يقول خورخي لويس بورخيص في كتابه ” صنعة الشعر ” : ” أن تكون القصيدة قد كتبت ، أو لم تكتب من قبل شاعر كبير ، أمر ليس له أهمية إلا عند مؤرخي الأدب ” .
في الخريطة الثقافية العربية يتوسع مجال تلقي الأجناس الأدبية التي تعنى بالحكي والبوح. وتأتي الرواية و القصة القصيرة والقصيدة في مقدمة هذه الأجناس، من زاوية أنها تعبير عن تواصل دائم بالحياة ، و تفاعل مستمر وَ القضايا ، التي تشغل بال الكاتب أو الشاعر ؛ فيخرج الإبداع عبارة عن دفْقة شعورية ، يتوخى معالجة ما يتهدد المجتمع ، ويحط من قيمته وعنفوانه وميْعته . إن الالتفاف، حول القضايا الأدبية، مفتاح رئيس نحو مأسسة حوار بين ذاتي الذي يلجأ إليها المبدع ، بهدف الاندماج العضوي والسهر على معالجة القضايا الحاسمة في مصير الأمة . ويأتي الإبداع السردي والشعري ، كحصان طروادة للتعبير عن المنفلت من اللحظات الوميضة، التي يعيشها الفرد ، ويعيشها المجتمع أيضا .
الإبداع العربي، سواء كان نثرا أو شعرا، في العديد من الملتقيات الدولية، كان حاضرا ضمن التراث العالمي للحكي، بفاعلية قوية مع جيل الرواد الذين أسسوا لهذا الفن التعبيري المائز ،أمثال محمود تيمور وعباس محمود العقاد إلى جانب عبد السلام العُجيلي و عبد الحميد بن هدوقة ومحمد زفزاف في النثر، و عبد الرفيع الجواهري و السياب و محمود درويش وعلال الفاسي في الشعر. وبالموازاة مع ذلك ، استفاد هذا الضرب من الإبداع ، شرقا وغربا ، من الانتشار الواسع للصحافة ، كما أن سنة التطور والإبدال تفرض الإنصات العميق إلى ما وصلت إليه فنون الحكي، والبَوح بالقصيد في الآداب العالمية عبر تاريخها الغوير ، التي راكمت أنماطا من المحكيات ، أغنت الخزانة الأدبية بتجاربَ ساهمت في بلورة السحر الجمالي للوصف والسرد والغنائية في التراث المعرفي الإنساني .
ومع الرواد الأوائل، في الأدب الغربي أمثال غي دي مونبسان ، وإدغار ألان بو، وأنطوان تشيخوف ، علاوة عن أرنست إمنغواي ، و بودلير وغوته، استطاع الأدب أن يدخل حلبة الصراع بين القوى الاستبدادية و القوى التي تنشد الحرية ، والانعتاق من أصفاد العيش في الهامش السفلي من المجتمع .
فالمزية ، في الإبداع عموما ، لا يقف عند إشكالية الموضوع ، الذي تجسده عناصر البناء النصي فحسب ، وإنما تركن أيضا الى الاتجاهات التي تساهم في الرفع من منسوب التذوق الفني ، حسب نظرية التلقي . فالرمزية ، كإحدى المدارس التي تشق طريقها في الحلم ، وتسافر عبر الغموض و الإبهام، كانت تتطلع دائما إلى ترجمة المحكي الشعري و النثري معا عبر اقتناص لحظات من الحياة اليومية الهاربة في السديم المغبش. كما أن للتعبيرية و الواقعية يدا طولى في رصد مكامنِ التفاعل البناء بين الأدب و الواقع، بهدف الدفع بالمجتمع نحو التخلص من أدران التخلف المقيت، والانتكاسة الأخلاقية .
ولعل نظرية الأدب التي تجمع بين اللسانيات و الجمالية ، في شخص رائدها العالم الفرنسي « رولان بارت «من خلال كتابه « لذة النص»، كانت السباقة إلى تحطيم الحدود بين مختلف الأجناس الأدبية ، وهذا ما اكتشفناه في الأدب العربي المعاصر من خلال مجموعة من المبدعين حاولوا أن ينتصروا إلى الحداثة الأدبية ، عبر مجموعة من آليات الشعرية العربية ، التي تساهم في تزهير المكتبة العربية بتحف فنية جمعت بين الفن و الأدب و التاريخ والتراث .
فكيف كان ينظر الأدب المعاصر إلى القول الشعري ؟ وإلى أي حد استطاع الأدب المعاصر أن يتمثل الشعرية العربية؟ وهل الدراسات النقدية ساهمت في استكناه الوظيفة الشعرية في الشعر العربي؟
إن شعرية تزيفتان تودروف أقربُ ما تكون إلى الطيلسان الذي يتلحف به الشعراءُ المعاصرون . فشعرية تزيفطان، الفرنسي من أصول بلغارية ، تريد إحياء نموذج البلاغة التي تم تجاوزها على عهد أرسطو . فالتنظيرات الشعرية تكون مستساغة نثرا من خلال تراكيب لغوية، تسافر عبر المتخيل ،الذي تأسس عبر مسار طويل من الزمن . فمن خلال الشعرية العربية الحديثة الممتدة من بحر الثمانينيات من القرن الماضي إلى حدود ما هو معاصر ، نجد أن الشعراء قد جمَّعوا العديد من الاتجاهات السابقة ، وبأَّروها في دواوينهم .
لا تشذ التجربة الشعرية العربية عن باقي التجارب التي مر بها الشعر العالمي ، فالمسار يحوي تاريخانية تحترم السيرورة الزمنية للتطور و الإبدال . فالانتقالة من الشعر الكلاسيكي مرورا بشعر التفعيلة إلى قصيدة النثر ، رحلة أثرت في بناء القصيدة العربية . فالشعر الكلاسيكي لم يبرح عناصر القصيدة العمودية و المتمثلة ، بالأساس ، في وحدة الروي و القافية و البحر ، فضلا عن العناية الفائقة التي يوليها الشاعر لبيت الاستهلال ، فيخرجه إخراجا مصرعا . يقول الشاعر محمد جبر الحربي في « لاميته» الشهيرة من مجزوء البحر المتقارب :
كبرت و مازلت طــــفلا يخلـــــد بالشعر … أهلا
يؤسس ظلا لشـــــمس ويمســح بالشمس ظلا
يكتسي الشعر العمودي ، عند رائد الكلاسيكية في الشعر الخليجي مثلا ، على البناء البلاغي ، من خلال شعرية تزيفطان تودروف ، فالصورة الشعرية تتمسح من عناصرَ وجوديةٍ تربط بين معنيين ؛ معنى حقيقي و آخر مجازي تؤلف بينهما المشابهة. فالاستعارة تمتح من متعدد حينما يتم تشبيه متجسد بشيء غير متجسد ، فالمسح لا يكون إلا بالثوب أو ما شابهه .
بالموازاة مع ذلك، فالصورة فيها حذف على سبيل الكناية؛ لأن بعض اللوازم، المسح، تقوم مقام الشيء المحذوف. فشعرية تودروف، هنا، تتجاوز وظيفة تزيين الكلام وتنميقه إلى وظائفَ أخرى متعلقة بالمعرفة عن طريق استحضار معالم الصورة الشعرية ،كما هو الشأن عند الشاعر محمد جبر الحربي . علاوة عن ذلك ، نجد الشاعر العماني أحمد الوهيبي يسير على الخطى نفسها في ديوانه «رداء الديك»، إذ يقول في قصيدة « بلدة لا تزرع العنب « :
« أقيم في بلدة لا تزرع العنب ، وآخر سيجارة في العلبة أشعلتها في المحطة، في انتظار قطار عسل بريد الغابة. وزتان من لشبونة ، تبحثان عنك في الحانة ، قلت : أنا بانتظاره ، لم يأت بعد … «
فحسب البلاغي المغربي محمد العمري ، يقول إن الصورة البلاغية لها عُلْقة بالخطاب وحاجة إلى استنطاقه، وكشف جانب من أسراره، في ذلك توظيف الصور البلاغية على أساس معرفي. فاللجوء إلى المجاز المرسل غير المقيد، حسب العمري، تجاور في بناء الدلالة، و انتقالة نوعية من المعرفة الحدسية إلى المعرفة الملموسة الوجودية.
من هذه الزاوية المتفاعلة و ثقافةَ الانفتاح على التيارات المعرفية الغربية بالخصوص، تطل علينا سوزان برنار بكتابها المؤسس لقصيدة النثر، والتي عنونته ب « قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا «حيث تقول إن قصيدة النثر تذهب إلى ما وراء اللغة ، وتريد أن تحطم الأشكال، وهي تخلق أشكالا وتريد أن تهرب من الأدب. بهذا التوصيف الدقيق لقصيدة النثر، اقتحم الشاعر الوهيبي في ديوانه « رداء الديك «هذا الحقل الملغوم بعزيمة الفاتحين؛ ليطل على بطاح المعرفة التي بحاجة ماسة إلى الكشف ، حسب غاستون باشلار.