الشعر المثير فن جمالي إبداعي حقيقي؛ لأن ما يحكم الجمال يبقى أسه الجمالي، ومثيره الفني الجمال،» الكتابة متعة؛ لذلك يمتهنها القديسون والمفكرون… الكاتب يبتكرها حياة جديدة في الفراغ، يثبت المكان والزمان على صفحة من حرير، ويسكب نهراً من قلب صغير، وحين تلد الكلمات كلمات، وتثير الأفكار افكاراً أعمق تنتشر عبقاً مثل زهور تضوع عطراً، وتنتشر مثل أوراق خضراء في الربيع… ريح مديدة تهب وتدور في زوبعة من أفكار، وتنهض الغيوم من الغابات الكثيفة للكتابة»(1). وهذا يعني أن الكتابة فن التطهير تطهير النفس من البشاعة والفوضى الوجودية العابثة إلى نبض الجمال وروح الجمال، ومن هنا يعد الفن لعبة الجمال الأولى في تحقيق اللذة أو المتعة الجمالية، أي إن القيمة الجمالية العليا للجمال تحقيق الجمال المتكامل أو الجمال التكاملي، ولهذا قال عالم الجمال جورج سانتيانا:»» الجمال قيمة إيجابية ذاتية بمعنى أن قيمته في ذاته، فهو لذة من اللذات، ولهذا تتعلق وظيفته الجمال بالمتعة»(2). وهذه المتعة هي التي تشعرك بالارتياح والنشوة والسرور،أي إن المتعة الجمالية في فاعلية الجمال أنه يخلق الاستثارة واللذة والدهشة الجمالية.
تعد المتعة الجمالية في تلقي النص الشعري من مثيراته أو مؤثراته الفنية، ولا يمكن لهذا المثيرات أو المؤثرات الجمالية من أن تنطلق إلا من بنية النص ذاته، أي من جمالية علائقه التشكيلية، وفاعلية الانزياحات الفنية في التشكيل والرؤية، ولهذا يبقى الفن الشعري هو الفن الجمالي الأسمى في التعبير عن نوازع النفس، وما تضمره من مشاعر وأحاسيس تظهر بتوالد القيم الفنية التي تشتغل في نفس المبدع حتى ينجز عمله الفني المتكامل، وهذا يدلنا على أن “المبدع يتصرف بوجوه النحو، طبقاً لمبدأ الاختيار، والانتقاء الذي يمليه عليه المعنى، أو الغرض المقصود”(3). ومن هنا يظهر المبدع أو الفنان في خلق إثارته الفنية، وتفعيل القيم الجمالية لتتوالد باستمرار؛ فالفنان ـ حقيقةـ يشكل نصه، ويخلق إبداعه تبعاً لنوازعه الفنية والموضوع الذي يتطرق إليه، وهذه العملية الفنية يمكن أن نسميها بالحس الجمالي في الخلق الفني والتشكيل الشعري المثير، وأي غنى في جانب من الجوانب الفنية الشعرية يرتد إلى فاعلية الحس الجمالي في خلق التوليفات، والمثيرات الفنية في القصيدة وتحولاتها الرؤيوية بالانتقال من قيمة جمالية فنية إلى أخرى؛ ولهذا القيمة في الفن ليست للمشاعر المصاحبة للعمل في صدقها أو عدمه، وإنما في التوليف الشاعري والخلق الفني المثير أو المؤثر الذي يرتد إلى فاعلية النص الشعري قيمة ولذة وفاعلية جمالية. ومن هنا، على حد تعبير جيروم ستولينتز” الفنان الذي لا يشعر إلا بانفعال ، أو لا يحس إلا بانفعال بسيط قد يخلق موضوعاً ذا قيمة تعبيرية انفعالية كبيرة، فعدم إخلاص الفنان لا يؤدي في ذاته، وبذاته إلى الإقلال من قيمة العمل الفني أو القضاء عليه بالنسبة إلى المشاهد الجمالي؛ بل إن العمل هو موضوع الإدراك الجمالي لا حياة الفنان، فإن كان العمل يتحدث على الإطلاق، فهو إنما يتحدث عن نفسه”(4).
وهذا يعني أن المقياس في الفن يرتد دوماً إلى القيم الفنية، وفاعلية هذه القيم في تحريك النص، وخلق اللذة الجمالية في تلقيه، وأي ارتقاء في جانب من الجوانب الفنية يعود إلى مهارة الفنان التشكيلية والإبداعية لا إلى حجم مشاعره المتوترة وضجيجها الداخلي.
والسؤال الذي يطرحه عليه البحث النقدي: ماهي مقومات الفن في لغة الشعر؟ وماهي مؤثرات الفن في هذه اللغة؟ وأين مكمن التفعيل الجمالي الفني في القصيدة؟ هل مكمن التفعيل الجمالي بالشكل الجمالي أم بالطاقة الرؤيوية المختزنة في الباطن النصي؟.
في الواقع إن الشعر فن جمالي مؤثر، ومتغير في طاقاته وقيمه الفنية فلا يمكن التقاط قيم فنية ثابتة تنطبق على النصوص الشعرية كلها، فكما أن الحياة متغيرة فكذلك قيم الفن متغايرة ومختلفة، وهذا يعني أن الفن قيم متحولة متغيرة لا قيم ثابتة، لكن تبقى للفن على العموم لغته الناظمة التي ينتظمها الإبداع الفني ذاته، دون غيره، فالكثير من النصوص الشعرية اليوم تحظى باستمراريتها المؤثرة كلغة فن تعبيري مؤثر لكن تبقى لفنيتها طاقتها المعينة مقارنة بالطاقات الخلاقة التي تنتجها قصيدة اليوم بفضاءاتها الرؤيوية المفتوحة ومغرياتها الفنية المؤثرة.
وبمنظورنا النقدي يمكن القول: إن لغة الفن على العموم لغة متغيرة في القيم والمؤثرات والنواتج الفنية. فلا يمكن أن نقيس جمالية فنية قصيدة من القصائد وأن نطبقها على قصيدة أخرى، ونحكم عليها بالمنظار الرؤيوي أو الفني ذاته. وهذه هي ثمار الفن المتطور أو الفن الذي يواكب الحياة في تسارع متغيراتها الوجودية والفنية، فالقيم الجمالية تبقى متغيرة، تبعاً لهذا التغير الوجودي في قيم الفن واختلاف المؤثرات الفنية والمنظورات إلى الفن ولغة التعبير الفني.
ولهذا فإن أولى ما يمتاز به الفن هو الرؤيا الفنية، أو الرؤيا الجمالية التي تخلق لذة الفن، ولهذا تبقى ” الرؤيا هي من طبيعة الأدب، فمن طبيعة الأدب أن يقدم نظرة شاملة ومستقبلية على الحياة، ولا يقتصر على الامتداد المكاني الذي يجعل الأدب تعبيراً عن روح العصر في إحدى المراحل.”(5).ولهذا تبقى الرؤيا الفنية أو الجمالية مفتوحة دوماً على مبتكرات الفن ومؤثرات الفن ومؤثرات المرجعية الفنية والجمالية لروح الإبداع والفن.
والسؤال الذي نطرحه الآن: ماهي مقومات الفن الجمالي في قصائد حميد سعيد؟ أين تكمن درجة الفاعلية والاستثارة الجمالية في هذه القصائد؟ أين مكمن تحولاتها الجمالية ودهشة الفن أو روح الفن في هذه القصائد؟ وهل استطاع حميد سعيد في قصيدته(فرائض الأطلسي) أن يحقق شروط الفن الشعري الاستثاري البليغ؟ وهل حقق الجمالية أو لذة الاستثارة الفنية في تشكيل هذه القصيدة والتلاعب بمحاورها النصية تبعاً للغة الفن الشعري الحداثي أو المعاصر، وهل مكمن الجمالية ماثل في شكلها وتكاملها النصي أم في تحولاتها الفنية واختلاف القيم الفنية التي تثيرها في الفن أو لغة الفن الحداثي المعاصر؟.
إن فاعلية القيم الجمالية مختلفة ومتغايرة في قصائد حميد سعيد، فهو شاعر يؤمن أن الفن مجموعة قيم جمالية متغايرة في القصيدة وتشكيلها الفني، فالفكر الجمالي للفن ماثلة في لعبة متحولاتها وقيمها الفنية، فتجد روح الفن متوفرة فيها من حيث الحساسية واللغة وتوهج الرؤيا الشعرية التي تجمع بين الأزمنة الحاضرة والغائبة، فتجد روح الفن في التلاعب بفضاءات الأزمنة ومتحولاتها داخل القصيدة، أي إن المثيرات الفنية ليست في الشكل الجمالي الفني المتكامل في قصائده؟ ولكن ماثلة في متحولها الجمالي الفني، وحراك المؤثرات الفنية والجمالية. فالتلاعب الفني الجمالي ماثلة في روحه المتوهجة ورؤياه العميقة التي تستحضر الأزمنة الغائبة لتعيشها في الواقع الراهن بلغة الفن وإحساس الفنان الذي يمتلك زخم التجربة وعمق التفعيل الحداثوي لرؤاه الشعرية وتشكيلاتها الفنية المؤثرة في تحريك الأحداث وتفعيلها جمالياً.
والواقع أن أبرز مدخل يدخلنا فضاء هذه القصيدة في تحولاتها الفنية والجمالية هو: (الحس الجمالي) الذي يجعل هذه القصيدة متلاحمة الرؤى ومتفاعلة القيم والمؤثرات الفنية، وكأن التفاعل الجمالي، أو ما يسمى لعبة المتحول الجمالي، ومتغايراته الفنية هي ما تثيرنا في رصد المؤثرات الفنية، والتحولات الجمالية في بناها وتشكيلاتها النصية المراوغة في فضاء تشكيلها النصي الشعري المؤثر.
ومن يطلع على شاعرية الأفق الجمالي المتحول في قصيدة ( فرائض الأطلسي) لحميد سعيد يدرك أن عنصر الجمال، أو اللذة فيها يكمن في الرشاقة والسلاسة والإيقاعية اللفظية الداخلية، وانسياب الجمل الشعرية بوداعة وسكينة، ولذة في رسم الإحساس الشاعري الجميل، ناهيك عن تفاعل الإيقاعات الصوتية المتحركة التي ترصد المشاعر الداخلية بصدى الإحساس الشاعري، والتناغم المثير على مستوى اللقطات، والمشاهد، والإيحاءات الصوتية، إما على مستوى التشكيل وبنية التآلف الفني الجمالي فنلحظ بلاغة الوعي الفني الجمالي في تشكيل الكلمات وخلق متغيرها الجمالي.
ولو بحثنا في مغريات الرؤية الشعرية وتناغم المؤثرات الفنية وقيمتها في تحولات الرؤية الجمالية والدلالية في قصيدة “فرائض الأطلسي” لوجدنا أن فنية الرؤية الشعرية تكمن في الحراك الفني الجمالي للأنساق الشعرية لتحقق قيمتها الاستثارية عبر الربط اللغوي الاستثاري الصادم الذي يربط النسق الشعري بالآخر، لتحقق شعريتها وتكاملها الفني، وفق المعطيات والمفاصل الجمالية التالية:
اـ الحس الجمالي في رسم المشاهد والصور التشكيلية المثيرة:
لاشك في أن الحس الجمالي المثير في لغة الشعر هو ما يستحوذ على الفاعلية الجمالية في رسم الصور والتشكيلات المثيرة في النسق الشعري، تبعاً لمولدات الاستثارة والبلاغة النصية التي تجعل النسق الشعري ذا قيمة مثيرة في تحريك الإحساس الجمالي الفني، ولا قيمة للشعرية والفاعلية الجمالية في لغة الشعر دون امتلاك القيمة الجمالية الخلاقة أو التأثيرية التي تثير النص، وتحقق غايته الإبداعية؛ ولهذا يبقى الجمال الشعري قيمة من القيم الجمالية التي تحرك إحساسنا وشعورنا الجمالي؛ لدرجة يمكن القول في تعريف الجمال” الجمال هو الإحساس الذي يسري في نفوسنا متى استمتعنا بمشاهدة الجمال، إنه يتجسد في حياتنا يغمرها في جميع مظاهرها، وألوانها الطبيعية، أو الصناعية.. إن الجمال هو ذلك الشكل من أشكال الفكر المنعكس على نشاطه الذاتي، وهو الذي جعل الإنسان يشيد المعابد والكاتدرائيات والقصور، وينحت التماثيل، كما يرسم اللوحات، ويؤلف الألحان، والأنغام الموسيقية، والسيمفونيات، وينظم الأشعار”(6).وهنا، يأتي دور الشاعر الفنان في أن يجعلنا نحس الجمال، ونتذوق الجمال بوعي فني يثير اللذة والاستثارة الجمالية؛ ذلك أن الشاعرعندما يشكل الصورة يشكلها بموقفه العاطفي المشحون أو المتوتر، وهذا ما يجعلها بالغة التأثير، وهنا يمكن القول: “الفنان يضفي على خلق الصورة الجمالية موقفه العاطفي إزاء ما يصوره. وإذا ما اختفت العاطفة من الصورة لا تلغيها، وإنما تلغي كثيرا من تأثيرها وقيمها كما تفقد حرارتها”(7).
ومن يطلع على مثيرات قصيدة ” فرائض الأطلسي” يلحظ غناها الاستثاري بالمشاهد المتتابعة التي تصور الإحساس الجمالي، وحراك الرؤى الشعرية ببلاغة نسقية، وقدرة على تحريك الصور المثيرة، وخلق مؤشرها الجمالي، كما في قوله:
“هادئاً..
يبدأ الأطلسيُّ سهرتَهُ
وتجيء إليه الفناراتُ مُثْقَلَةً بالعطايا..
وما أودعتها الضِفافْ
شاركتهُ الكواكبُ موكِبَهُ الملكيَّ..
ومَدَّتْ له في الطريق إلى الليلِ سجّادةَ الضوءِ..
يمشي إلى عرشه مترفاً وحيياً..”(8).
هنا، يبدأ الشاعر بالوصف والتصوير ورسم المشاهد والصور الشعرية بإيقاعية مترفة بالتناغم والسلاسة في رسم المشاهد الشعرية الرومانسية الآسرة، وكأن المشهد واللقطات الشاعرية تفرض ترفها الجمالي، وترسيمها الفني من خلال هذا اللقطات المشهدية المؤثرة في إيحائها الشاعري: “ومَدَّتْ له في الطريق إلى الليلِ سجّادةَ الضوءِ..”، وهذا يعني أن الفلك الرؤيوي النصي للقصيدة فلك تأملي مفتوح يشي بالحركة التفاعلية المثيرة أو المؤثرة؛ وهذا المثير الجمالي في تحريك الصور، وخلق إيقاعاتها الجمالية لدليل على حنكة الشاعر التوليفية المثيرة في ربط الجمل الشعرية، وخلق استثارتها الفنية. هذا من جانب، ولو نظرنا إلى شاعرية الاختيار الفني للأنساق اللغوية، ومدى حنكة الشاعر التوليفية في ربط الكلمة في التركيب، وخلق الصور الصادمة: “وتجيء إليه الفنارات مثقلة بالعطايا” لتبين لنا أن التشكيل المثير (“مثقلة بالعطايا” جاء مقوماً جمالياً استثاريا في خلق الصورة المثيرة”موكبه الملكي وسجادة الضوء” ليخلق مرجعه الفني الجمالي في اقتناص التشكيلات الفنية الصادمة التي ترفع رتم الاستثارة الجمالية وإيقاعها الفني في القصيدة؛ وهذا ما حققه حميد سعيد في هذا النص من حيث القيمة، واللذة، والاستثارة الجمالية، فالقول الشعري ـ ينبغي عليه أن يرسي وحدة العمق، ووحدة التنوع، والاختلاف والتمايز”(9). ولذلك تعد المرجعية الفنية الاختلافية في قصائد حميد سعيد من فواعل استثارتها الفنية والجمالية .ولا يمكن للشعرية أن تحقق هذه الاستثارة والفاعلية دون هذه المرجعية الاختلافية الجدلية التي تثير الحدث او الرؤيا الشعرية الصادمة.
وباختصار، إن فاعلية الحس الجمالي في هذه القصيدة تتمحور على بلاغة الأنساق التصويرية التي تخلق متغيرها الجمالي من حيث الإيحاء والفاعلية الجمالية.
2ـ الحس الجمالي في خلق الانزياحات الفنية الآسرة:
تشكل الشعرية اليوم بؤرة تفاعلات جمالية على مستوى الأنساق الشعرية ومحمولاتها الجمالية؛ لاسيما بالانزياحات الفنية المتحولة أو المؤثرة التي تخلقها في اللغة من جهة، وتحولات الدلالة، والرؤيا الشعرية من جهة أخرى، وهذا يدلنا على أن الشعرية هي قيمة جمالية في القصيدة، وإن إدراك الجماليات في القصيدة أو البحث عن الجماليات في بناها يتطلب فاعلية الحس الجمالي؛ ولذلك” لابد لكي نحس بالجمال العميق في الأشياء من الاقتراب من الماهيات والمثل بقدر الإمكان، ولابد من المشاركة في نماذجها الأصلية. وبدون هذا البحث الديالكتيكي في الجمال المطلق، وبدون ألفة النماذج الخالدة التي تفرض على بصرنا المضاعف في وجودنا السابق على الحياة فلن نستطيع إدراك جمال الأشياء”(10). ومن هنا، فإن الحس الجمالي في خلق الشعرية يأتي من بلاغة إسناداتها، وخلق متغيرها الجمالي الاستثاري البليغ.
والانزياح يكمن في الإدهاش الجمالي الذي يثيرنا في لحظة التلقي النصي، وهذا الانزياح هو الذي يميز التراكيب الشعرية من التراكيب اللاشعرية، ولهذا، ميز أدونيس اللغة الشعرية من اللغة اللاشعرية من خلال قوله:( النثر يستخدم النظام العادي للغة، أي يستخدم الكلمة لما وضعت له أصلاً، أما الشعر فيغتصب أو يفجر هذا النظام، أي أنه يحيد بالكلمات عما وضعت له أصلاً”(11).أي إن الشعر يفرض متغيره الفني الجمالي؛ بمؤثره الفني الانزياحي الصادم الذي يثير الموقف الشعري، ويحرك الجمالية النصية.
ومن أجل ذلك تتحدد بلاغة الشعر، أو لنقل تتحدد فنية إثارة الشعر بهذا الاختراق الأسلوبي الجمالي للذهنية المعتادة في التشكيل اللغوي، لتخلق متغيرها الفني أو الجمالي؛ فأية قيمة جمالية لابد وأن ترتد ـ لامحالة ـ إلى فاعلية الرؤيا الشعرية، وفنية الانزياحات الجمالية التي تخلقها الشعرية في متحولها الجمالي الفني المثير.
ولو بحثنا في فنية الانزياحات الجمالية التي تثيرها هذه القصيدة في متحولها الجمالي، لأدركنا أن انزياحاتها الفنية تشكل قيمة من قيمها الجمالية العليا، على شاكلة قوله:
” وسيفتحُ هذا المساء لها البابَ
للساهرين..
وللماءِ..
للسمكِ الذهبيِّ الذي جاءَ منها..
يَمُدُّ موائدَهُ بينَ حَيدِ وحَيدِ..
تَمُدُّ إليها يداً
وتعودُ بِما وهبتها غياباتُ مرجانِها من ثِمارْ”(12).
هنا، إن بلاغة الانزياح تتحدد من خلال شاعرية الرؤيا التي تجمع هذه اللقطات التصويرية الصادمة، والصور المتخيلة التي تؤكد الفكر الجمالي الإبداعي عند الشاعر، أي إن الانزياح لم يكن باللغة الصادمة، وإنما بالصور المتخيلة التي نقلت الشاعرية من الانزياح اللغوي التشكيلي الصادم إلى فضاء المتخيل الوصفي التشكيلي المثير؛ ليشتغل على انزياحات الرؤى، والمخيلة، بابتكار صور ومحادثة أشياء وإنتاج متخيلات بديعية في رسم لوحة وجودية متخيلة للأطلسي، وكأنها فرائض، وسنن يفرضها على الوجود بإيحاء فلسفي ، أي إن انتقال الشاعر من شعرية المنزاحات اللغوية الصادمة إلى شعرية المتخيلات الوصفية الصادمة هو ما يؤكد تجديد ينابيع الشعرية في تحولات القصيدة عند حميد سعيد. فالانزياح التعبيري أو الفني عند حميد هو انزياح رؤيوي خلاق يهدف الشاعر من خلاله على خلق النص الممانع.ووفق هذا التصور، والوعي النقدي، نؤكد أن شعرية الترسيم الفني من مؤثرات الشعرية ومتحولاتها الجمالية في قصائد حميد سعيد، فهو ينوع في مصادر استثارة قصائده على المستوى الفني، وهذا التنوع هو ما يحقق اللذة الجمالية في فاعلية المخيلة الجمالية في تحريك الرؤى والأنساق الشعرية بما يحقق إيقاعها الجمالي المتحول أو المتحرك في النص.
وما ينبغي التأكيد عليه في شعرية المتحول الجمالي الرؤيوي في القصيدة أن الصور الشعرية منزاحة في تأثيرها وبلاغتها الوصفية كما في قوله:
إنَّ أولى فرائضهِ ..”
أنْ يراهُ مريدوهُ شيخاً حكيماً..
له ما لهُ
وله ما عليهِ
مُذْ كانَ يُسلِم أمواجَهُ للرياحِ..
ويبتكِرُ العاصِفةْ
يقول لسِربِ الدلافين كُنْ حَذِراً من مياهي
وللأزرقِ المُتَخَفّي وراءَ زبرجدِهِ..
كُنْ كما شئتَ..
إياكَ أنْ تَستعيرَ قميصَكَ مما تخيَّلهُ الشعراءْ
أيُّها الأزرقُ المُتَخَفّي وراءَ زبرجدهِ..”(13).
لابد من الإشارة بداية إلى أن اللعبة الجمالية في تحولات القصيدة ومغرياتها النسقية في هذا المقتطف تنشأ من خلال تشعير الوصف، والسرد، والسلاسة والرشاقة اللغوية الوصفية في الانتقال بمجريات السرد المتخيلة ،أي إن حميد سعيد يدهشنا في ملتقطاته التصويرية المفاجئة، وتناغم المؤشرات الجمالية التي تبرز بين الحين والحين، بلعبة تشكيلية شعرية كما في هذه التنقلات الوصفية المنزاحة في فضاء متخيلها الجمالي،كما في قوله:
“يقول لسِربِ الدلافين كُنْ حَذِراً من مياهي
وللأزرقِ المُتَخَفّي وراءَ زبرجدِهِ..
كُنْ كما شئتَ..”. إن هذه الحساسية الجمالية في بث هذه الرؤى، والأحاسيس، والمنظورات لهي من مؤثرات الفكر الجمالي عبر فنية المتخيلات المنزاحة شعرياً بإيقاع متخليها المثير، وبلاغة الانتقال من صورة إلى صورة، ومن مشهد شعري إلى آخر؛ بمتخيل شاعري استثاري يؤكد الحنكة الجمالية في رسم الأحداث، والرؤى الشاعرية التي تجسد اللحظة الشعرية بحرارة وقيمة إبداعية. وهذا دليل أن لعبة الاستثارة الفنية تظهر في هذا الحراك الرؤيوي وتفعيل الأنساق الوصفية لتسمو وترتقي فنياً.
وصفوة القول: إن فاعلية الحس الجمالي التصويري الانزياحي تتحقق في هذه القصيدة من خلال فنية الإسنادات والتشكيلات اللغوية المفاجئة وتفاعل المؤثرات الفنية في القصيدة، لدرجة أن الصورة تحقق تفاعلها النصي البليغ ومنتجها الفني المؤثر.
3ـ الحس الجمالي في تشكيل السرد الشعري:
لا شك في أن الحس الجمالي في تشكيل البنية السردية للقصيدة من مثيرات الحداثة؛ وهذا يعني أن الأفق الجمالي الفني من مثيرات الرؤيا الشعرية التي تعتمد السرد كقيمة رؤيوية تحفيزية في رصد الوقائع، والأحداث، ورسم التفاصيل الجزئية، ولهذا فإن ” قضية التخييل في لغة السرد تمنح السرد بوصفه فناً دينامية إثارية من خلال كسر الطرق الاعتيادية لنقل المعنى بوساطة اللغة”(14).أي إن طاقة السرد الفنية من قيمتها وفاعليتها التخييلية المثيرة، ولهذا ، فإن اللعبة الحقيقية في تفعيل السرد هي إضفاء المتخيلات الشعرية لترصد المواقف، والتفاصيل، والأحداث، لتحظى بإيقاعها الشعري الانزياحي المثير.
والملاحظ أن فاعلية التحولات السردية في قصيدة (فرائض الأطلسي) تعتمد على شعرية المتخيل الجمالي في تكثيف لغة السرد الفاعلة؛ لتحقق إيقاعها الجمالي المتحول، أي إن السرد الشعري في هذه القصيدة سرد تخييلي يرسم الرؤى بإحساس جمالي، وحنكة تصويرية بالغة الدقة والشاعرية، كما في قوله:
“يرتبِكُ الأطلسيُّ من أيِّ بابٍ سيُدْخِلُها ..
وبأيِّ اللغاتِ تُغَنّي لها الملِكةْ
وتُقيمُ لها مملكةْ
وتقول لها.. أتبيعُ القياثِرَ في ما تبيع وترهنُ أوتارها
تَتعلَّمُ منها فروض الشذا..
أمْ تراها.. تَكَتَّمُ عما رأته وما ستراهُ..
وتختارُ أسئلَةً مُربكةْ”(15).
لاشك أن السرد في قصائد حميد سعيد عامة يشتغل على فن المتخيل الجمالي من جهة، وفن السلاسة والبساطة والدهشة الشاعرية في لغة السرد من جهة ثانية، أي إن المتحول الجمالي السردي متحول شعري أو شاعري من خلال التوليف السردي الجمالي الشائق والانتقالات النوعية بين الجمل، لخلق المباغتات السردية الفاعلة في تحريك الرؤيا الجمالية؛ وهذا يعني أن المثير الجمالي السردي مثير تفاعلي فني بليغ؛ فالقيمة العلائقية السردية قيمة تفاعلية نصية تهدف إلى خرق الرؤى السطحية وإثارة المباغتات السردية الفائقة، عبر الاستفهامات المتتابعة، أو التساؤلات المفضية إلى إثارة الكثير من الرؤى الفلسفية والوجودية في الحياة، لخلق ما يسمى السرد الرؤيوي الصادم، وهذه هي الحنكة، واللذة الفنية في التعامل مع قصائد حميد سعيد، وهنا، نلحظ أن التساؤلات جاءت لتفجر مكنونها الرؤيوي بإيقاع تشكيلي مثير:”أتبيعُ القياثِرَ في ما تبيع وترهنُ أوتارها/ تَتعلَّمُ منها فروض الشذا..”،هنا، إن التساؤل هنا لم يأتِ فقط لإيصال رؤية أو دلالة، وإنما جاء ليحرك روح الإيقاع التأملي الوجودي في الحياة؛ لاستنطاق الوجود فيما يسمى (ميتافيزيقا الكون) وحركة الوجود وإيقاع الحياة.وهذا يعني أن الفن الجمالي في السرد الشعري ـ في هذه القصيدةـ فن رؤيوي فلسفي وجودي يستقرئ الحياة وحركة الكون، أو لنقل السرد الفني الرؤيوي المتحول بإيقاعاته، ورؤاه الفنية؛ ومن هنا، يمكن القول: إن فن السرد الشعري في هذه القصيدة فن تحولي استثاري بليغ، فن رؤيوي وجودي كينوني متحول من رؤية وجودية إلى رؤية، وهذا مكمن التفعيل الجمالي في لغة السرد الشعري في هذه القصيدة.
ولو تأملنا في سيرورة القصيدة جمالياً في حراكها السردي، وكثافة المنظورات، والمتخيلات الشعرية لتبين لنا أن السرد ليس مجرد كلام وصفي شائق، وإنما يشكل فكراً جمالياً وجودياً متغيراً، أي شعرية السرد تتعدى حاجز الدلالات السطحية؛ لتدخل في عمق الفكر الوجودي، واستنطاق حركة الأشياء، ورصد إحساسها ونبضها الداخلي، كما في قوله:
“ساحِلٌ لَيِّنٌ..
وبيوتٌ من القشِّ يدخلها الماءُ..
أنّى يشاء
يُشاركُ أصحابها الفقراءَ..
ما وفَّروا لليالي الشتاءْ
تطير النوارسُ مزهوةً..
وتمرُّ السلاحف عجلى..
إلى أين؟
كلٌ له من فرائضه ما تعوَّدَ من دهره..
وتعوَّدَ من غَدِهِ..
وارتضى ما اصطفى من طقوس الفناء”(16).
هنا، نلحظ القيمة الجمالية العظمى في بنية السرد الوجودي التأملي العميق، وهذه اللغة السردية الفنية المتحولة بحركتها الوجودية الفلسفية العميقة لا يستطيعها إلا حميد سعيد، يدخل الإنساني في الوجودي، الوجودي بالزمكاني، والحاضر بالغائب، والموت بالحياة؛ ليشتغل على الدراما التشكيلية المتحركة من إيقاع الداخل إلى الخارج، وكأنه في هذا المقطع يجمع حركة الوجود والحياة بمتحولها الوجودي وكينونتها الآسرة، فالقيمة الجمالية في التساؤلات السابقة تبرز من فاعلية متغيرها الجمالي، ومتحولها الاستثاري من رؤية إلى رؤية، وهذا يؤكد أن السرد الشعري ـ في هذه القصيدةـ سرد فلسفي تأملي وجودي يطرح الكثير من التساؤلات الوجودية اللامتوقعة، ليعيش الشاعر إحساسه الوجودي بين الواقع والحياة بين الممكن والمستحيل، بلعبة درامية سردية متحولة؛ تثير الرؤية، والحدث الشعري الوجودي في آن معاً، وهذه أعلى قيمة جمالية في المتحولات السردية الرؤيوية في هذه القصيدة.
ملحوظات ونتائج أخيرة:
1ـ إن فن السرد في هذه القصيدة فن تحولي استثاري، يؤسس لعبته الفنية على النظرة الفلسفية الوجودية المتغيرة في استنطاق الأشياء، والتلاعب بالرؤى، والمنظورات الوجودية، وهذا يعني أن التنقلات الوصفية هي تنقل رؤيوي شاعري بليغ. ومن أجل ذلك يُضمِّن الشاعر لغة السرد الكثير من التساؤلات الوجودية المحمومة التي تنطوي على العديد من الفواعل الرؤية، ومحفزاتها النصية الوجودية التي ترصد حركة الوجود والكون عن طريق استنطاق الجمادات، والتحدث إليها، وعنها وهذا منتهى التفعيل الفني الوجودي للمثيرات الجمالية.
2ـ إن شعرية القصيدة شعرية فلسفية وجودية رؤيوية فاعلة في تفعيل لغة السرد الوصفي بالمتخيلات السردية المشهدية حيناً، وبالرؤى الفلسفية الوجودية العميقة التي تستنطق الوجود العراقي والزمكاني حتى في تفعيل الجمادات، لتنطق بماهية الأشياء وديالكتيك الوجود، ولذلك إن أي انحراف تجاذبي فني في لغة القصيدة ينعكس لامحالة على رؤيتها الوجودية الخلاقة.
3ـ إن هذه القصيدة هي القصائد التي نطلق عليها قصائد(الرؤيا) أي القصائد التي تتعدى حاجز الفكرة إلى الرؤيا الكونية الوجودية لحركة الأشياء، أي شاعريتها تكمن في منظارها الفلسفي الوجودي العميق، وتتحدد شعريتها بشعرية القيم التي تبثها، وشعرية التأملات الوجودية المفتوحة على كم هائل من المتغيرات الوجودية والرؤيوية في إثارة الرؤى الفلسفية الجديدة منظوراتها الفنية.
الحواشي:
بارنستون، توني، وبينغ تشاو،2014ـ فن الكتابة، تعاليم الشعراء الصينيين ،تر: عابد أسماعيل، دار المدى ، دمشق، ص 13.
سانتيانا، جورج،2001ـ الإحساس بالجمال، تر: محمد مصطفى بدوي، مرا: زكي نجيب محمود، ط 1، ص93.
خليل، إبراهيم، 1997ـ الأسلوبية ونظرية النص، دراسات وبحوث المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، ص42.
ستولينتز، جيروم،2017ـ النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية تر: فؤاد ذكريا، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، ص245.
محيي الدين، صبحي، 1988ـ الرؤيا في شعر البياتي، دار الشؤون الثقافية العامة،ط1، ص22.
عبد المنعم عباس، راوية، 1997ـ الحس الجمالي وتاريخ الفن،(دراسة في القيم الفنية والجمالية)، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، ص9.
عبيد،كلود،2010ـ جمالية الصورة( في جدلية العلاقة بين الفن التشكيلي والشعر)، منتدى سور الأزبكية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، ص98.
سعيد، حميد،2023ـ نجمة بعد حين، دار دجلة، ط1، ص47.
أدونيس، علي أحمد سعيد،1985ـ سياسة الشعر، ص14.
هويسمان، دنيس،2015ـ علم الجمال ( الاستطيقا)، تر: أميرة حلمي مطر، مرا: أحمد فؤاد الأهواني، المركز القومي للترجمة، المملكة المتحدة، ط1، ص22ـ23.
أدونيس، علي أحمد سعيد، 1985ـ سياسة الشعر(دراسة في الشعرية العربية المعاصرة)، دار الآداب، بيروت، ط1، ص24.
سعيد، حميد،2023ـ نجمة بعد حين، ص50.
المصدر نفسه، ص51.
مارتن ، والاس،1998ـ نظريات السرد الحديثة، تر: حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة ، مصر، ط1، ص25.
سعيد، حميد، 2023ـنجمة بعد حين، ص55.
المصدر نفسه ، ص56.