الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق 19 : سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

1. عمقنا الإفريقي :
جدارة الانتماء ومسؤولية التــرافع البرلماني

 

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

تزامن تنصيب مجلس النواب برسم الولاية التشريعية العاشرة مع إطلاق دينامياتٍ حاسمة عرفتها الديبلوماسية الوطنية بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، كان أبرزها الانجاز الاستراتيجي الفاصل، البنيوي والتاريخي الذي قاده جلالته بتبصر وحكمة ورؤية استباقية والمتمثل في عودة المغرب إلى أسرته المؤسسية الإفريقية : الاتحاد الإفريقي، في يناير 2017.
وقد توجت هذه العودة عدة ديناميات وعملا جبارًا مقتدرًا قاده في الميدان جلالة الملك على المستوى الثنائي في القارة الإفريقية تمثل في الزيارات الرسمية العديدة التي قام بها جلالته إلى أغلبية البلدان الإفريقية ومئات الاتفاقيات التي أشرف على توقيعها والمشاريع المشتركة التي أشرف مع أشقائه رؤساء الدول الإفريقية، على إطلاقها وتتبعها.
وتنطوي عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي على عدة رهانات، رهاناتٌ من أجل شعوب إفريقيا، ومن أجل ضخ نَفَسٍ جديد في العمل الإفريقي المشترك، وفي مؤسسة الاتحاد. فالشراكات التي عقدها المغرب مع محيطه الخارجي، في الفضاء الأرومتوسطي والأمريكي ومع القوى الصاعدة في مختلف المناطق الجيوسياسية وتموقُعُه ومصداقيتُه، والثقة التي يحظى بها على الصعيد الدولي، جعلت منه ليس فقط شريكا ذا مصداقية ويُعْتمد عليه، ولكن قوةً صاعدة بخِبْراتٍ في السياسة الدولية، وهي الحقيقة التي تعززها الإصلاحات الدستورية والسياسة والمؤسساتية المتراكمة، والمتدرجة التي تحققها بلادنا. وهذه القوة وهذا الرصيد من التموقع هو ما سعى المغرب ويسعى إلى تقَاسُمِه مع أشقائه في الدول الإفريقية التي تواجه تحديات كبرى.
وفي مجلس النواب، وَضَعَنَا هذا التموقعُ، وهذه المكاسبُ المحققةُ بقيادة جلالة الملك أمام امتحان الإسهام المؤسساتي، الوطني والمواطن في مواكبة الدبلوماسية التي يقودها جلالته، والاضطلاع بأدوارنا ومهامنا في واجهة الدبلوماسية البرلمانية الثنائية ومتعددة الأطراف.
ومن المصادفات الحسنة أيضا أن يكون أولُ مشروع قانون يصادق عليه مجلس النواب برسم الولاية التشريعية 2016-2021 يتعلق بالموافقة على القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي الموقع بلومي عاصمة الطوغو في 11 يوليو سنة 2000، والذي كان التصديق عليه حاسما ومدخلًا مسطريًا لعودة بلادنا إلى المنظمة الإفريقية.
وقد فتحت هذه العودة آفاقا جديدة أمام الدبلوماسية البرلمانية المغربية. ففضلا عن انضمام البرلمان المغربي إلى برلمان عموم إفريقيا، كان علينا أن نكون في مستوى العمل الدبلوماسي النبيل الذي يقوم به جلالة الملك في القارة، وأن نعطي بُعدًا برلمانيا مواكبًا للقضايا الحاسمة بالنسبة لشعوبها.
وهكذا شكلت قضايا القارة الإفريقية محور اهتمام خاص من طرف مجلس النواب. وتنوعت مداخلُ هذا الاهتمام، وتوزعت بين الحرص على توثيق الاتصالات وتبادل الزيارات مع عدد من البرلمانات الوطنية، والبرلمانات الجهوية، والمساهمة النوعية والفاعلة في أعمال المؤتمرات والمنتديات البرلمانية القارية.
وبجانب الحرص على مأسسة العلاقات مع البرلمانات الوطنية والجهوية وتأطيرها من خلال اتفاقيات ومذكرات تفاهم، حرص مجلس النواب على أن يكون التفكير الجماعي في القضايا الحيوية لشعوب القارة، منهجيةً جديدةً في الدبلوماسية البرلمانية التي ينفذها.
وقد بادرنا إلى تنظيم عدد من المؤتمرات والندوات والمناظرات التي كانت إطارًا لهذا التفكير الجماعي والنقاش الذي ساهمت فيه عدة مؤسسات وطنية وممثلون لمنظمات برلمانية قارية وجهوية، وبرلمانات وطنية وخبراء، في سياق ترصيد ومأسسة العمل البرلماني الإفريقي، واقتراح رؤى وأفكار بشأن قضايا حيوية بالنسبة للقارة من قبيل البيئة والاختلالات المناخية والتحديات التي تطرحها، والاندماج الاقتصادي الإفريقي وتحدياته وفوائده، والهجرة وحرية تنقل الأشخاص والبضائع.
وقد تَـمَثَّلَ مجلسُ النواب في تصور هذه الملتقيات وتنظيمها ومُخرجاتها رؤية جلالة الملك
محمد السادس لقضايا القارة الإفريقية وسبل النهوض الاقتصادي والبناء السياسي والمؤسساتي للقارة، وتمكين شعوبها من الحق في الحرية والديموقراطية والكرامة والاستثمار الأمثل لإمكانيات وخيرات القارة ومواردها البشرية بما يعزز اقتدارها واستقرارها وأمنها السياسي والاستراتيجي والغذائي.
وكان المرجع، في هذا العمل وفي مبادراتنا، سياسة المغرب الإفريقية المبادرة والجريئة الهادفة للبحث عن الربح المشترك والشراكة المنتجة وإعطاء مضمون عملي للتعاون جنوب-جنوب، وإنجاز ما من شأنه تيسير قيام أفريقيا الجديدة وتلبية حاجيات شعوبها. وقد استندنا في هذا الإنجاز، من الناحية السياسية، إلى إسهامنا النوعي في تعزيز مكانة ومبادرات الاتحاد البرلماني الإفريقي الذي تولى المغرب رئاسة أجهزته لعدة دورات واحتضن مؤتمراته منذ أكثر من أربعين عامًا، وإلى العلاقات الثنائية الوطيدة التي تجمع المجلس بنظرائه في أغلبية البلدان الإفريقية.
وتوخى المجلس، من بين ما تَوَخَّاهُ من احتضان هذه التظاهرات، اسْتِجْمَاع وتعبئة طاقات وإمكانيات البرلمانات الإفريقية وتوحيد جهودها من أجل الدفاع عن حقوق بلدان القارة لدى المجموعة الدولية، والتحدث بصوت موحد وهي تَتَرَافَعُ عن مصالح إفريقيا، والتعريف بإمكانياتها، وبالنهوض الإفريقي الجديد، في سياق دولي لا مكان فيه للكيانات الصغرى، وللمبادرات الفردية، وللانغلاق القُطري.
وكانت هذه المنتديات مناسبة لتشخيص التحديات التي تواجه القارة من قبيل تحقيق التنمية وبناء المؤسسات وتوفير الخدمات الاجتماعية، كالتعليم والتكوين والتشغيل، والاختلالات المناخية وانعكاساتها الكارثية على القارة، وتحقيق الأمن الغذائي، والتماسك الاجتماعي، والهجرة وتسوية النزاعات والأزمات والوقاية منها.
وشكلت هذه المنتديات مناسبة ليتعرف شركاؤنا، في باقي البرلمانات الإفريقية، على ما تحققه بلادنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفي مجال الحفاظ على البيئة، وتقدير مدى الحرص من جانب المغرب، على المساهمة الصادقة في بناء إفريقيا وتيسير صعودها، باعتبارها قارة المستقبل وأرض الفرص الجديدة.
وكانت من جهة أخرى، مناسبة لتكريس الثقة في العلاقات الإفريقية-الإفريقية، هذه القيمة الضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى في العلاقات الدولية، وهي واحدة من أهداف سياسة المغرب الإفريقية التي يرعاها في الميدان، من خلال مئات المعاهدات والاتفاقيات، والمشاريع الإنمائية المهيكلة، جلالة الملك محمد السادس، وهي السياسة التي كانت أيضًا موضوع تقدير وإشادة المشاركين في سلسلة الملتقيات التي احتضنها المجلس، كما في اللقاءات الثنائية ومتعددة الأطراف.
وإذا كانت جائحة كوفيد 19 قد حدَّت من طموحنا في تنظيم مزيد من المؤتمرات ذات الصلة بقضايا قارتنا، فإننا فخورون بتنظيم ثلاث ملتقيات كبرى تتعلق بـ : “المناخ والتنمية المستدامة، من الاتفاقيات إلى العمل : رؤية البرلمانيين الأفارقة” وهو لقاء تشاوري نظمناه يوم27 أكتوبر 2017، وندوة حول موضوع : “تيسير تنقل الأشخاص والبضائع بين البلدان الإفريقية : أي آليات؟” الذي نظمناه بالتعاون مع برلمان المجموعة الاقتصادية لدول أفريقيا الغربية يوم 22 مارس 2018، وندوة “الاندماج الإفريقي: التحدي الكبير ” الذي نظمناه يوم 06 دجنبر 2017.
وشكلت الدورة 22 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة-الإطار حول التغيرات المناخية (Cop 22) التي احتضنتها مدينة مراكش في نونبر 2016، محطة فاصلة في الانتقال إلى تنفيذ التزامات باريس بشأن المناخ.
وتكريسا للبعد البرلماني للعمل الدولي من أجل المناخ، واعتبارًا لمساهمة بلادنا في تحقيق أهداف التعاقدات الدولية من خفض الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، دعونا في البرلمان المغربي إلى اللقاء التشاوري السابق الذكر حول “المناخ والتنمية المستدامة، من الاتفاقيات إلى العمل: رؤية البرلمانيين الأفارقة” عشية الدورة 23 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة – الإطار حول التغيرات المناخية (cop 23) التي ترأستها فيجي واحتضنتها ألمانيا (نونبر 2017)، إدراكاً منا لحجم التحديات التي تواجهها قارتنا جراء الاختلالات المناخية، ووعيا منَّا بضرورة الترافع البرلماني من أجل مصالح شعوبنا، وإسهاما منا أيضا في الحركة العالمية العازمة على تفعيل استراتيجية تهدف إلى إنقاذ مستقبل الإنسانية جمعاء.
وجسد تنظيمنا لهذا اللقاء التشاوري الذي توج بوثيقة تعكس الموقف الإفريقي الـمُطالب بضرورة إقرار عدالة مناخية، بالملموس التزام المغرب الثابت من أجل حقوق القارة وتقدمها. وفي هذا الصدد حرصنا على التذكير بقمة العمل الإفريقية الأولى التي دعا إليها وترأسها صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم 16 نونبر 2016 على هامش الدورة 22 لقمة المناخ في مراكش، والتي توجت ببيان ختامي هو بمثابة رؤية استراتيجية لما ينبغي القيام به لفائدة إفريقيا في مواجهة انعكاسات الاختلالات المناخية، وكان التذكير بذلك، إشارة مشتركة بين مجموع المشاركين في المنتدى.
وكانت هذه القمة حلقة في سلسلة المبادرات المغربية الملموسة في القارة المُجَسَّدَة في مشاريع الشراكة والتعاون المؤطرة بما يزيد عن 1500 اتفاقية وبروتوكول، أكثر من ألف منها وُقِّعَت منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش.
وتجسد هذه الترسانة من الاتفاقيات والتعاقدات، الحرص المغربي الثابت على تفضيل التعاون جنوب-جنوب، والتعاون المنظَّم والمتفاوَض بشأنه والإرادي مع إقران الكلام بالفعل.
لقد تمكنا في اللقاء البرلماني الإفريقي حول المناخ والتنمية من لَمِّ شَمْلِ البرلمانيين الأفارقة حول هدف مركزي مشترك، هو الترافع من أجل إفريقيا، من أجل مصالح الشعوب الإفريقية، من أجل مستقبل إفريقيا، ومن أجل العدالة المناخية لإفريقيا، وهو ما حملناه كمبدإٍ قارٍ في اتصالاتنا ومفاوضاتنا ومبادراتنا البرلمانية على الصعيد الدولي.
كان هاجسنا أنه، بعد اتفاق باريس التاريخي الذي تَوَّجَ الدورة 21 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة -الإطار للتغيرات المناخية، وبعد اعتماد خطة العمل الدولية في الدورة 22 بمراكش، لاتزال بلدان قارتنا تتطلع إلى عدالة مناخية حقيقية، وإلى الوفاء بالالتزامات المالية لفائدة إفريقيا من جانب القوى الصناعية، حتى تتمكن من مواجهة الاختلالات المناخية. إن الأمر يتعلق بحق أساسي يندرج في إطار جيل جديد من حقوق الإنسان والشعوب.

وإذا كانت قارتنا قد تمكنت من تحقيق التقدم في عدد من المجالات وتجاوز عدد من الصعوبات التي واجهتها خلال عقود، من قبيل النزاعات الداخلية والعابرة للحدود في عدد من البلدان، فإن حالها ومستقبلها لا يزالان مرهونين بثقل معضلات الحاضر.
إن إفريقيا التي لا تتجاوز مساهمتها 4% من مجموع انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، (40 في المائة منها مَصْدَرُه دولة واحدة)، هي القارة الأكثر تضررا من هذه الاختلالات المناخية الذي يتسبب فيها الآخرون الذين استفادوا من التصنيع وثماره، ومع ما ينجم عنه من تلويث وإضرار بالبيئة وإجهاد للتربة واستغلال مفرط للثروات البحرية.
أما مظاهر هذه الانعكاسات على إفريقيا، فإنها لا تحتاج إلى كبير عناء للإثبات : تراجع الغطاء الغابوي، و توسع رقعة التصحر ونضوب عدد من منابع المياه من بحيرات وأنهار أو تقلص مخزوناتها وإجهاد التربة، وجفاف هيكلي، وأحيانا الفيضانات المهولة.
وإلى جانب كون هذه الظواهر الطبيعية تدفع فئات واسعة من السكان إلى الفقر وتحرمها من مصادر الدخل، خصوصا في الوسط القروي، فإنها تتسبب في موجات نزوح جماعي وهجرة إلى المدن، وأخرى عابرة للحدود وللقارات، مع تداعيات ذلك على التعمير وعلى الاستقرار الاجتماعي والأمن.
وتعتبر النساء والأطفال وسكان المجالات القروية الفئات الأكثر هشاشة وتعرضا للتداعيات السلبية للاختلالات المناخية، فيما يتعرض المزارعون لخسائر فادحة جراء ضياع المحاصيل ما يدفع عددًا كبيرًا منهم إلى البطالة والهجرة والفقر.
وتهدد انعكاسات الاختلالات المناخية على الفلاحة، الأمن الغذائي في القارة، وهو الهش أصلا، كما أن من شأنها كَبْحُ الديناميات التي قد تشهدها قطاعات أخرى.
وتوجد الفلاحة في قلب رهانات التنمية بالقارة اعتبارًا للدور الحاسم والمركزي للقطاع في الأمن الغذائي والتشغيل واستقرار الساكنة، مما حفَّزنا على أن نجعلها في قلب مرافعاتنا البرلمانية.
وبالطبع، فإن هذا الرهان لا ينبغي أن يُنسيَنا الدور الحاسم لإنتاج الطاقة من المصادر المتجددة النظيفة، الشمسية بالأخص. وأمام العجز الكبير في تزويد الساكنة في عدد من بلدان القارة بهذه المادة الحيوية، ينبغي أن نربط هدف تعميمها بإنتاجها من مصادر متجددة، وهي مصادر متوفرة على نطاق واسع في إفريقيا.
وضمن ما تحتاجه إفريقيا من تجهيزات أساسية، تحتاج الى بنيات تعبئة المياه والحفاظ عليها وتعميم الماء الشروب على السكان، فيما تشكل المحيطات التي تطوق القارة مصدرا استراتيجيا للغذاء وللتشغيل وضَخّ ديناميات جديدة في أنشطة خدماتية وتجارية.
وإذا كان التمويل يظل الحلقة المفقودة في مجموع الاستراتيجيات التي يمكن تنفيذها في هذه القطاعات، فإن ضمانه رهين بتوفر الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى والمانحين الدوليين الذين عليهم أن يدركوا أن الأمر يتعلق بالاستثمار في المستقبل المشترك وباقتصاد جديد يساعد على إنقاذ الإنسانية.
وقد أسفرت المفاوضات بشأن التغيرات المناخية وخطط العمل لِلحدِّ منها عن تحديد عدد من آليات التمويل، أهمها ” الصندوق الأخضر من أجل المناخ” الذي تم التعهد بضخ 100 مليار دولار فيه لتمويل الدول النامية ضحية الاختلالات المناخية. ومع كامل الأسف، فإن تموين هذا الصندوق يبقى دون الطموحات بكثير.
وقد اعتبرنا أن التضامن الدولي والالتزام وقيمة التعاقد السياسي والأخلاقي كانت وما تزال ممتحنةً أمام معاناة ملايين الأفارقة فيما لا يزال سؤال المسؤولية الأخلاقية إزاء مستقبل الأرض والحياة، مطروحًا.
أمام هذه النتائج، اعتبرنا أن ما تحقق في باريس في 2015 وفي مراكش 2016 يفتح باب الأمل، ويحفزنا على المضي قُدُمًا، وعلى التصميم، على العمل في الواجهة البرلمانية وفي المنظمات الدولية على جعل العدالة المناخية لإفريقيا، بكل ما تختزله من حمولة إنسانية، تتصدر الأجندة الدولية ليس فقط في ما يتعلق بالمناخ والبيئة، ولكن في كل المفاوضات متعددة الأطراف ذات الصلة بالتنمية والتمويل والسكان والهجرة والنزوح وغيرها من المنتديات.
ومن باب تحصيل الحاصل، التأكيد على تصميم المغرب الثابت والقوي على مواصلة إعمال التضامن الإفريقي الملموس ومواصلة بناء الشراكات المثمرة وذات الفائدة على كل الأطراف الإفريقية، ووضع تجاربه وخبراته رهن إشارة الأشقاء الأفارقة. وكما أكد ذلك جلالة الملك
محمد السادس في افتتاح قمة العمل الإفريقية المنعقدة على هامش مؤتمر مراكش للتغيرات المناخية فـ ” إن منظورنا للتعاون جنوب-جنوب واضح وثابت : فبلدي يتقاسم ما لديه، دون مباهاة أو تفاخر”.
ومن المشاريع التي تعتبر رائدة وتكتسي أبعاد اجتماعية وإنمائية استراتيجية، مبادرة تكييف الفلاحة الإفريقية التي أطلقها المغرب عشية الدورة 22 لمؤتمر التغيرات المناخية بمراكش، والتي تتوخى الحفاظ على البيئة والتربة وتمويل المشاريع وتحسين المداخيل وزيادة المحاصيل وتطوير أساليب الإنتاج. وكما أكد ذلك جلالة الملك في خطابه أمام القمة الاتحاد الإفريقي المنعقدة في نهاية يناير 2017 بأديس أبابا : “… لا الغاز ولا البترول بإمكانه تلبية الحاجيات الغذائية الأساسية. أليس الأمن الغذائي أكبر تحد تواجهه القارة الإفريقية ؟ وهذا هو جوهر المبادرة من أجل تكييف الفلاحة الإفريقية مع التغيرات المناخية، التي تعرف بمبادرة “Triple A”، التي أطلقناها بمناسبة قمة المناخ “كوب 22″. إنها مبادرة تمثل جوابا جد ملموس وغير مسبوق، لمواجهة التحديات المشتركة المترتبة عن التغيرات المناخية. فمباشرة بعد إطلاقها، حظيت هذه المبادرة، بدعم قرابة ثلاثين بلدا”.
وإلى هذه المبادرة، تنضاف المشاريع المهيكلة التي تنجزها مؤسسات مغربية استراتيجية من أجل تطوير الفلاحة في عدد من البلدان الإفريقية، ومنها مثلا مشروع بيوت المزارعين التي تهم عشرة بلدان افريقية.
وقد أعَدْنا التذكير أمام زملائنا الأفارقة سواء في اللقاء التشاوري البرلماني في الرباط أو في مناسبات أخرى، بأن خبرات المغرب وتجاربه ستكون مفيدة للبلدان الإفريقية الشقيقة في مجال إنتاج الطاقة من مصادر متجددة وبالخصوص الطاقة الشمسية. والأمر نفسه بالنسبة لتعبئة الموارد المائية والاستغلال الامثل والعقلاني للثروات البحرية التي لاشك ان لعدد من البلدان الشقيقة تجارب متقدمة فيها، واستندنا إلى الالتزام الملكي الملموس، في تذكير زملائنا البرلمانيين الأفارقة بصدقية السياسة المغربية في افريقيا.
إذا كانت قارتنا قد حققت انتقالات في عدد من المجالات، في مواجهة الاختلالات المناخية التي توسع مساحات الهشاشة، فإنها في حاجة إلى تمويلات استراتيجية لرفع التحديات الناجمة عن هذه الاختلالات. إنها واحدة من مهامنا التي أكدنا على ضرورة الترافع بشأنها في سياق توحيد جهودنا من أجل مستقبل إفريقيا، التي هي في قلب منافسة دولية على مواردها وإمكانياتها وأسواقها وفرص الاستثمار فيها. وقد اعتبرنا أن مطلب العدالة المناخية لإفريقيا، ليس استجداءً لمساعدات، بل هو مشروعُ شراكةٍ من أجل المستقبل، وجَبْرُ ضررٍ جماعي عما تعرضت له القارة جراء تلويث الكوكب الأرضي، لا تتحمل فيه شعوب قارتنا المسؤولية، ومع ذلك فإنها تؤدي ثمن سلوكات الآخرين.
وقد توج منتدى أكتوبر2017بالمصادقة على “إعلان الرباط” الذي أصبح منذ ذلك الحين وثيقة مرجعية في الترافع من أجل العدالة المناخية لإفريقيا. فقد تم إبلاغه كوثيقة رسمية لرئاسة الدورة 23 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة – الإطار الذي انعقد ببون، ولرئاسة الاتحاد البرلماني الدولي. وحَرَصَتِ الشُّعبةُ المغربية في الاتحاد، وهي تسلم رسميا هذه الوثيقة، إلى رئاسة Cop23 على التشديد على التزام البرلمانيين الأفارقة بالدفاع عن قضايا المناخ وعلى مركزية هذه القضية في الدبلوماسية البرلمانية متعددة الأطراف.
وإننا فخورون بأن يتجسد الانخراط البرلماني في قضية باتت تتصدر الأجندات الدولية سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، وبأن يحصل ذلك على إثر احتضان بلادنا للدورة 22 لمؤتمر المناخ الذي حرص ملك المغرب على أن يعطيه مضمونًا عَمَلِيًا، يجسد على نحو خاص حِسَّ التضامن مع إفريقيا.
وليست التحديات المرتبطة بالمناخ سوى رزمة من التحديات التي تواجه القارة الإفريقية. ففي زمن العولمة، ومقابل التجمعات والتكتلات الإقليمية الاقتصادية الكبرى، ما تزال دول إفريقيا تواجه تحدي التنمية على نحو عمودي. واسهامًا من المُشَرِّعِينَ الأفارقة في النقاش المؤسساتي على طريق إقرار منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية « ZLECAF » التي وقعت في مارس 2018، بادرنا إلى تنظيم ندوة افريقية يوم 6 دجنبر 2017 حول موضوع “الاندماج الإفريقي : التحدي الكبير”. وكان هاجسنا من تنظيم هذا اللقاء تقديرًا منا لكون الاندماج الإفريقي لم يعد اختيارًا، بل ضرورة. فإفريقيا إما أن تكون موحدة متضامنة متماسكة، تخاطب عالم التكتلات بمنطق المصالح المتبادلة، أو تضيّع الفرص التاريخية المتاحة أمامها.
وليس ما تعيشه إفريقيا اليوم من ديناميات اقتصادية ومؤسساتية، بالحدث العابر. إن الأمر يتعلق بتحولات عميقة من خلال مشاريع تُؤَّشِّر بالفعل على قيام إفريقيا جديدة، وذلك كنتيجة موضوعية لعدة عوامل : فالقارة اليوم هي محل تنافس دولي، مصدره الغرب كما الشرق، إذ إن جميع القوى والتكتلات الاقتصادية والجيوسياسية تؤكد اليوم أهمية إفريقيا الاقتصادية وتتسابق إلى ترسيخ حضورها في القارة، خصوصًا في السياق الدولي الحالي، المتميز بعولمة شاملة. فإلى جانب ما توفره العولمة من إمكانيات وتتيحه من فرص في مجال المبادلات، فإن التاريخ المعاصر يعلمنا أن ما من أمَّةٍ نهضت وحققت ما هي عليه القوى الكبرى اليوم، بالانغلاق والانطواء على الذات. إن هذا الدرس هو ما ينبغي لإفريقيا أن تتعلم منه بناء استراتيجيات اقتصادية تتجاوز الأبعاد والإطارات الوطنية، وتخطط على أساس رؤية قارية منفتحة على العالم، ومتوجهة إلى حيثُ يمكن بناءُ الشراكات المتينة وفق منطق الربح المشترك، وتحرير التجارة وإنشاء التجهيزات الأساسية الضرورية لتحقيق هذه الغايات (الطرق والموانئ والمناطق اللوجستيكية والسكك الحديدية …).
ومن جهة أخرى، يعلمنا التاريخ والنماذج المقارنة أن تَحَقُّق الاندماج الإفريقي ينبغي أن يتم على أساس التراكم وحسن توظيف واستثمار فرص التكامل، والتأسيس على الحلقات الناجحة في التكتلات الإقليمية الإفريقية الذي تعتبر المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (CEDEAO) أحد نماذجه المتميزة والواعدة التي يمكن الاعتماد عليه.
وتتوفر إفريقيا على إمكانيات بشرية وطبيعية وموارد اقتصادية وخيرات هائلة. كما أنها تخلصت من عدد كبير من النزاعات الداخلية والعابرة للحدود، وحقق العديدُ من بلدانها انتقالاتٍ مؤسساتية سلمية، وهي بصدد بناء مرتكزاتها الديموقراطية ودولة المؤسسات، فيما أصبح الاختيار الديموقراطي أفقا للانتقالات السياسية. إنها عوامل أخرى تيسر الاندماج الإفريقي واشراك الشعوب في هذا المسلسل الذي يحتاج إلى الحوار والتوافق كي يترسخ ويتمَّ تَمَلُّكُه من طرف الشعوب.
وما أحوج القارة إلى هذا النموذج، من أجل رفع التحديات التي تواجهها، ومن بينها وأبرزها، ظاهرة النزوح والهجرة التي كانت تتصدر وقتها (2017) التقارير الإخبارية وتقارير المنظمات الدولية على إثر الكشف عن معاملة مشينة ومقيتة، وعن واحد من أسوأ أوجه الاتجار في البشر من طرف جماعات مسلحة بليبيا ضحيته شباب ونساء وأطفال من بعض بلدان إفريقيا.
وعوض تقديم حركات الهجرة كمادة إعلامية، ينبغي التعاطي السياسي المسؤول مع جذورها وأسبابها ودوافعها. فالذين يغادرون بلدانهم بحثا عن ظروف عيش آمن أو دخل مادي يضمن الكرامة، إنما يقومون بذلك مضطرين، إما بسبب النزاعات المسلحة أو الظروف المناخية الصعبة أو الفقر أو البطالة. و قد حلل جلالة الملك محمد السادس في الرسالة الملكية السامية التي وجهها إلى قمة الاتحاد الإفريقي – الاتحاد الأوروبي المنعقدة في نهاية شهر نونبر 2017 بأبيدجان، هذه الأسباب مستنكرا تعرض عدد من المهاجرين لأفعال مقيتة، كما حرص جلالته على تصحيح العديد من التمثلات الخاطئة المتعلقة بالهجرة ومنها نسبة الهجرة غير القانونية من مجموع حركات الهجرة العالمية (5/1)، وعائدات الهجرة، والتمييز بين بلدان العبور وبلدان الاستقبال…. وأكد جلالته على ضرورة “وضع تصور جديد لمسألة الهجرة من خلال التعاطي معها كموضوع قابل للنقاش الهادف والرصين وكحافز على الحوار البناء والمتميز”. وعلينا أن نفتخر اليوم بأن الرؤية الملكية لقضايا الهجرة بدأت في التحقق. ويعتبر افتتاح المرصد الإفريقي للهجرة بالرباط يوم 18 دجنبر 2020 إنجازا حاسما على هذا الطريق.
وأمام قارتنا العديد من التحديات التي من الصعب على أي بلد أن يواجهها منفردا، أو في إطار الأحلاف التقليدية المبنية على الإيديولوجيا. فإلى جانب الهجرة، هناك كما سبق أن فصلنا في ذلك انعكاسات الاختلالات المناخية، ومحاربة الهشاشة والإقصاء أو البطالة والتكوين والتعليم والصحة وتوفير البنيات الأساسية وتجهيز المدن وأساسًا التحدي الإرهابي الذي أضحى تحديا مشتركًا لقارتنا والعالم….
وفي مواجهة هذه التحديات، ومن أجل ربح رهان التنمية اعتبرنا في المحافل الدبلوماسية البرلمانية أنه لابد من العمل المشترك، إذ لا مستقبل لاستراتيجيات إنمائية حبيسة البعد الوطني والحدود القُطرِية، وهذا هو منطق العصر ومنطق اقتصاد السوق. فالأفق الجهوي والقاري المفتوح على العالم وتوفير البيئة الجاذبة والملائمة للاستثمارات والعمل وفق منطق المصالح المشتركة والمنفعة القارية، هو الذي يمكن أن يخلق مؤسسات اقتصادية وخدماتية رائدة تُحْدِثُ من حولها دينامياتٍ مُقاولاتية محلية ووطنية دامجة ومنتجة للثروة. كما أن مشاريع البنية الأساسية القارية والعابرة للحدود، من طرق سيارة وسكك حديدية وموانئ ومطارات من شأنها أن تُيَسِّر التواصل بين البلدان وتنقل الأشخاص والبضائع، فضلا عن دورها التحديثي وإشعار المواطن الإفريقي بولوج عهد جديد ونشر ثقافة جديدة جوهرها الشعور بالانتماء الى إفريقيا والافتخار بهذا الانتماء.
ولئن كانت تحتاج إلى التطوير لتستوعب المستجدات والحاجيات والتَّغَيُّرات الدولية، فإن المؤسسات القارية الإفريقية، تعتبر إطارا للحوار وللعمل المشترك ولإعداد واعتماد مخططات الاندماج الاقتصادي.
وقد كان مرجعنا في ترسيخ البعد البرلماني للبناء الإفريقي، سياسة المغرب الإفريقية المبادرة والجريئة والمبنية على البحث عن الربح المشترك والشراكة المنتجة وتفضيل التعاون جنوب-جنوب وإنجاز ما من شأنه تيسير قيام إفريقيا الجديدة ويلبي حاجيات شعوبها.
وبالتأكيد، فإن إفريقيا باتحادها وتلاحمها، ستوجه رسالة إلى باقي التكتلات القارية والجهوية والشركاء الأجانب والمستثمرين الاستراتيجيين بأنها منفتحة وواعدة ومؤهلة لشراكة متوازنة منتجة للثروات، وأنها قارة الإنتاج والإبداع ومرشحة لأن تكون قارة التصدير ، عوض تلك الصورة النمطية البالية بأنها قارة موضوع إسعاف أو دعم من أجل التنمية على أهمية هذا الدعم وقيمته. وأعتقد أن السياق القاري الجديد والنُّخَب الإفريقية الجديدة، تنتصر لهذا التوجه.
هذا ما حرصنا على الدفاع عنه سواء في إطار الدبلوماسية البرلمانية بين-الإفريقية، أو في مباحثاتنا ومداخلاتنا في المحافل البرلمانية الدولية والإقليمية خارج القارة. ونعتبر أن الوثائق التي اعتمدناها كمُخْرَجَات في المؤتمرات والندوات الإفريقية التي احتضنها مجلس النواب تتسم بالاستدامة، ومن المراجع الأساسية الدبلوماسية مجلس النواب، كونُها كانت ثمرةَ مناقشاتٍ عميقةٍ وحرةٍ وصادقةٍ مع أشقائنا، وتستحضرُ مصلحةَ القارة وشعوبها قبل كل شيء، وتسترشد بعقيدةِ الدبلوماسية المغربية المبنية على قيم التعاون والسلم والتسامح والتضامن وتسوية النزاعات بالطرق السلمية والحرص على احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية وعدم التدخل في شؤونها.
وبالتأكيد، فإن اهتمامنا بإفريقيا الذي يفرضه الانتماء والتاريخ المشترك والمستقبل المأمول والمصالح والقيم، لم يكن مانعا ولم يقف حائلا أمام مواصلة ترسيخ شراكاتنا في الفضاءات الجيوسياسية الأخرى.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 28/08/2021