مع ظهور فيروس كورونا بالصين نهاية السنة الماضية وانتشاره في مختلف مناطق العالم، أصبحت مصطلحات مثل العزل أو الحجر الصحي أو «ضحية0 « متداولة بشكل كبير في وسائل الإعلام وبين عموم المواطنين، لكن لم يعرف لحد الآن الضحية رقم 0، أي أول مصاب بفيروس كورونا وناقله لمواطنيه بمدينة يوهان في الصين ومن تم إلى الجهات الأربع من الكرة الأرضية، وإلى حدود الآن تم وضع مدن ومناطق بكاملها تحت إجراء الحجر الصحي سواء بالصين أو إيطاليا أو غيرهما، وارتباطا بالحجر الصحي، أورد لنا التاريخ بعض الأحداث التي وقعت وكانت مرتبطة بأمراض وبائية أصابت البشرية وخلفت ضحايا عديدين وتم وضع أناس بالحجر الصحي أو العزل بمجرد شبهة المرض، بطرق مهينة وخالية من الإنسانية، وذلك بدون أي تشخيص طبي لحالتهم، حيث قيدت حركتهم بهدف منع انتشار الأمراض المعدية دون دليل على إصابتهم من عدمها. ففي الولايات المتحدة مثلا وخلال الحرب العالمية الأولى تعرضت حوالي 20 ألف امرأة للاعتقال بشبهة نقل أمراض تناسلية للجنود، وذلك دون أن توجه لهن تهم رسمية وعملت الإدارة الأمريكية على عزل هؤلاء النسوة داخل أسوار معتقل محاط بأسلاك شائكة ومراقبات ليل نهار من طرف حراس مسلحين، مع إخضاعهن لفحوصات طبية إجبارية ومؤلمة، وكان ذلك بمثابة «هجوم على الحريات المدنية الأكثر تظافرا»، حسب وصف المؤرخ آلان براندت.
ولكن من أكثر الحالات غرابة في تاريخ الحجر الصحي في العالم حالة امرأة عرفت باسم ماري مالون والشهيرة بماري تيفوئيد(1869-1938) ، كانت من المهاجرين الإيرلنديين بالولايات المتحدة وشخصت حالتها كناقل عديم الأعراض لحمى التيفوئيد دون أن تصاب هي شخصيا بالمرض.
عملت ماري كطباخة في بيوت العائلات النيويوركية الغنية، كانت تتمتع بسمعة ممتازة ولديها موهبة خاصة في صنع الحلويات، وأشار أنتوني بوردان في كتابه «التيفوئيد ماري» إلى أن الآيس كريم بالخوخ، بشكل خاص، الذي كانت تتقن تحضيره تم تذكره حتى من قبل ضحاياها.
لقد كانت ماري ما إن تستقر في بيت إحدى هذه العائلات حتى يسقط أفرادها صرعى المرض، وربط جورج سوبر ـ الذي كان مهندس مَرافق صحية ـ بينها وبين 6 حالات تيفوئيد على الأقل فتم حجزها في الحجر الصحي بكوخ على جزيرة نائية لمدة ثلاث سنوات حتى عام 1910 عندما صدر قانون يرفض حبس أو نفي الأشخاص حاملي الأمراض، وتم تخييرها بين البقاء أو الخروج، لكن مع منعها من العمل نهائيا كطاهية، فاختارت الخروج ثم عادت بعد خمس سنوات للعمل كطاهية تحت اسم مستعار في مستشفى، وبعد أيام قليلة من تعيينها بالوظيفة الجديدة بدأ المرض بالظهور على 25 من نزلاء المستشفى، فتم اتهامها مرة أخرى بكونها سبب العدوى، وهذه المرة وضعت بالحجر الصحي لمدة 26 سنة حتى سنة 1938 حين وفاتها التي كانت بسبب الالتهاب الرئوي وليس التيفوئيد.
الحكايات المتعلقة بالحجر الصحي كثيرة، فمنذ القدم كان العالم يتعرض لجوائح وأوبئة تطيح بالآلاف وتتسبب في موجات من الارتباك والخوف التي تعم الجميع، وكما يحدث هذه الأيام، فقد لجأت الشعوب، ومنذ القرون الوسطى، إلى فرض إجراءات العزل لتطويق أوبئة معدية ومميتة كالطاعون والكوليرا والحمى الصفراء ومنعها من الانتشار.
وتاريخيا يعود الحجر الصحي للقرن 14 عندما بدأ انتشار الطاعون في إيطاليا في عام 1347، حيث تم منع السفن المصابة من الاقتراب من شواطئها تفاديا لأي عدوى، وبعد مرور سنة أصبحت السلطات الإيطالية أول من استحدث إجراء وقائيا رسميا فى إغلاق الموانئ وإبقاء المسافرين تحت العزل 40 يوما، ومع انتهاء الوباء عام 1352 كان قد توفي نحو 20 مليون شخص.
و في عام 1377 تم فرض اجراءات عزل سفن قادمة من مناطق ضربها الطاعون مخافة انتشاره إلى باقي المناطق، في دوبروفنيك في كرواتيا عام 1377 ميلادي وفي البندقية في إيطاليا عام 1423 ميلادي، و كانت مدة الحجر تمتد أربعين يوما ومنها اشتقت الكلمة الفرنسية للحجر، «كارانتان»، و يعني الحجر العزل المؤقت لأشخاص أو حيوانات أو سفن قادمة من بلدان ينتشر بها وباء معد في حين يعني الطوق الصحي وضع نقاط مراقبة لتنظيم الدخول والخروج إلى مناطق ينتشر بها أحد الأوبئة . إلا أن أوروبا لم توحد جهودها في هذا الميدان إلا ابتداء من سنة 1851 بعد عقد أول مؤتمر صحي بباريس.
بالنسبة لبلادنا فقد تعرضت، على مر العصور، لأوبئة وأمراض معدية ومجاعات وجفاف كانت نتيجتها آلاف القتلى والضحايا، ولمواجهتها كانت تتخذ إجراءات لمنع انتشارها وتطويقها، ويذكر كتاب «جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين» أن «الدولة الموحدية كانت تلجأ إلى جمع المرضى بهذه العلة (الجذام)، في حارات عرفت بحارات الجذامى تبنى خارج المدن، ففي مدينة فاس مثلا كانت حارتهم تقع خارج باب الخوخة ليكون سكنهم تحت مجرى الريح الغربية فتحمل الرياح أبخرتهم ولا يصل أهل البلد منها شيء وليكون تصرفهم من المياه وغسلهم بعد خروجه من البلد، أما بمراكش فإن مثل هذه الحارة وجدت شرقي المدينة، ومهما يكن فإن هذا المرض كان منتشرا على نطاق واسع، وهو بهذا الانتشار خلق مشاكل اجتماعية و نفسية للمصابين به وللأفراد المحيطين بهم حيث كان المجذوم شخصا مرفوضا اجتماعيا مما كان يضطره للعيش في عزلة تامة إلى حين وفاته» .
أما محمد الأمين البزاز فقد تطرق في مؤلفه المعنون «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر « لما تعرض له المغرب خلال هذين القرنين من جفاف ومجاعات إلى درجة أن المغاربة كانوا يضطرون لأكل الجيف وجثث الموتى من شدة الجوع بل كانوا في عهد هذه المجاعات يبيعون أولادهم ونساءهم وأنفسهم للبرتغاليين درءا للجوع المتربص بهم، أما انتشار جثث الموتى في الطرقات فقد كان سببا في تفشي الأمراض والأوبئة.
كما كانت أخطار الأوبئة تحدق به بسبب تفتحه على التجارة الخارجية بفضل واجهته البحرية التي تسمح بتوافد المراكب والسفن والسلع والبشر من جميع الأقطار، وابتداء من ثلاثينيات القرن 19 أصبحت السفن الأوروبية تزوره باستمرار، فتعددت بذلك فرص تعرضه للعدوى، كما تزايدت الأخطار بحكم علاقاته المنتظمة بالمشرق عن طريق الحجاج، وأسهب الباحث في ذكر الأوبئة حسب تاريخ ظهورها والإجراءات التي اتخذت لمواجهتها، ومنها طاعون 1818-1820، الذي كان عبارة عن حلقة من سلسلة واسعة بدأت في عدد من البلدان المتوسطية ثم ظهر في مصر وبقي فيها زهاء أربع سنوات، وفي نفس الوقت انتقلت العدوى الى عدد من البلدان المتوسطية الأخرى مما شكل خطرا كبيرا على المغرب، ثم ازداد خطره مع وصوله إلى الجزائر في سنة 1817 مما دفع القناصلة الأجانب بطنجة إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات الوقائية، منها، رد السفن ومنعها من ولوج ميناء طنجة أو إخضاع ركابها للحجر الصحي.
ورغم أن هذه التدابير كانت تشكو من عدة نقاط ضعف إلا أنها لم تكن عديمة الجدوى ويرى الطبيب الفرنسي رينوان، كما ذكر الباحث في كتابه، أن المغرب نجا من الحمى الصفراء سنة 1810 بفضل هذا الحظر المفروض على جبل طارق ومالقا حيث تفشى الوباء، كما أن المغرب نجا من الطاعون سنة 1804 بعد رد مركب قادم من الشرق وعلى متنه شخص موبوء.
وعند وصول الأخبار بظهور طاعون بالجزائر سنة 1817عقدت «خونظة القناصلة»اجتماعا قررت على ضوئه فرض حجر صحي لمدة أربعة أيام على جميع المراكب القادمة من بلاد المغرب الكبير ومن المشرق الإسلامي، ولمدة يومين على المراكب القادمة من الموانئ الأوروبية كم قررت تعيين طبيب فرنسي مفتشا صحيا بمرسى طنجة لتعزيز المراقبة الصحية.
أما في سنة 1829 إلى 1831 فقد استصدر القناصلة الأجانب بطنجة قرارات الطرد والحجر الصحي ضد السفن الموبوءة بالكوليرا أو المشكوك فيها حماية للمغرب من الوباء الفتاك الذي كان قد تفشى في جبل طارق ثم في الجزائر، و في 1834 اتخذوا تدابير صارمة بعد أن اكتسح الوباء السواحل الإسبانية، وأصدر المولى عبد الرحمن أوامره إلى كافة عماله بالمراسي التجارية لتنفيذ تلك التدابير، لكن وبالرغم كل هذه الاحتياطات الاحترازية فقد تمكن المرض من التسلل إلى المغرب عن طريق واجهته الشرقية وتحديدا إلى فاس حيث أطاح بالمئات، وفي دحنبر أعلن عن وجوده رسميا بالبلاد.
من خلال نفس المعلومات التي استقيناها من نفس الكتاب(تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر) يورد الباحث أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية بمعنى الجفاف والجوع والبؤس تمارس تأثيرها في ظهور أمراض كالكوليرا مثلا وباعتبار الحالة الاقتصادية التي كان يعيشها المغرب بين سنتي 1867و 1869 فقد اعتبر بيئة خصبة لاستقبال المرض الذي كان قد عصف بجل أقطار المعمور وفي مقدمتها الأقطارالمتوسطية بما فيها الجزائر.
لقد بدأت الجائحة في الانتشار من الهند سنة1865 ثم تسللت عن طريق الحجاج القادمين من جاوا والهند وفي ماي سقط ضحية لها 30000 حاج، وفي يونيو ظهر الوباء بالإسكندرية ومنها انطلق عبر الطريق البحري نحو تونس والجزائر و إيطاليا ومرسيليا وجبل طارق، في ذلك التاريخ كان المجلس الصحي الدولي بالمغرب المتكون من رؤساء البعثات الأجنبية بطنجة يضطلع بمهمة الدرك الصحي في المياه المغربية لمحاولة مواجهة الخطر القادم بعد إعلان ظهوره بجبل طارق، فتم فرض حجر صحي لمدة سبعة أيام على السفن القادمة من هذه المحطة وتوجيه السفن المشكوك في حالتها الصحية إلى محجر متوسطي، كما قرر في 30 مارس الطرد الفوري لجميع السفن القادمة من جبل طارق واستمرت هذه التدابير إلى غاية 6 نونبر أي بعد انقضاء عشرة أيام على تسجيل آخر حالة كوليرا بالمحطة البريطانية.
أما بالنسبة للتدابير التي اتخذت في مواجهة مراكب الحجاج الموبوءة فقد كانت هذه السفن تتعرض للطرد ولم يسمح لها حتى بالتزود بالطعام والمواد الغذائية في الوقت الذي كان الجوع والكوليرا يفتكان بركابها من الحجاج القادمين من المشرق، لكن بعد احتجاجات المخزن في مواجهة القناصلة الأجانب المعتمدين بطنجة تقرر إرسال السفن إلى جزيرة الصويرة التي اختيرت لتكون محجرا صحيا دائما للحجاج في حالة عودتهم موبوئين. هذه التدابير التي سمحت للمغرب بأن يتحصن في مواجهة الوباء لم تكن سوى مهلة لأن الواجهة القارية أي الحدود الشرقية كانت تستمر مفتوحة ومنها وجدت الكوليرا طريقها إلى البلاد نهاية 1867.
في سنة 1887 سجلت عودة قوية لداء الكوليرا التي استشرت بالمدن الداخلية كفاس ومكناس فاتخذ المجلس الصحي مجموعة تدابير صحية للحيلولة دون دخول المرض إلى طنجة منها قرار من 30 فصلا نص على انتداب حرس صحي من 10 أفراد أمام أبواب طنجة لمنع القادمين من المناطق الداخلية من الدخول اليها، وإقامة محجر صحي قرب المدينة لعزل القادمين لمدة ثمانية أيام وحجز سلعهم وبهائمهم لمدة تتراوح بين 8 أيام إلى 15 يوما بحسب الظروف كما اتخذت تدابير مماثلة في تطوان والعرائش .
لكن كل هذه الإجراءات التي كان يتخذها المجلس الصحي المغربي لم تكون لتحول دون انتشار الأوبئة والأمراض التي تخلف الضحايا بالعشرات بل بالمئات، خصوصا من الجانب الشرقي للمغرب الذي لم تكن تطاله في أغلب الأحيان الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية فكان يتسلل بكل يسر ويتجول بين مناطقه وجباله مرديا في طريقه المئات من الضحايا، كما أن «الحركات» التي كان يقوم بها السلاطين لإخضاع بعض القبائل المتمردة ساهمت هي أيضا في نقل الأوبئة المنتشرة بين الجنود من منطقة إلى أخرى.