الجوائز الأدبیة من ثقافة الاعتراف إلى ریع الثقافة

لمقاربة هذا الموضوع، سأتوقف عند أحد المراجع الأساسیة التي تخص الموضوع الذي نحن بصده، وأقصد بذلك ما ورد في كتابات ناتالي هینیش Nathalie Heinrich مثل:
L’épreuve de la grandeur – la découverte 1999
Etre écrivain, la découverte 2011
حیث تمیزت هذه الناقدة الباحثة والأدیبة بصوغ أول مقاربة عامة لظاهرة «الجوائز الادبیة».
قبل ذلك، لابد من الإشارة، ولو بشكل عابر إلى الكثیر من الإحالات الواردة لدى باحث في «السوسیولوجیا الثقافیة» مثل بییر بوردیو الذي حفر عمیقا في «أشكال التبادل الرمزي للثقافة»، معبرا من جهة على أن موضوع الجوائز الأدبیة هو قضیة ثقافیة ولا یجب النظر إلیها بمحدودیة أفق یراها فحسب، قضیة أدبیة، وذلك لأن الإنتاج الأدبي هو بمثابة (منفعة عامة) تتجاوز حد الاعتبار الرمزي إلى حد الأثر المادي التي یخترق بنیات الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسیاسي.
ومن جهة ثانیة، فبالنسبة لبییر بوردیو، فإن الجوائز الأدبیة تكتسب مدلولها الرمزي باعتبارها تجسیدا لـ»فعل التزامي» (un acte d’engagement)، أي فعلا التزامیا تجاه الإنسان والعالم والقیم العلیا. فإذا كانت الأكادیمیة الفرنسیة تمنح جوائزها باعتبار الولاء لخدمة اللغة الوطنیة الفرنسیة، فإن جائزة نوبل (على الأقل في شقها الأدبي) احترمت معیار الالتزام، أي التزام الأدب بخدمة القضایا الإنسانیة بغض النظر عن عامل اللغة أو تأثیر الانتماءات الوطنیة.
یجب أن نتذكر هنا بأن تقالید الجوائز الأدبیة في أوربا، تأثرت وانعكس علیها الأثر البالغ التأثیر للسیاق السیاسي والثقافي لمرحلة الحربین العالمیتین الأولى والثانیة، وهو ما جعل سؤالا مثل سؤال الهویات الاجتماعیة والضمیر الفردي والجمعي، حاسما كل الحسم في أدبیات الجوائز الأدبیة بأوربا.
وفي مثل هذا السیاق سواء في أوربا، أو في العالم العربي – هذا الأخیر الكثیر الانشغال بالإرث الذاكرتي، وهاجس المصالحة بین
الذاكرة والتحدیث وبناء المرجعیة الوطنیة (بل إكراهاتها)، فإن ما اصطلح علیه بوصف الجوائز الأدبیة لم یتم فیه أبدا الرجوع إلى
المعیار الإستيطیقي بل إلى تعقيدات أخرى یؤطرها محور جدل السیاسي والثقافي. وهكذا، فإن جائزة المغرب للكتاب في شقها الأدبي (شعر – روایة – قصة) منحت وفق اختیارات إستيطیقیة معارضة . اختیارات كان فیها اسم الكاتب أهم تأثیرا من عنوان أو نص مؤلفة في نیل استحقاق الجائزة.
توضح ناتالي هینیش في كتابها السالف الذكر، أن الجوائز الأدبیة شأنها في ذلك شأن الأوسمة والتكریم وإقامة النصب التذكاریة والوقف والتحبیس والرعایة، وحمل الساحات والأحیاء والشوارع لأسماء أدبیة، هو تقلید ثقافي ینخرط في صلب ثقافة الاعتراف وهو مفهوم متواتر، سواء في خطاب وأدبیات سوسیولوجیا الثقافة، كما هو دعامة رئیسیة لدى المهتمین بخطاب الصناعات الثقافیة حیث تصیر للجائزة الأدبیة قیمة تسویقیة واستشهاریة في صناعة الكتاب وتداوله.
تقول ناثالي هینیش: «إن كل فعل اعترافي يستند الى علاقة ثلاثیة الأطراف:
«الطرف الأول هم الكتاب موضوع الجائزة الأدبیة، والطرف الثاني هم هیآت التحكیم والطرف الثالث هم القراء أو الجمهور بشكل عام».
وبالطبع فإنه لجعل الجوائز الأدبیة تحظى بقیمتها الاعتباریة كمحافل لتكریس ثقافة الاعتراف، فإنه لابد أن یكون مسلكها قائما على توخي العدالة، التي توضحها ناثالي في المبدأ «بأن لا نحرم من الجائزة من یستحقها كما لا یجوز منح الجائزة لمن لا یستحقها «.
ومتى تم خرق هذا المبدأ، فإنه یجب بلفظ ناتالي «تحریم مسلك منح الجوائز» لإبطالها مبدأ العدالة .
إن الجوائز الأدبیة تؤسس لتعاقد رمزي یرعى نبالة ثقافة الاعتراف، وهو تعاقد رمزي یجب أن لا یمسه التجریح خاصة في جانب السلطة التقدیریة المخولة لهیئات التحكیم وشروط اشتغالها.
إن مفهوم الجوائز الأدبیة هو مفهوم حدیث، لم یبدأ الحدیث عنه في المغرب مثلا إلا منذ سنة 1926 مع استحداث «الجائزة الأدبیة
للمغرب» و «الجائزة العامة للمغرب» قبل أن يتم تعدیل هذه الصیغة سنة 1936 باسم «جائزة المغرب» وقبل أن تستقر في وصف «جائزة المغرب للكتاب» سنة 2006.
یمكن القول إنه في سیاق بناء الدولة الوطنیة، حافظت هذه الجائزة عموما على احترام مبدأ رهن الجائزة بتجسید ثقافة الاعتراف، حیث حدث الجائزة یتحول إلى محطة تكریم وعرفان بالجهود التي یبذلها الكتاب والمثقفون والأدباء في خدمة الثقافة المغربیة.
لكن الانتقال من وصف «جائزة المغرب» إلى وصف «جائزة المغرب للكتاب» هو أمر لم یأت بمحض الصدفة، فلقد تم ذلك على عهد الوزیر محمد بنعیسى الذي على نحو ما، كان یرى في هذه الجائزة مستندا لنوع من حوار المواقع والولاءات الحزبیة . وبالطبع سيتشرب هذه الجائزة، بعض مظاهر الریع السیاسي الذي كان سابقا على ظهور ملامح الریع الثقافي ویخترق منظومة هذه الجائزة بنسب تزید أو تنقص في وقت لاحق.
لكن یجب توضیح أمر بالغ الأهمیة، وذلك أنه منذ منتصف الثمانینات كان المشهد الثقافي العربي قد عرف استقطابا للاهتمام والأنظار، یخص الجوائز الأدبیة العربیة التي ترعرعت في كنف مهرجانات عربیة مثل المربد (العراق) والجنادریة (السعودیة) أو الجوائز الأدبیة التي تم الإرساء لها في أكناف المؤسسات الإعلامیة والثقافیة الرسمیة (مؤسسة البابطین للإبداع الشعري وجائزة آل الصباح وجائزة الشیخ زاید واتساع دائرة ومحیط هذه الجوائز إلى مراكز مثل الإمارات والشارقة.
هذه الجوائز جعلتنا ننتقل من مفهوم الجائزة الوطنیة الخاصة بالشطر الواحد إلى مفهوم الجائزة العربیة التي تشمل مختلف الأقطار العربیة.
يتعلق الأمر بجوائز أدبیة لها حاضن رسمي، حیث الجوائز تحیل إما على شخص ذاتي یمتلك صفة حكومیة أو سیاسیة، أو تحیل على بلد یحمل رایة سیاسیة محددة.
في هذا السیاق من الصعب إقرار العمل بمبدأ ثقافة الاعتراف لأنها تشتغل أشبه بمسابقات أدبیة، وتخضع لمنطق تراضیات یخدم هاجس الریع الثقافي، ولیس بالضرورة مبدأ ثقافة الاعتراف.


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 15/05/2020