الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق (14)

سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

 

III – مراقبة العمل الحكومي

الـتفـاعـل مـع انـشـغـالات المـجـتـمـع

إذا كانت مراقبة العمل الحكومي من الاختصاصات والمهام التقليدية للبرلمانات، فإنها في الظروف التي تجتازها الديموقراطيات التمثيلية، وأمام النَّزعات المناهضة للبرلمانات عبر العالم، وفي سياق العوالم المفتوحة والمتواصلة، تتطلب الإبداع المستمر في صيغ التنفيذ، وذلك من أجل جعل عمل المؤسسات التشريعية في هذا الجانب، أكثر جاذبية، وأكثر قربا من المواطنات والمواطنين تعزيزًا لثقة المجتمع في المؤسسات ولمصداقية هذه المؤسسات.
وقد كان حرصنا خلال الولاية العاشرة، مع أجهزة المجلس ومكوناته السياسية، على أن يكون لكل قضية مجتمعية، ولكل حدث وطني، صداه في مجلس النواب إعمالا لمبدأ التفاعل مع انشغالات المجتمع، وتكريسًا للمبدأ المتمثل في أن القضايا الكبرى في المجتمع ينبغي أن تتم مناقشتها والتداول بشأنها وحلها في إطار المؤسسات والفاعلين فيها إما كممثلين منتخبين أو أًصحاب قرار ومنفذين، على أساس الحوار والتداول واقتراح الحلول والمخارج الواقعية والمتوافق بشأنها.
وإذا كان دستور 2011 أعطى زخما كبيرًا للإصلاح، فإنه في الآن نفْسِه ساهم في الرفع من سقف المطالب والطموحات والتطلعات، وهو ما كان على المؤسسات، خصوصًا مجلس النواب، التجاوب معه واستيعابه في الفعل الرقابي والاختصاص التقييمي.
وفي هذا الإطار،حرصنا على تفعيل مضامين الدستور في الشق المتعلق بالمراقبة البرلمانية على أشغال الحكومة، وكذا مواصلة مأسسة الوظيفة البرلمانية في تقييم السياسات العمومية، وجعل العلاقات بين مجلس النواب والمؤسسات الدستورية وهيآت الحكامة وهيآت حقوق الإنسان وحماية الحريات،مُنْتِجةً للحكامة وحسنِ التدبير ورافعة لتطوير ممارسات الاختصاصات والوظائف البرلمانية.
وفي هذا الأفق، وطبقا لأحكام الدستور، حرصنا في إطار أجهزة المجلس من مكتب ورؤساء فرق ومجموعة نيابية ورؤساء اللجن دائمة، على تعزيز المراقبة البرلمانية من خلال اعتماد مقاربة مبدعة ومتجددة للعمل الرقابي، وذلك إيمانا منا بأن هذا الاختصاص ليس مجرد آليات تقنية تتيح تتبع ومراقبة العمل الحكومي، ولكن بجعل المواطن في صلب اهتمامها وأولوياتها، وبتكريسها ثقافةً وممارسةً بهدف ترسيخ الديموقراطية، والإسهام في الرفع من وعي المجتمع، ونشر قيم المواطنة، وترسيخ التعددية السياسية والفكرية .
لقد توخينا في إطار أجهزة المجلس ومكوناته السياسية تطوير الوظيفة الرقابية للمجلس وجعلها تجسد المبدأ الدستوري المتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة والعمل في إطار التعاون والتكامل بين السلط على النحو الذي يجعل السياسات والبرامج والتدخلات العمومية منتجةً للأثر على حياة المواطنين، وذلك وفق رؤية مبنية على الفعالية والنجاعة، ووفق ما يستلزمه واجب التمثيل الديموقراطي وترسيخ مفهوم المؤسسة المواطنة والقريبة من الناس.
وإيمانا منا بأهمية المقاربة التشاورية والتشاركية في اختيار القضايا التي تتم إثارتها في الجلسات المخصصة للأسئلة الشفهية، سواء في إطار الجلسة الشهرية التي يجيب فيها رئيس الحكومة على أسئلة أعضاء المجلس بشأن السياسة العامة، أو الجلسات الأسبوعية المخصصة للأسئلة الشفهية القطاعية، عملنا بروح توافقية وإرادة جماعية ومنهجية مشتركة في إطار مكتب المجلس وفي إطار رؤساء الفرق والمجموعة النيابية من خلال تبادل الآراء والأفكار والإنصات المتبادل، مستحضرين خصوصية المرحلة والسياق الوطني.
هكذا كان يتم اختيار محاور الأسئلة الموجهة إلى الحكومة خاضعًا للسياق الوطني ومتجاوبا معه تفعيلا لمبدإ القرب، والحرص، ليس فقط على مواكبة الأحداث والقضايا المطروحة في المجتمع، ولكن بالتموقع داخلها وجعلها القضية الرئيسية في النقاش العمومي المؤسساتي والمجتمعي. ففي البرلمانات يجتهد الفرقاء/الشركاء السياسيون (الأغلبية والمعارضة البرلمانيون وأعضاء الحكومة) ويتدافعون ويترافعون بشأن القضايا المجتمعية، ويخلقون بذلك الحدث، ويثيرون النقاش العمومي في الفضاء العام: الإعلام ووسائط الاتصال الجديدة. وهذا عربون على حيوية المجتمعات وعلى تنوعها وعلى أصالة التعددية السياسية والفكرية. وقد كنا حريصين على أساس التوافق في إطار مكتب المجلس ورؤساء الفرق والمجموعة النيابية، ومع الحكومة، على أن تكون محاور ومداولات كل جلسة رقابية تسير في هذا الاتجاه وتعكس نبض المجتمع واهتماماته.
وبالموازاة مع جعل الرقابة على العمل الحكومي تعكس انشغالات الناس، عملنا على اطلاق دينامية جديدة، وأفق متجدد لإصلاح وعصرنة منظومة الأسئلة مع الحرص على احترام مقتضيات الدستور،وَتَطَلَّعْنا إلى جعلها أحد المداخل الأساسية لتطوير وإغناء العمل البرلماني، وتعزيز ثقة المواطنات والمواطنين في المؤسسة النيابية باعتبارها إطارًا دستوريا لممارسة وتطوير الديموقراطية التمثيلية والدفاع عن القضايا العادلة والمشروعة لمختلف الفئات الاجتماعية.
من أجل كل ذلك، حرصنا في بداية الولاية التشريعية على أن تكون مراجعة النظام الداخلي للمجلس،مدخلا لتحسين جاذبية ومردودية الجلسات المخصصة للأسئلة الشفهية، إذ عملنا على تطوير منظومة الأسئلة من خلال مراجعة تركيبة الأقطاب القطاعية الثلاث موضوع المراقبة في كل جلسة أسبوعية وتحديد ضوابط الأسئلة الآنية والزيادة في التوقيت المخصص للتعقيبات الإضافية توخيا لإشراك أكبر عدد من أعضاء المجلس ولمختلف الحساسيات السياسية في كل جلسة وفي مناقشة كل قطاع.
وواصلنا من جهة أخرى الحرص على ترصيد ما شُرع في إعماله خلال الولاية التاسعة باعتماد التوثيق الإلكتروني لجداول أعمال هذه الأسئلة ومداولات الجلسات وتفاديا لتكرار المواضيع محور المساءلة وحفاظا على الذاكرة البرلمانية، وتيسيرًا لتوريث المعلومات البرلمانية إلى الشباب والأجيال الصاعدة وجعل العمل البرلماني رصيدًا متاحًا للجميع، خصوصًا المتطلعين الى المشاركة في العمل السياسي المؤسساتي والباحثين والدارسين.
وفي إطار تكريس سياسة التواصل والانفتاح باعتماد التكنولوجيات الحديثة، باعتبارها دعامة أساسية لمواصلة تجويد منظومة الأسئلة، حرصنا على تعزيز البرلمان الإلكتروني بترسيخ آلية التدبير الالكتروني للأسئلة سواء في التواصل الداخلي بين أجهزة ومكونات وإدارة المجلس ومديريات الفرق والمجموعة النيابية أو في علاقة المجلس مع الحكومة.
في هذا الإطار، فَعَّلْنا إصلاحات جديدة على نظام تدبير تداول وتبادل الوثائق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحرصنا على اعتماد تطبيقات معلوماتية خاصة بالأسئلة ولا سيما تمكين أعضاء المجلس من تتبع مسار ومآل أسئلتهم وأجوبة الحكومة عليها، وغيرها من الإجراءات التي نعتبرها ناجعة في تسريع وتيرة العمل الرقابي وعصرنة وسائله وحاملاته. وينبغي الإقرار في هذا الصدد بأننا أسسنا في ذلك على المنجز في مجال البرلمان الالكتروني الذي تحقق منه الكثير خلال الولاية التشريعية التاسعة، برئاسة الزميلين كريم غلاب وراشيد الطالبي العلمي.
ومن جهة أخرى اتخذنا في أجهزة المجلس قرارا بنشر أجوبة أعضاء الحكومة على الأسئلة الكتابية التي يوجهها أعضاء المجلس إليهم. ويتعلق الأمر بإجراء يكتسي أكثر من بعد تقني، وبتدبير توخينا منه تمكين المواطنات والمواطنين من أن يكونوا في صورة جزء من أعمال ممثليهم في المجلس، والتأكد من أن قضاياهم وانشغالاتهم قد وصلت وأثيرت بطريقة دستورية ومؤسساتية، والاطلاع على الأجوبة المقدمة من قبل أعضاء الحكومة بخصوص هذه القضايا.
ولا تخفى أهمية كل ذلك في ممارسة الشفافية إزاء الرأي العام الذي ينبغي أن يكون في صورة اشتغال المؤسسة التشريعية ومُطَّلعًا على المعلومة.
ومن جهة أخرى حرصنا على تكريس مختلف الآليات التي يتيحها دستور المملكة والنظام الداخلي لمجلس النواب في مجال الرقابة على العمل الحكومي.
في هذا الصدد، وفي نطاق الاختصاص الرقابي للجن النيابية الدائمة، واستنادا للفصل 102 من الدستور الذي ينص على ” أنه يمكن للجن المعنية في كلا المجلسين أن تطلب الاستماع الى مسؤولي الإدارات والمؤسسات والمقاولات العمومية بحضور الوزراء المعنيين وتحت مسؤوليتهم”، حرصنا في أجهزة المجلس على تشجيع وتثمين الأعمال الرقابية للجن النيابية الدائمة، والتي توفر إمكانيات واسعة لتفعيل الرقابة على أعمال الحكومة والمؤسسات والمقاولات العمومية. وقد سجلنا بالفعل انخراطا أكبر للجن النيابية الدائمة في هذا الشق من العمل الرقابي.
ولم تثنِ الجائحة، اللجن النيابية الدائمة عن ممارسة مهامها الرقابية وغيرها في مرحلة الحَجْر الصحي، إذ كثفت من اجتماعاتها بحضور عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين المعنيين لمناقشة عدد من القضايا ذات الصلة بالوضع الصحي والحالة الوبائية والسبل الملائمة لتجاوز هذه الوضعية والإجراءات المتخذة لمواجهة انعكاسات الجائحة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
وقد كانت الجائحة مناسبة دشَّنَّا خلالها البث المباشر لأعمال اللجن على وسائل التواصل الاجتماعي إطْلَاعًا للرأي العام على أشغالها وسعيًا إلى جعل الرأي العام الوطني في صورة هذه الأشغال التي كانت محط متابعة واهتمام من طرف المواطنات والمواطنين كما تؤكد ذلك إحصائيات المتابعة.
وإعمالا لاختصاص الرقابة على الإنفاق العمومي، تنبغي الإشارة إلى ما أنجزه المجلس في مجال دراسة التقارير الموضوعاتية للمجلس الأعلى للحسابات بحضور الرئيس الأول لهذا المجلس وبمشاركة الحكومة في دراسة ومناقشة تلك المواضيع، مما شكل لحظات مهمة لمزيد من التفاعل بين المؤسستين وتفعيل مبدأ المساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 20/08/2021