم الاجتماع )نفسه في صدام مع التدين بشكل لايمكن تجنبه على اعتبار أن الدين هو صياغة معرفية لتفسيرالعالم الاجتماعي (حرية الفعل البشري في مواجهة القوانين الإلهية الملزمة).
لماذا قلنا علم اجتماع؟ باعتباره مشروعا للتفكيك (العقلاني) والشموليات الدينية، وباعتباره يحاول فهم الظواهرالمجتمعية الدنيوية، ويحاول عقلنة السلوك البشري الذي يتبناه الدين نفسه عبرالتحكم فيه من خلال الأخلاق .
ورغم بعض الخلاف، فالاعتقاد في وجود الجن والشياطين قد يمقِدم بحث الإنسان الدائم وتساؤلاته عن تلك القوى الخارجية المتحكمة في مصائرالخلق، أوالمُساعِدة في توجيهها والمرتبطة بما يمكن أن يأتي من خارج المادة الملموسة (خيرا كان أوشرا). فبعد أن أعيت الحيلة الإنسان في التفكير في تلك القوى الخارجية (مافوق الطبيعية) .. ارتبطت فكرة وجود الجن في الالتباس الحاصل لديه بين إخبارالسماء له (أي عبرالوحي) وبين البحث عن الإجابات للأسئلة الأرضية التي يتساءلها بعض البشر ناكرو التفكيرالديني، سواء في غياب الأنبياء، أوعدم الإيمان بهم من طرف البعض.
لقد كثرت التفسيرات ومحاولة الإجابة القائمة على التخييل (العقل في بدايته البشرية) ، ومن ثمة، كثُرتِ الأساطير والخرافات في جميع الثقافات لكشف الغامض والملتبس وربط الأسباب بالمسببات والعلل بالنتائج، عبرآلاف السنين وتغيّرصروف الدهرالتي أنست البشرية (التعاليم الدينية) .
لهذا نجد هذه الحكايات والأساطير (كأجوبة) لدى كل الشعوب القديمة في آسيا وبلاد الرافدين وأفريقيا وأوربا وشعوب الإيسكيمو، ولدى الهنود الحمر في أمريكا، والأبورجين في أستراليا، وارتبط أغلبها بمسألة الخلق أول الأمر.

اكتساب الخير والشر

الإنسان أصلا يولد جاهلا بماهيتي الخير والشر، و لكنه يكتسبهما عادة من المحيط .. والسلوك بعد ذلك يعود للذات نفسها عند بلوغها (الحلم) واكتسابها قيم الخير والشر من المحيط ويكون سلوك الشخص رهينا بما اكتسبه. ف» كل ميسر لما خلق له» مادام الإنسان يولد على فطرة .. فالخير لمن اعتاده والشر ميسر لمن أراده ومباح له كما يرى أفلاطون . وهنا يجب التركيز ليس فقط داخل البيت (عبر التربية) لكن على المحيط العام يعني التجربة الحياتية ومستواها حين يتلقاها الإنسان لأن ذلك يمكننا من طرح أسئلة تتعلق بالتجربة الذاتية في علاقتها بالمحيط (البيت ،فالمدرسة والمسجد أو الكنيسة أو البيعة (synagogue)ثم الشارع ومايتلقاه الشخص عموما من طرف وسائل الإعلام والتأثيرات الأخرى .فك لما يفعله الإنسان ليس من ذاته ولكن يتعلقبا لآخر (الشيطان لعنه الله) الذي يستغل ضعفنا للدفع بناإلى المعصية.. إن عملية الاكتساب عامة تتأثر بما سبق،ولكن تتحكم فيها الرغبة الفردية مما يجعل سلوكاتنا الغريزية ضعيفة (أو قوية) في مقابل المستقبلات وما يتلقاه الفرد في صباه الأول أثناء تعلمه قيم الخير والشر.
ويرى علم النفس أن الطقوس حينما تصير فعلا مقدسا بفعل التكرار فقط، وليس فعلا قد يؤدي إلى بلوغ هدف ما أكثر قدسية نكون دائمي البحث عن بلوغه، يكون هذا التقديس اجتماعيا فقط أي مجرد احترام لا غير يفقد معه الطقس قدسيته لأنه فقد عند الناس الغايات منه (ولنتذكر ما وقع في أحد أسواق البيضاء حينما تحولت أغنام (عيد الأضحى) إلى سرقة لتلك القرابين الإلهية والتي من المفروض فيها أنها موجهة للتقرب من الله إذا تقبلها ، فقد إلى سرقات يتخطفها بعض الناس وتحول عيد الأضحى إلى عيد الشواء فقط لأن ذبح القربان تحول إلى عادة اجتماعية، وفقد قدسيته.
لقد تعاظمت السنة على حساب الفرض (حتى صارت فرضا اجتماعيا) ، إلا أنها تقلصت قيمة هذا السلوك (دينيا) ونسي الناس أن الله لا يقبل نافلة ما لم تؤد فريضة. ولكن صارت السنة والنافلة أعظم شأنا من الواجب والفرض المتخلى عنه، لأن السنة التي فيها فائدة اجتماعية ، فهي أمام أعين الإنسان الآخر الذي ينظر إلى سلوكاتنا. من هنا يغدو الآخر متحكما في سلوكنا وتصير قيمنا رهينة بنظرة الآخر لها و بهذا نصير مُرائين أكثر. بينما تصير (النية) (كنشاط فردي بين الإنسان ورَبّه) رغم أهميتها الكبرى في السلوك الديني لا اعتبار لها أمام الاستعراض الاجتماعي ، لأن الآخرون هم الواقع الملموس و ـ للأسف ـ يعدون أهم من إله خفي غير ظاهر للعيان . من هنا سيتحدد الشر و الخير بنظر الآخر الذي يقيم سلوكاتنا مادامت معلنة ، ويصير الخير الذاتي شرا اجتماعيا و بالمقابل يصير الشر خيرا في نظرنا لكونه صار (موضا) أو (تقليعة). فبعض النساء العفيفات قد يصلين ويزكين ويحافظن على كل فروضهن ويسهرن على ممارسة كل الطقوس و العبادات التي أمرنا بها الله سبحانه إلا أنهن يرفضن أن يتزوج عليهن أزواجهن وتكون لهن ضرة، فقد تؤمن المرأة بكل شيء في الدين إلا أن يمارس زوجها حقه الشرعي وتدخل حياته امرأة أخرى (وإن كان شرط العدل وما أصعبه وهو ما تتشبث به بعض النساء لتغيير الناموس الكوني). ربما ذلك يدخل ضمن الطبيعة البشرية الرافضة للتنازل عما تراه ملكية، لذلك لا نلوم السياسي إذا تشبث بالكرسي ورفض التنازل عنه وفعل كل ما بوسعه للاحتفاظ به ، بالرغم من أنه أخطأ أو ليس كُفْءً ، فهو يتشبث بالكرسي (رمز السلطة) ويرفض تقديم الاستقالة.
كل هذه الأشياء تعتبر من الطبيعة البشرية التي نحاول التغلب عليها كالنفاق والحسد والغل والحقد والعجب والكبر والتعالي والكذب والنميمة والرياء… وهي غرائز نحاول ما أمكننا أن لا نسقط في شراكها،إلا أن الإنسان مهدد باستمرار من قبل هذه الغرائز التي تقف له بالمرصاد في اللاشعور، وذلك لكونها غرائز موجودة فيه أصلا ، و لكنها مكبوتة ، تحاول أن تظهر كلما كان هناك إغواء ـ أو تجربة كما يقول المسيحيون ـ إنها ستحاول ما أمكنها الخروج الفعلي وإنما يقاومها المرء . إن هذه الضغوطات الغريزية يقاومها الإنسان المتدين بواسطة الصلوات والأدعية لأن هذه الممارسات الطقوسية بمثابة فعل مقاومة لما هو آني وحماية مما قد يكون مستقبلا.
هذه النزعة الضارة بالمجموعة وليس بالفرد وحده، لابد من زجرها ، بل ويربى النشء على قمع تلك الغرائز وتعليم الخوف منها ومن القصاص الإلهي، أو من السجن (كقصاص اجتماعي) كلما ارْتُكِبَتْ.


الكاتب : عبد الله خليل

  

بتاريخ : 02/09/2023