إذا كان قلبك كعبة… فاذهب إليه بالتكبير والتلبية!
كفكف من غربة نفسك، كلما زادت ثقتك فيها زادت غربتك !
قررت، بحول الله، ابتداء من عدد الخميس..أن أسترجع لحظات الحج، في شكل مدارات كتابية، عن تلاطم المعرفة والإيمان، المشاهدات المهنية مع الفتوحات المكية، كما رصص لها الطريق، بخيال زلال ولغة طافحة صاحب المراتب العليا ابن عربي. وبنقل ما كان يدور في ذهني وما يدور أمامي، وما كنت أراه من إعادة تمثيل نوبات من النبوة، في المدينة أو في طريق منى والجمرات، والحوارات التي تجعل الأمان أحيانا أكثر قلقا من الغربة في الوجود ،مع الحرص أن تكون للتأملات الصحافية حظها من الجدارة الدينية، كما للمشاهدات المحسوسة قسطها من مراتب الوجدان..
كنت أحدس بأن حياتي ستدخل منعطفا غير مسبوق، وتتغير رأسا على عقب.لا لأني جئت إلى الحج من فراغ روحي طافح ومطلق، أو من فيافي ديانة أخرى.أو من فراغ عقدي، كلا. لم أكن طارئا على الغيب: فَأنا ليَ فيه أقاصيص ورؤى من الطفولة. فقد كنت أصوم وأصلي وأزكي وشهدت الشهادتين بالسليقة والإرادة والالتزام اليومي مع كل خطوة. أخطوها في الحياة. وعليه كان الحج واردا في منطق الأشياء، ولما تحقق الإمكان واستوفيت القدرة، تحققت الزيارة ..
هل أزعم بأنني لم أكن عرضة للشك، أو لتنسيب الاعتقاد، أو حتى للابتعاد عن نشأتي الدينية وسط أسرة تسكن بالقرب من المسجد، تولت القيام بشؤون هذا المعبد من جيل لجيل، من جد وعم وخال وأخ؟
لا يمكن لهذا الادعاء أن يكون صادقا ..ربما من بين كل الملايين من الذاهبين إلى المكان المقدس، كنت موزعا بين دعة وسكينة حياة ألفتها، وحياة تتراءى في مستقبل مثير أو لعله ملغز…
كنت مقبلا على قطيعة أنثروبولوجية. بين اليومي المتكرر وبين الجدول الزمني العام والأفكار التي لا تمتحن بميزان العدم!
.لكن كنت أحدس أن قلوبنا التي نضعها مؤتمنة عند صاحب القيامة ، تعرف كيف تلتفت للنظر في الحياة والنظر إليها من جهة أخرى.
كنت مثل من وجد الجواب عن معنى حياته، لكن الذي يقلقه هو السؤال الذي يكون بعده! أو قُلْ صرت لا أجزم بأن الإيمان أو الارتكاز إلى حقائق ، يُعفي من … القلق الأنتروبولوجي!
التحول كان في الخطوة نفسها، مع تدقيق النظر في الهوية الدينية على مشارف الستينيات ..كهوية في الموقف من الحياة اليومية في سريانها:كيف أعيشها وقد تخليت عن بعضها الكثير…؟كيف أواصل العيش، ولم تعد الحياة أولوية، وقد تجاوزتها مشاغل الموت في الجولة السادسة من العقد السابع من العمر وكيف لا أساير جسدا تعود على الجموح ، كنمط وحيد في الكينونة؟ جسد الإيروس الطافح، وهو يستدرج نفسه الى الطيطانوس الغابر؟
كنت أعرف أيضا أن هناك تيارا من المقادير يجرني: لقد أصبحت محاطا بالموت والموتى من الأصدقاء والأهل .لا يمكن أن أسلُّم بأنهم ذهبوا إلى اللامكان، اللاعالم صنو العدم الجليل، أو تبخروا في الثقب الأسود لما قبل الخليقة، كما يشاء علماء الفيزياء الكوانطية ووجدتني في مفترق المشاعر لا القناعات أتساءل، أي طريق سأسلك إلى ذلك..
الاطمئنان على قسطي الإنساني من الروحانيات كان يتطلب أن تكون الكعبة رمزًا لقلبي كما يشاء الشيخ ابن عربي!
سبق لي التوجه إلى العربية السعودية، أكثر من مرة. أهم الرحلات كانت في مارس 2013، ثم بعد خمس سنوات على ذلك التاريخ، عندما كنت ضيفا ضمن وفد عربي واسع التركيبة، ضمن برنامج ضيوف الملك سلمان. كان الموعد وقتها موعد ربيع في الزيارة الأولى، مع شهر مارس، وأما الموعد الثاني فقد تزامن مع شهر يناير القارس هنا. ووجدتني في أنتروبولوجيا البدايات لـ«إيلاف» قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف!
وسبق لي أن حصلت على التأشيرة بالطريقة المعتادة: دفع الجواز، مع الوثائق المطلوبة، ثم انتظار الموعد، والتوجه، عند الموعد، إلى مقر السفارة بشارع رباطي لتسلم الجواز. والتأشيرة. أو عندما تكون الزيارة ضمن وفد رسمي، كما حدث بمناسبة المعرض الدولي للكتاب2013، تتولى الجهات الرسمية كل الإجراءات، ويقتصر دور المسافر على تسليم الجواز لمن يهمه الأمر.
حدث شيء جديد هاته المرة.السعودية تفتح السبيل الإلكتروني إلى الحج. إلى بيت الله. وقد بدأت الطريق من الرباط..
بعد أن تأكد قبول اسمي واسم الأهل للحج المبرور، توصلنا ككل الحجاج الميامين، برابط يخص التأشيرة باسم فيزا السعودية. يدخل طالب التأشيرة إلى الموقع، ويقوم بكل الإجراءات الخاصة لرقمنة معطياته، ومنها بالأساس البصمات، والتقاط الصور الخاصة بالبورتريه… وملف المعطيات المتعلقة بالهوية ورقم الجواز .. وبذلك يحصل التسجيل ضمن لائحة السفارة ومن ورائها الخارجية السعودية، وما يرتبط بسلامة الدولة من أجهزة أمنية ولا شك.
لم أدرك وقتها بأن هاته العملية هي التي ستكون حجر الزاوية، أولا في تسليم الفيزا، ثم في كل أطوار السفر، بدءا من المطار في المدينة المنورة إلى باقي العمليات التي تتطلب المعطيات الشخصية… ستتضح أهمية هاته العملية في دورة الشؤون العامة للحج.
تأسست في تزامن مع القيام بكل الإجراءات واستيفاء شروطها، مجموعة واتساب، وتتكون من 49 حاجا وحاجة. سيتبين من بعد أن الوزارة كانت قد غيرت طريقتها في التأطير . وكان أن المجموعة تشبه مجموعات أخرى، لإخضاع الحجاج لتأطير مكثف بشكل مبكر مع تخصيص مؤطر مرافق لكل 49 حاجا تعرفوا عليه بأرض الوطن مدة تقارب ستة أشهر قبل السفر ورافقهم طيلة رحلة الحج.
وجدتني بين الفينة والأخرى، أشارك المجموعة ما تتبادله من معلومات. وأحيانا من دروس، ومن خدماتها الإعلان عن أسماء المساجد كي يتمكن أعضاء هذه المجموعة من تلقي الدروس الخاصة بالحج، أتابع بغير قليل من الدهشة طبيعة الأسئلة التي يكون علينا أن نطرحها كما لو أننا لم نسافر أبدا: ما وزن الحقيبة؟ وكم من حقيبة تلزمنا؟؟وما هو الأليق لنا هل «الباليزا» أم «الصاك» إلخ!!!
كنت في برزخ بعيد مع ذلك:أقيم في المسافة بين شك ما زال غروبه مشوبا بغير قليل من الاضاءة، ويقين يتقدم مبتسما ولكنه بخطى غير واثقة في القدرة على مجاراة التحول العميق.تنتابني الاسئلة في لحظات مفارقة: عندما توجهت مثلا الى لحبوس، من أجل أن أتبضع ملابس تقليدية للحج! فقد اكتشف أن لي زادا قليلا للغاية من حاجيات اللباس التقليدي الذي لا يمكن أن تتم بدونه طقوس الحج!
ذات أمسية ، وموعد السفر يقترب توجهت الى منطقة الحبوس، بالقرب من المسجد المحمدي ومقر الجهة والقصر الملكي،بالدار البيضاء رفقة الزوجة والابنة «آية» من اجل التبضع. بل قل إن زوجتي اجبرتني على ذلك، وهي تعرف بأنني لا أجيد التجول زو الاختيار بتاتا شراء ما يلزمني من الالبسة وفي الغالب كنت أجدني في ملابس كلاسيكية او شبة رسمية عصرية تفرضها شروط المناسبات الرسمية اكثر من الاناقة اليومية.وفي كل خطوة اتسلل الى مكتبة من المكتبات، بحثا عن مفاجأة ما لا اعرفها. وأطيل الشرط الى العناوين، خصوصا ذات الصلة بالمعتقد الديني واكتشف كتبا ومجلدات ما خطرت من قبل في بالي.
هنا تتسلل الاسئلة، وتعود المعرفة المكتسبة في تدبري شوون الدنيا، لكي تمتحن الإيمان الذي يسكننا، فطرة او اختيارا لتدبير شؤون الدين! وقد تتفاجأ وانت تحدث نفسه بأنه إيمان لتدبير شؤون … الموت! بالرغم من كل ما تراكم من معرفة متعددة المشارب، من بيرغسون الى سبينوزا، ومن فيبر الى علي شريعتي، من الزمخشري الي جلال الدين وابن عربي من كون الايمان هو قدرة الحفاظ على انسانيتك في حياة تفرض عليك شروط تجار الاستهلاك والسلطة،من أجل «اقتراضها« لخدمة شهيات ورغبات قاتلة لديهم والقدرة على السمو الاخلاق والنبل الانساني!..
الغنائم التي عدت بها، لم أضعها كلها في حقائب السفر، الجلباب التقليدي الضروري، كاند الخياط، الذي تزامن حجه مع حجنا قد هيَّأه مشكورا في الوقت المناسب. لأنه كان يريد أن يوفي بالتزاماته ويغلق الحانوت ليتفرغ الي الزيارة وطقوسها وتراتيلها، هو الذي شارك اكثر من مرة في القرعات الخاصة بالحج، ولم يتيسَّرْ له ذلك الا بعد لأْيٍ … وانتظار طويل. وهومن المغاربة الذي يؤمنون بأن الحج يجب أن يناديك. واذا لم تسعفهم المحاصصة المتفق عليه بين الدول الاسلامية ، يشعرون بالقلق وربما يتوجسون من غضب العلي القدير، علما أن شوقهم يكشف عن كونهم آكثر الناس ايمانا وتقربا اليه في كل ساعة وحين.هناك قناعة أنه هو الذي يجرك إليه، لا أنت الذي تذهب الى هناك.لايكفي أن تستطيع الحج ، بل يجب أن يريدك هو أيضا!
قوة الجاذبية ، وإسْباغ الطابع البشري الانساني على مكان هو مكة وعلى شعيرة هي الحج، تحول «لامادي» وغيبي لم نفكر فيه كثيرا،حسب علمي في نطاق سوسيولوجيا روحانية إذا اردنا التسمية..
طوال الاستعداد للزيارة،ظلت الأسئلة ، حتى تلك التي لم أكن أتوقعها تلح علي. لكني كنت أجاريها قليلا فقط،ثم اعود الى ما يتعلق بالقدرة الجسدية لاداء المناسك: أنا الذي يعاني من وهن في القلب،تطلب دخولي الى المصحة مرتين، ويعاني من السكري ،يصاب احيانا بانخفاض يسبب التعرق والوهن تدل عليه ارقام الخزان، والذي يزند صدره بالألم، ملما بذل مجهودا، هل أضمن فعل القدرة على الطواف وعلى السعي والمروة وعلي الجمرااات وسط حرارة عالية؟
كان علي أن أضيف التمارين الراضية ، الى التمارين الفسلفية والتمارين الروحية. كي استطيع!
القدرة هي كذلك الاستطاعة الجسدية.. وبدات اتمرن واتريض، كيف ما اتفق ، لأضمن لنفسي نفسا يجوب بها المناسك والشعائر!
في بهو المطار، ونحن ندفع الأمتعة نحو صف التسجيل، كان المسؤولون عن الجماعات، موزعين في القاعة، يرتبون لكل مرشح حاج أو حاجة إجراءات الرحلة، من جوازات السفر، والتأشيرات التي تسلمها كل واحد منفردة، في ورقة خاصة به، ونسخ عن التذكرة وصور شمسية للحاج لتهييئ ملفه. في البداية، كنت مع الأهل، من نصيب المكلف، أول ما رآني: قال مازحا: هو واللا ما شي هو؟
وأجاب نفسه، هو! ثم نظر إلي مداعبا: شفت الشهرة اش كا ادير لمولاها؟ طبعا فطن من بعد أنه ليس المكلف بمجموعتنا لما سألته أنت السي محمد ياك؟
قال: المكلف بمجموعتكم هناك عند مدخل المطار. توجهت حيث أشار لي، فوجدت شابا في مقتبل العمر، من مواليد الثمانينيات. حف الشارب وأرخى اللحية، وسيم، وبشوش. تبادلنا الحديث قلت له مداعبا: أنت أصغر من صوتك، الذي كان يأتينا مثل شيخ طاعن في التدين! المكلف بالمجموعة يملك سعة صدر كبيرة، سيبرهن عليها طوال الرحلة. وفي أوقات يصعب فيها ضبط الأعصاب والتحلي بالهدوء. أمزجتنا تصبح أكثر تقلبا كلما زادت غربتنا. كان على المكلف أن يجيب عن أسئلة ساعات السفر، وعن حمولات الحقائب، ويسأل عن الأدعية وعن ما يقال عند الركن اليماني وعند دخول الحرم. وكان يمتحن المجموعة بين الفينة والأخرى ويتضح بأن أغلبنا لم يحفظ دروسه كما يجب، بالرغم من أنها دروس على مر العمر..!