الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق (15)

سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

 

III – مراقبة العمل الحكومي
لاخطوط حمراء في الرقابة على تدبير المؤسسات العمومية

 

ما من شك في أن مُنْجَزَ مجلس النواب في مجال الرقابة على الإنفاق العمومي وعلى تدبير المؤسسات العمومية، بالإضافة إلى النقاش العمومي الواسع الذي أثاره، هو بصدد المساهمة في إعمال مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وترسيخ حكامة المرفق العمومي، وتجويد خدماته وتبيُّن آثاره على المجتمع وعلى التنمية، ومراكمة مخارج وتوصيات واقتراحات يتم اعتمادها خلال النقاش بين المؤسسات الدستورية، على أساس معطيات وإحصائيات رسمية موثوق بها.
وقد سجلنا خلال الولاية العاشرة، وحرصنا على نحو جماعي في إطار مكتب المجلس ورؤساء الفرق والمجموعة النيابية، على أنه لا خطوط حمراء في الرقابة على تدبير المؤسسات العمومية من خلال مساءلة رؤسائها أو مدرائها بحضور الوزراء المعنيين. وقد كان للتوصيات التي توجت تقارير ومداولات اللجن، وبالتحديد لجنة مراقبة المالية العامة، أثر كبير في إثارة الاهتمام السياسي والمؤسساتي والإعلامي بأوضاع المؤسسات العمومية ومكانتها في الاقتصاد الوطني ودورها في التنمية.
ويظل الهدف، بالطبع، هو الحرص على حكامتها، وعلى تقويتها وإخضاعها لمبادئ ربط التدبير والمسؤولية بالمحاسبة، والنجاعة والمردودية، بالدعم العمومي.
وفي سياق تفعيل مختلف الآليات الرقابية للجن النيابية الدائمة، واصلت هذه الأخيرة إنجاز المهام الاستطلاعية، وهي آلية تكتسي أهمية خاصة في تعزيز الحكامة المؤسساتية وربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي الرفع من الأداء البرلماني من خلال استثمار الأعمال الميدانية والمداولات التي تجريها، ونتائجها، ومختلف التوصيات التي تتوج ذلك، في التشريع والرقابية وتقييم السياسات العمومية، إلى جانب أهميتها في تتبع المواضيع والمستجدات الوطنية، والوقوف عن قرب على السياسات والتدخلات العمومية وحكامة المرافق العمومية وإخضاعها للمراقبة والتقييم، على أن الهدف الاستراتيجي يظل هو جعل المرفق العام خاضعا لمبادئ حسن التدبير ومنتجا للخدمات وللقيم المضافة .
واعتبارًا لما تتميز به هذه الآلية الرقابية من قُرب ومرونة في المسطرة، فقد ثبت أنها مُغرية وجذابة، إذ تنوعت القضايا موضوع طلبات هذه المهام وتراكمت الطلبات الواردة من مختلف مكونات المجلس بإنجاز مهام استطلاعية. وفي المقابل سجلنا بُطْءًا في إتمام إنجاز غالبية المهمات التي تم الترخيص لها من طرف مكتب المجلس، إذ إن من بين 27 مهمة تم الترخيص لها تم الانتهاء من إنجاز تقارير ثمان مهام فقط، ثلاثة نوقشت في الجلسات العامة وخمسة في إطار اللجن النيابية الدائمة.
واستدراكا لذلك، وتمييزًا بين المهمات الاستطلاعية، من جهة وكل من اللجن النيابية لتقصي الحقائق وجلسات الاستماع إلى الوزراء ومسؤولي المؤسسات العمومية المكفولة للجن في إطار مهامها الرقابية، ودرءً لأي تأويل باستغلال المهام الاستطلاعية في التدافع والتنافس السياسي، حرصنا في إطار مكتب المجلس على إعداد واعتماد “لائحة داخلية لتنظيم أشغال وسير أعمال المهام الاستطلاعية”.
ويظل الهدف من ذلك بالطبع، هو ملء الثغرات التي عانت منها الممارسة واشتغال المهام الاستطلاعية في ما يخص زمن الإنجاز، وبعض الإشكاليات المرتبطة باختيار مواضيع المهام الاستطلاعية، والتأليف وتدبير الأعمال وحالات تنازع المصالح وتحرير التقرير والتوصيات وغيرها من الإشكالات المرتبطة بالسير العملي لهذه الآلية..
ونعتقد أن هذه اللائحة الضابطة لآلية رقابية مرنة وبيداغوجية ستُسْعِف أكثر في المستقبل في عقلنة وترشيد أحسن لسير أشغالها وتحقيق مردودية ونجاعة أكثر.
وقد دعمنا هذا الجانب المسطري باعتماد التكنولوجيات الحديثة وتطبيق معلوماتي يتيح تتبع مسار هذه الآلية في جميع مراحلها مع إمكانيات واسعة للبحث والتتبع لهذه المراحل بدءًا من تلقي طلبات الفرق بإنجاز مهام استطلاعية وقرار مكتب المجلس والمناقشة على مستوى اللجنة أو الجلسات العامة.
وإعمالا لمنهجية التتبع والترصيد وإضفاء المصداقية على الالتزامات العمومية، وتعزيزًا للثقة في العمل البرلماني والحكومي وجعله أكثر فعالية ونجاعة، واصل المجلس جرد التعهدات والالتزامات الحكومية خلال جلسات الأسئلة الشفهية الأسبوعية، حيث يتم كُلَّ أسبوع وبعد الانتهاء من جلسة الأسئلة الشفهية ونشر اشغالها في الجريدة الرسمية للمجلس وضع جرد شامل للتعهدات التي عبر عنها أعضاء الحكومة في سياق ردهم على أعضاء المجلس.
وبالنظر إلى الأهمية التي تكتسيها هذه الآلية، وتوخيا لجعل الرقابة البرلمانية منتجة للتدابير والقرارات والسياسات الحكومية، قررنا في إطار مكتب المجلس توسيع مجال جرد هذه التعهدات الحكومية لتشمل جلسات اللجن النيابية الدائمة، إلى جانب الجلسات العامة للأسئلة الشفهية، كما تم الاتفاق، على مستوى الهياكل السياسية للمجلس، على عقد جلسة للأسئلة الشفهية برسم كل دورة تشريعية تُخَصَّصُ لمناقشة التعهدات الحكومية، وهي الخطوة التي من شأنها تعزيز مراقبة المجلس للعمل الحكومي وتَبَيُّن مدى وفائها بالتعهدات التي يؤكدها أعضاؤها خلال تلك الجلسات الرقابية.
إِلى جانب هذا، وفي إطار تعزيز الرقابة اللاحقة من جانب اللجن النيابية، تم التنصيص في النظام الداخلي للمجلس على مقتضيات تتيح للجن الفرعية باللجن النيابية الدائمة مراقبة تطبيق القوانين وتتبع شروط وظروف تطبيق النصوص التشريعية التي تدخل في اختصاص اللجن النيابية وتقييم آثارها على المجتمع.
لقد سعينا، معًا وسويًا، في إطار المكتب ورؤساء الفرق والمجموعة النيابية، خلال الولاية العاشرة، إلى تجسيد برلمان القرب في ممارسة الاختصاص الرقابي للمجلس من خلال التفاعل مع أحداث وقضايا وتطلعات ومطالب المجتمع، ومع القضايا الحيوية لبلادنا، واشتغلنا على النحو الذي يعزز تموقعها الإقليمي والقاري والدولي.
وكان هدفنا الجماعي، بالطبع، هو تعزيز الثقة في المؤسسات وزيادة مصداقية هذه الأخيرة، وجعل ممارسة اختصاصاتها ووظائفها ومهامها منتجة للأثر في السياسات العمومية.
ويتأكد من كثافة الأعمال الرقابية والحرص على ممارستها من جانب مكونات المجلس، وجودَ مَيْل عام في أعمال المجلس إلى ماهو رقابي وتقييمي، بالقدر نفسِهِ الذي تتم به ممارسة أعمال التشريع. ويطرح هذا الاستنتاج عدة تحديات بالنسبة للنخب البرلمانية، يتعين البحث عن آليات رفعها، ويحمل عدة رهانات ينبغي الحرص على تحقيقها. ومن ذلك رهان الحضور المنتج والاستعداد الدائم لإنجاز المهام. ومن ذلك أيضا، الحرص على عدم هدر الزمن البرلماني والسياسي، وتجويد الإنتاج وتَبَيُّنُ الأثر والتواصل بين مكونات المجلس ومع الحكومة والرأي العام، وإعطاء مضمون حقيقي للمقتضى الدستوري المتمثل في التعاون والتكامل والتوازن بين السلط.
ويطرح الزخم الكبير والمحتوى الغني لمداولات المجلس، وهو يمارس اختصاصاته الرقابية، أسئلة تعتبر الإجابة العملية عليها حاسمة في الإسهام المؤسساتي في ترسيخ نموذجنا الديموقراطي وممارستنا البرلمانية. ومن ذلك مثلا :
أي مردودية وأي وقع لهذا الغنى، وهذا النقاش المؤسساتي على المجتمع، وعلى السياسات العمومية والتدخلات الحكومية، وسير المرفق العام وأدائه ؟
كيف ينبغي أن يُصَارَ إلى التأكد من تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، إما في صيغة تعهدات حكومية أو توصيات تتوج تقارير ومهام برلمانية ؟
كيف ينبغي تحويل هذا الكم الكبير من الأفكار والاقتراحات والتوصيات والمُخْرَجَات إلى تشريعات وسياسات عمومية وقرارات وتدابير حكومية وعمومية، عملا بمبدإ جعل التراكم الكمي ينتج النوع، واستبطان ثقافة التراكم والترصيد واستثمار المنجز والبناء عليه من أجل تجويد السياسات والبرامج والتدخلات العمومية، على النحو الذي يجعلها ذات مردودية على المجتمع وعلى التنمية ؟
والى جانب المنجز في مجال المراقبة البرلمانية، واصل المجلس خلال الولاية التشريعية العاشرة ممارسة اختصاصاته في مجال تقييم السياسات العمومية.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 23/08/2021