الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق 26 : سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي :
الطريق الطويل إلى استبطان القيم الديموقراطية…

 

 

دأبنا في مجلس النواب على المشاركة بانتظام في اجتماعات اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، خصوصًا من خلال الشعبة الوطنية الحريصة على الدفاع عن القضايا الأساسية التي تتصدر اهتمامات الشعوب الإسلامية، وفي مقدمتها بالطبع قضية فلسطين والقدس الشريف. ولست في حاجة إلى التذكير بمكانة هذه القضية والقدس بالتحديد وعلى مدى تاريخ كفاح الشعب الفلسطيني ضد الظلم التاريخي الذي تعرض ويتعرض له. ففضلا عن رئاسة صاحب الجلالة للجنة القدس، والدور المحوري والحاسم لبيت مال القدس في دعم صمود الشعب الفلسطيني في أرضه والحفاظ على تراثه العمراني، ودعم الخدمات الاجتماعية المقدمة لشرائح واسعة من أبناء هذا الشعب، فإن رصيد بلادنا في دعم القضية الفلسطينية، أكبرُ وأنبلُ من أن يُختزل في مواقف أو بيانات سياسية. إنه قَدْرٌ تاريخي من المواقف الحاسمة التأسيسية للدعم العملي لهذه القضية ودعم لا تحكمه المقايضة. ففي الرباط أسست منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي حاليا) على إثر إحراق المسجد الأقصى في 1969، وفي قمة الرباط العربية عام 1974، تم اتخاذ الموقف العربي التاريخي المتمثل في اعتبار منظمة التحرير الفلسطيني ممثلا شرعيا ووحيدًا للشعب الفلسطيني وقائدًا لكفاحه الوطني، وفي المغرب انعقدت أغلبية القمم العربية والإسلامية التي اعتمدت قرارات حاسمة في ما يرجع إلى فلسطين وباقي الأراضي العربية المحتلة.
وكما كانت مكانة القضية الفلسطينية لدى جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، يواصل جلالة الملك محمد السادس الدَّوْذَ عن القضية الفلسطينية دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
لا مجال للمزايدة، إذن، على بلادنا في ما يخص الدعم المادي والسياسي والدبلوماسي والمعنوي لقضية الشعب الفلسطيني، إذ الأمر يتعلق بإرث دبلوماسي غني آخر في هذا الملف، وإذ الأمر يتعلق بقضية مبدئية وروحية بالنسبة للمغرب ملكا وشعبا ومؤسسات.
لم تكن رؤيتنا في التعاطي مع قضايا البلدان الإسلامية والمسلمين في العالم، لتخرج عن هذا الإطار، بل حرصنا على الالتزام بسياسة ومواقف بلادنا الثابتة إزاء هذه القضايا. وقد أسَّسْنا في ذلك على جهد المجلس التاريخي وإسهامه النوعي في تأسيس اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي الذي عقد مؤتمره الثاني – الذي كان في الواقع مؤتمرا تأسيسيا – في الرباط والذي ترأس جلسة افتتاحه صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم 27 شتنبر 2001، في السياق المعروف والمتميز بتداعيات الأعمال الإرهابية التي استهدفت بُرْجَيْ التجارة العالمية في نيويورك. وقد رسخت تلك الدورة أسس الاتحاد الناشئ وقتئذ والمتطلع إلى دور مركزي في مؤسسات العمل الإسلامي المشترك.
وعندما عُرِضَ علنيا أن يحتضن المغربُ أشغال الدورة الرابعة عشرة لاتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، توجه تفكيرنا إلى ضرورة العمل على إعطاء أفق جديد للدبلوماسية البرلمانية للبلدان الإسلامية، وتحديث آليات اشتغال اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي وتحيين خطابه وتوجهه إلى الرأي العام في البلدان الإسلامية وإلى المجموعة البرلمانية الدولية. فالعالم الإسلامي، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، هو في قلب استهداف إعلامي وحضاري بسبب الخلط السائد بين الإسلام كدين، والإرهاب والعنف الممارس باسم الإسلام من طرف جماعات إرهابية نكوصية متطرفة لا علاقة لممارساتها بالإسلام دينًا وحضارة وشعوبًا. وتزداد الرؤية السلبية إلى العالم الإسلامي وتتوسع لدى الرأي العام الغربي، بسبب خطابات التشدد والتطرف من جانب من يدعون تمثيل الإسلام.
وبقدر ما ينبغي الدفاع عن قضايا الشعوب الإسلامية المشروعة في مواجهة الاحتلال الأجنبي وإنهاء النزاعات الداخلية، بقدر ما ينبغي السعي إلى تصحيح التمثلات التي تم بناؤها، على مدى عقود، عن الإسلام والمسلمين، دولا وشعوبا وحضارة.
وقد تَمَثَّلْنا، ونحن نتولى رئاسة الاتحاد، التحديات الخطيرة التي تكبح تنمية البلدان الإسلامية، هذا الفضاء الجيوسياسي الذي يشهد أكبر عدد من النزاعات المدمرة (الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، والوضع في العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وغيرها وحال الجاليات المسلمة في البلدان غير الإسلامية)، وما ينجم عن ذلك من مآسي حقيقية من هجرات ونزوح قسري ولجوء وتدمير للموارد والمنشئات ومصادرة وتدمير مستقبل أجيال بكاملها. وفي علاقة بذلك تواجه البلدان الإسلامية آفة الإرهاب والتطرف الذي يتغذى من الإحباط والجهل واليأس ودوامة العنف والحروب.
وقد حرصنا، سواء في الاجتماعات التحضيرية، أو خلال إعداد الأوراق السياسية، على أن يكون المؤتمر دورة فاصلة في العمل البرلماني الإسلامي المشترك. هكذا حرصنا على أن يكون «إعلان الرباط» الصادر عن الدورة الرابعة عشرة، توافقيا وشاملا لجميع القضايا ويعكس الحد الأدنى المشترك بين برلمانات الدول الإسلامية، رغم كل الاختراقات المذهبية التي تتحكم في عدد منها.
وسعينا في رئاسة المؤتمر إلى تجميع رؤى مختلف المكونات واعتماد وثيقة اعتبرناها برنامج عمل حد أدنى لتحركاتنا واشتغالنا خلال فترة رئاستنا للاتحاد. وتطلب منا ذلك جهدًا مضنيا بذلناه مع زملائنا أعضاء الشعبة المغربية، من أجل التقريب بين مواقف عدة أطراف. وقد حرصت على إقناع زملائي أعضاء الشُّعَب الأخرى بضرورة إبقاء الاتحاد بعيدًا عن الخلافات الحادة، التي لا تخفى على أحد، بين عدد من البلدان الإسلامية.
وعلى إثر انتهاء المؤتمر أعددنا وثيقة ما زلت أعتبرها مرجعية، وهي ترتكز على رؤيتنا ومنهجيتنا لعمل الاتحاد وأولويات الرئاسة والتي تتوخى تحقيق الأهداف التي سنأتي على ذكرها، وذلك اقتناعًا منا بأن تحقيق الهدف يرتبط جدليا بمناهج العمل والتصرف والتخاطب والهيكلة.
وفي علاقة بالتحديات السابقة شَدَّدتُ أمام زملائي من البلدان الإسلامية، على أننا نواجه معا، آفة الإرهاب والتطرف الذي عَانَت أو تُعانِي، منه أغلبية بلدان العالم الإسلامي، وهي الظاهرةُ التي تتغذى من النزاعات، ومن ثقافة التيئيس، ومن الشحن بالإديولوجيات والخطابات العدمية المناهضة للاختلاف، والمعادية للتقدم والتطور بل وللحياة وجَمَالِهَا، علما بأن « أكبر عدوٍ للإسلام جاهلٌ يكفِّرُ الناس» كما قال الفيلسوف ابن رشد.
وَيَظَلُّ نجاحُ البلدان الإسلامية في توفيرِ تعليمٍ دَامِجٍ يُوَفرُ المعرفةَ والثقافة ويكونُ أداةً للانفتاح والتَّرَقِّي الاجتماعي، تَحَدِّيًا ورهانًا مُشْتَرَكَيْن لغالبيةِ البلدان الاسلامية، فِيمَا يظل تَمَلُّكُ تكنولوجيا المعلومات واسْتِبْطانُـها والتحكمُ في اسْتِعْمَالاَتِها وتوظيفُها في الخدمات والاقتصاد والثقافة وتيسيرِ المعاملات وشَفَافيتها، هدفاً آنياً ومطلباً مُلِحاً لشعوبِنا، خصوصًا لشَبَابِنَا، وهو ما يتطلبُ الاستثمارَ فيه بقدرِ حاجتِنا الى الاستثمار في البحث العلمي. وَمَا مِنْ شَكٍّ في أننا نتقاسم التقييم نَفْسَه لِلْهُوَّةِ العميقة التي تَفْصِل مُجْتمَعَاتِنَا عن البلدان التي تمتلك ناصية العلمِ والمعرفة.
ويعتبر هذا المجال قطاعاً أساسياً يفتحُ آفاقاً واسعةً أمام المجتمعات من حيث القيمُ المضافةُ الاقتصادية، وتحديثُ بنياتِ الاقتصاد والخدمات والتشغيل الذي يحتاجُه الملايين من شبابِنَا الـمُتَطَلِّعِ إلى الشغل الضامن للكرامة.
وقد اعتبرنا أن هذه التَّحدياتِ، تلقي بِعدة مسؤولياتٍ على البرلمانات الإسلامية. فَهِـي مُطالبةٌ بالمساهمة في ترسيخ الديموقراطية وفي بناءِ ثقة الشعوب في مُؤَسَّسَاتِها ؛ وهو مَا لَنْ يَتَيَسَّرَ إلا بترسيخ الديموقراطية وباحترام حقوق الإنسان، وتعزيز دولة المؤسسات، وجعل الشعوب تَتَمَلَّكُ بناءَهَا من خلال إشراكِها في القرارات، وفي حَكامةِ السياسات العمومية من خلال مُمَثِّلِيها. وبالتأكيد، فإن ذلك لَنْ يكونَ مفروضاً من الخارج بل اختياراً إرادياً واعياً متدرجاً يتأسسُ على التراكم ويأخذُ بعين الاعتبار سياقاتِ وتاريخِ كل بلد، ولكنه بالتأكيد مطلب شعبي وضرورة تاريخية. فالديموقراطية ليست ترفًا زائدًا ولكنها ضرورةٌ وحاجةٌ مجتمعيةٌ لتَيْسير الاستقرار، فضلاً عن أنها أفقٌ كونيٌ.
وما مِنْ شك في أن في ذلك تقويةً للتماسك الاجتماعي والداخلي لكل بلدٍ ولِلدَّوْلة الوطنية، الـمُنفتحةِ على مُحِيطِها القريبِ والبعيد.
وفي سياقٍ دوليٍ مُعَوْلَمٍ، ينبغي العملُ على تسويةِ النزاعات والأزمات وجعلُ الحدودِ بين البلدان الإسلامية آمنةَ وقَنَوَاتٍ وجسورٍ للتعاون والـمبادلات البشرية والاقتصادية؛ ذلك أن كلفة النزاعات الداخلية والعابرة للحدود جد باهضة وكابحة للتقدم والتنمية.
وقد توجهنا إلى زملائنا في برلمانات البلدان الإسلامية، بالتذكير بأن بلداننا تتوفر على إمكانيات هائلة للتنمية. فسواءٌ تعلق الأمر بالموارد البشرية، أي المهارات والقوى العاملة، أو بالموارد الطبيعية، أو بالأسواق، أو بالموقع الجغرافي، فإن القليل من المجموعات الجيوسياسية هي التي يُمْكِنُ أن تُنافِسَ بلدان العالم الإسلامي. ونحتاجُ في ذلكَ، بالطبع، إلى الحكمة، والحوار والإصْغَاء وإلى الإرادةِ السياسية، وإلى احترامِ بَعْضنا البعض وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام الوحدة الترابية والسيادة الوطنية لكل بلد الذي ينبغي له التعايش والتصالح مع محيطه وسياقه الإقليمي. إنها مبادئ كونية ينبغي أن نحترمها كي لا نكون ضحيتها بشكلٍ أو بآخر.
وقد شددنا أمام زملائنا على أننا في مرحلة فاصلة من تاريخ العالم الإسلامي يزيد من تعقيدها الصورةُ النمطيةُ الظالمةُ وغَيرُ الصحيحةِ التي تُعطَى عن الإسلام والمسلمين والتي تغذيها الأعمالُ الإرهابية الـمَشِينَةُ المرفوضةُ التي يرتكبها بعض المنحرفين باسم الدين.
وكما سبق لجلالة الملك محمد السادس أن قال مخاطبا الاتحاد قبل عشرين سنة تحت قبة مجلس النواب : «إنكم في طليعة من يمكنهم تفنيذ مزاعم من يصفون الإسلام بالتطرف والعنف مُسْتَغِلِّينَ سلوكات المنحرفين عن قِيَمِه السمحة…».
لقد نبهنا إلى أننا، ونحن نُضَيِّعُ، الفرصَ التاريخية المتاحة أَمَامَنَا، بأننا بصدد هَدْرِ زمن سِيَاسِيٍ ثَمِينٍ في منعطفات تاريخية حاسمة وفاصلة؛ وينبغي لنا أن نتساءل عن كلفة هذا الهدر اقتصادياً واجتماعيًّا وسياسيًّا واستراتيجيًّا، وعلينَا أن نستخلصَ الدروسَ من ذلك. وبصرف النظر عن الاختلاف في تقديرنا لهذه الكلفة، فإننا مطالبون بالاحتكام، في تدبير الخلافات والنزاعات والأزمات، الى الحكمة والعقل ومنطق المصالح المشتركة، مصالح شعوبنا أولا في الاستقرار والأمن والتنمية والازدهار. فَقَدْ تَعِبَتْ شعوبُنا من هذا التنازع الحاد، ومن هذا التنافر، ومن هدر الثروات في الحروب وفي النزاعات في الوقت الذي نتوفر فيه على جميع إمكانيات ومقومات نهضة جديدة.
لقد أكدنا على أنه إذا كان ديننا الإسلامي الحنيف يدعو إلى التسامح والتساكن والحوار في التعامل مع الآخر، فإن علينا أن نُقَوِّيَ ونُفَعِّلَ هذا التوجه، بتعزيز هذا الحوار من أجل صيانة الاستقرار والسلام والأمن. وإننا في المغرب قد حرصنا على استعدادنا للانخراط في كل المبادرات والبرامج التي سَيَعْتَمِدُها الاتحاد على الصعيد البرلماني، من أجل المساهمة في تذويب كل النزاعات والتوترات خدمةً للسلام القائم على العدل والإنصاف.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 06/09/2021