الحلم الممنوع للحسن زينون ‫:‬ الجسد الراقص كجبهة نزاع بين الفنان والسلطة‫!‬

هي قصة جسد تقتسمه الأسطورة والحكاية الشعبية بشهية، كما تقتسمه رقابة المجتمع والسلطة.. بحذر مبالغ فيه!
في النهاية نكتشف أن التقليدانية لا يمكن أن تنهار إلا بانهيار الحجب التي تغطي الجسد..

 

في الكتاب/ السيرة «الحلم المحظور» الذي يروي حياة الفنان الكوريغرافي المغربي العالمي والسينمائي المخضرم لحسن زينون، الذي صدرت ترجمته العربية، يجد كل واحد منا جزءا من جدارية رسمتها له الحياة. شخصيا، مثلا أعتبر أني معني بها، من خلال ذكريات مهرجان السعيدية وحفلات الثمانينات الكوريغرافية على الشاشة الوطنية، على إيقاع العلاوي، والركادة والنهاري والمنكوشي. كما يخلق ذلك ألفة بين مسافرين في قطار، أعتقد أن ألفة نبتت بين ذاكرتي وبين الكتاب. بيني أنا القارئ وابن الشرق الذي يحمل الإيقاع في روحه.
لكن هناك أيضا تدقيق في ما يمكن تسميته، إجمالا، إكراهات الثقافة الفنية للجسد المغربي، المحاط بالأسلاك الشائكة، الموزع بين التقديس والتدنيس، في كافة طبقات المجتمع، من السلطة والناس. ذلك الجسد الذي يهابه الجميع، جسد حمدَلِيٌّ تارة وشيطاني تارات عديدة.
نكتشف بأن الرقص يعلمنا خطوات الحرية نفسها وليس الحركة الرشيقة أو التعبيرية فحسب. فالحرية لا تكون مصطلحا مثاليا ومِثالا متساميا أو فرضية محلقة في الأعالي، بل هي مضمنة في الجسد، فيه تبدأ وفيه تنتهي، ويتجلى ذلك من خلال سعي كل سلطات المجتمع، الي تلجيمها‫:‬ ابتداء من الأب المحبوب المقاتل، لكنه يخاف الرقص أولا، ثم ممثل السلطة والي البيضاء وعاملها المعجب بنبوغ التلميذ والمرعوب من هويته الراقصة ثانيا، ثم أعلى السلطة في شخص شخص الحسن الثاني رحمه الله الذي يعرف الجمالية المغربية في تقليدانيتها التي لا يختل معها نظام العالم الذي ورثه المغرب، ثالثا، ثم الحشود المرعوبة في مسرح محمد الخامس، رابعا، ومعهم لا تنتهي.

العقد البيوغرافي

في «ص 13» يبرم لحسن زينون عقدا أوتوبيوغرافيا مع قارئه المحتمل، لما يصنف “الحلم المحظور” سيرة ذاتية¡ وهو يبني تعاقده على امتنان للسيدة ميشيل ديموت، القارئة الوفية.
غرابة التقديم أن عبد الرحيم برادة يوصيه بالموت ككل البشر، وألا يطمع في أبدية ستجبره على العيش مع المدعين الأفاقين، الذين يضرب عليهم التاريخ أسوار العزلة.
حيوات كثيرة ترافقه: حياة عبد الرحيم برادة. حياة إيفلين السرفاتي شقيقة الكبير ابراهام التي نكلت بها القسوة البشرية عندما أخفت سر أخيها القائد الشيوعي الشهير (موضوع فيلم عثرة 2003) .
السيرة هي سيرة جسد واجه في لحظة من لحظات التاريخ، قسوة السلطة. الجسد وقد أصبح فكرة، كما الجسد وقد صار كتابة، يتفرغ لتفكيك رمزياته ويتحول، في لحظة البوح الى رقصة فراشة: بين المكتوب والسينما.
إن أحد العناصر الأساسية في السيرة الذاتية، هي الحكمة من وجود ما. الاستسلام ليس صديقا. ومن الحكمة اقتباس الحكمة من لدن الآخرين أيضا. كل فصل له عتبة. حكمة ما في جملة أو في مقطع شعري. لكاتب ما، من أمثال إيميل فيرهارن، نتشه.
الرقص أيضا طريق رباني. ليس فقط اختيارا ثقافيا، أو حيويا ، بل هو تعبد صوفي. البحث عن صوفية مادية بحواس تصّاعد نحو النورانية، كما فعل كبير النورانيين جلال الدين الرومي.

الفصل المؤسس

تقوم السيرة الذاتية على جوار إجباري، (الأم أساسا) من ضروراته الحكي عن الأم، وبدا لحسن زينون كما لو أنه يكتب سيرة والدته، وهو لم يولد بعد من داخل فكرة الخلق نفسها. هي الفكرة تقوم على قسوة رهيبة. هنا أيضا الأم عائشة، زوجة الحسين، تتنقل بين مكناس والبيضاء، لكي تحمل إلى أخيها وأبيها المسجونين بتهمة باطلة، في العاصمة الغول.
عائشة، الحامل، بابنها لحسن، هي سيرته قبل الميلاد في شتنبر 1944. سيرته سيرة كبرياء الأم وشموخها ورهافتها وإنسانيتها. يخيل إليك أنه يضع الديكور لحياته القادمة، ويرسم المشهد قبل ولادته. إنه في المحصلة جنين يكتب من داخل الرحم التي تحملهُ.
يعيش الطفل لحسن جسده من أحداث خارجية، وتلقنه القضبان الحديدية في محل للبقالة¡ أول درجات الصولفيج الذي تتنبه لها الحواس (ص 32):
“رنين يغرقني في حالة ذهول”.
الطفولة جدارية طرية، لا يملك فيها الطفل لحسن وأقرانه من أدوات الحداثة في مدينة هي حاضنتها سوى… الخيال المجنح وانتظار الصدفة (37) للقاء بالفرجة. وهو ما وقع عند ميلاد الدهشة الأولى في ملعب فيليب مع سيرك عمار… ثم تجارب الحياة الطفولية بمحيطها المغري… وأولى تباشير الربيع الجسدي، عبر طقوسها (ختان، حمام مع الأم) اللقاء بالرقص لتأكيد الهوية من خلال الحفلات الضاجة وقصة المرأة المنقبة ترقص على ركبتيها.
يقول الراوي: “خلعت المرأة النقاب الذي غلفها بالكامل بعد أن زاد حماسها وتضاعف.. و قد كان ذلك النقاب مشكلا من أجزاء متعددة، لذلك سعت المرأة الراقصة إلى إزاحة الجزء الواحد تلو الآخر بعد ان استبد بها الحال.. هل شكلت هذه اللحظة المدهشة الفاتنة مصدر تحويلي الى راقص”. هنا المفتاح في ص 44.
سؤال في الواقع يحيل على سؤال آخر يطرحه القارئ متى كانت لحظة الخلق الأولى للجسد الراقص، ولقائه بشمس تسطع به من وراء الحجب؟
على كل تبدو لحظة اللقاء بالراقصة المنقبة هي الارتطام النرجسي بالجسد.. يكشفه التداعي التالي: “هل كنت مدركا في أعماقي الدفينة بأن الرقص الذي اكتشفته للتو كان يبنيني من الداخل ويتلبسني، مثلما كان يطور في شخصيتي قوة الإحساس بالحياة والجمال؟ وهي القوة التي مكنتني من صياغة مصيري الفردي بكل جرأة وحماس؟”.
بعد ذبذبات الرقص، يكون دور السينما قد جاء ودخل طفولة الطفل لحسن الأولى، عبر الأمسيات السينمائية في الحي، وتحويل جدرانه الى شاشات. وتبدو السينما هناك موضوعة تحت مجهر الرقص، كما هو حال وصفه لحركات شارلي شابلن الصامتة ” بثراء حركته وسخاء جسده الصغير… ومشيته التي هي في حد ذاتها رقصة”.
بعدها سينتقل الطفل الى التعلم الأكاديمي ومن السينما عبر المراسلة (1959).
تكاد الموسيقى أن تصبح عطرا، كما في رواية سوسكيند عندما يكتشفها منبعثة من نافذة كبرى لأحد المباني بالبيضاء. صدفة قادتها قدماه الى مخدع هذه السوسنة التي يفوح عطرها.. نوتات موسيقية “لقد ضرب القدر ضربته وتغير مسار حياتي حتما منذ تلك اللحظة”.
في الواقع، نتابع السيرة، ونحن نشعر بأن الحياة، وهي تكتب سيناريوهاتها الخاصة، كانت تصنع في الوقت نفسه الهيكل الرئيسي لما سيشكل مادة للخيال والكتابة… والامتحانات أيضا¡ وتجعل الفن في موضع اختبار وتضحية، كما وقع عندما طرد الطالب الراقص من بيته العائلي، وهو فرصة أيضا للتعبير والسمو به إلى مراتب التجلي.
تخرج لحسن زينون الأول في دفعته (1964) لكنه سيكتشف بالألم، أن الرقص في دائرة القرار منبوذ من خلال موقف عامل الدار البيضاء من طلبه منحة لمتابعة دراسة الرقص في أوروبا، وبلجيكا بلد النجم العالمي بيجار… لتبدأ حياة أخرى.
الراقص البطل مدين كثيرا للمرأة: الأم أولا، لسانا دولسكي، السيدة ماكوفياك… حنا فوس مديرة باليه والوني، طبعا زوجته ميشيل،
طريق الأنبياء في الواقع طبعا الذي لابد من قطعه للوصول إلى التتويج الأعلى. وحصل ذلك لما عينت نجما راقصا لأداء الشخصيات الرئيسية في 1969، وكانت انطلاقة جسدية كبيرة عندما تفرغ لحسن زينون لجسده، وجها لوجه مع أفلام تسكن أطرافه.. وأولها قدماه. ãä ومن المفارقات التي طبعت هاته المرحلة أن هذا الهوس الفني الراقص لم تكن ترافقه عناية حياة الجسد (الاقتصاد في كل ما له علاقة بحياة الجسد من مأكل…)
العبقرية الفنية تلقى التكريم في مسارح أوروبا للنضج الفني المتتالي¡ وتصبح الحياة محاورة متواصلة بين الشعر والأسطورة والفن والكتابة.
وتنتظر دقات القدر.. كما حصل أثناء أداء رقصة باليه مع النجمة “ßáíÑ ãæÊ” وحديثها عن الملك وفن الباليه: ” اعتقدت كليرأنني راقص روسي.
قلت لها:
أنا مغربي
فأجابتني بسرعة عجيبة:
من حسن حظك أنك كذلك. لديكم ملك عجيب.
لا شيء جديد في كلامك.
كلنا نحب ملكنا.
هل تعلم أن نجوم الرقص بأوبرا باريس اعتادوا الرقص بحضور الملك وعائلته عند زيارتهم لباريس . إنه يحب الرقص كثيرا¡ ويدرك عناصره ومقوماته…”
كنت مندهشا جدا.. أخيرا قلت لنفسي، هناك شخص بالمغرب يقدر فن الرقص الكلاسيكي ويفهمه، مما دفعني ألى التساؤل عم أفعله هنا بأوربا.. “ص 116.
وكانت العودة في 1973 تلتها تجربة المعهد الوطني للموسيقى والرقص أيام السيد عبد الواحد أكومي.
وكانت تلك حياة بين حدي السيف والشهر لعل ما طبعها كانت هي ليلة الأميرة للا أمينة
الحياة التي كتبها لحسن زينون كتابة بارعة، هذه الحياة هي سيرة جسد، وسيرة ثقافة جسدية، محشورة بين الجهل والتقاليد والكليانية الجماعية الخانقة، وسيرة لجسد متن يصارع لتحرير كل الأجساد المحرومة من التعبير.
ولعل قمة المواجهة كانت المواجهة في أعلى هرم السلطة وهرم الكوريغرافيا‫.‬ وقد ابتدأت مع حكاية في سنة 1985 مع الجيش المغربي والجنرال القباج، أيام الفرقة الوطنية للفنون التقليدية، كما سيرويها في الصفحات ص 180 – 181 – 182 – 183. لتصل بنا إلى قمة التقابلات بين فهم السلطان للجسد الراقص وفهم الفنان لنفس الجسد. عندما يصيح الحسن الثاني رحمه الله: نحن بلاد الرجالة ولا أريد أن يكون هناك راقصون في بلدي… لا تنصتوا أبدا لهذا الشخص الذي يسعى الى تدميركم (1986/87) ونصل المنتهى عندما يهدد الملك الراقص بدعوى قضائية‫…!‬ نحن في الوقاع بين خيارين جماليين . يصل بصاحب السيرة الى التأمل القاسي والحكم الصارم.. “لا نحن لا نملك جسدا. نحن جسم”.
لم يستسلم الراقص الكوريغراف، المخرج، الكاتب. واصل تألقه في العالم وهو يحمل فكرة الحرية.. انتقل بخفة الفراشة بين الكتابة والشاشة… احترف فعلا هاته الحرية وعبر عنها في أعمال سينمائية كبرى ككوريغرافي مع مارتن سكورسيزي وبيرناردو بيرتولوتشي¡ ومغاربة ßãÕØÝì الدرقاوي وسهيل بن بركة وسعد الشرايبي الحاضر معنا في” نساء ونساء”.
هذيان صارخ والصمت.. عود الورد. فيلوغرافيا لكل ماهو مجهض وكل ماهو ممنوع.
حتى صار الحلم محظورا؟…. منذ وجد الجسد
ومتى وجد الجسد؟ منذ أن فكر الحلم في تحرير نفسه. هو تاريخ الجسد.. هو تاريخ قمعه ومقاومته وفروسيته اللاتساوم. درس في الحياة واللغة هو الكتاب! وقدرة فائقة على صناعة الأمل ‫.‬
ويغلق لحسن زينون كتابه، بملخصات عن أعماله السينمائية، كما يلحق نصين هائلين لكاتبين كبيرين ومتابعين صديقين له هما عبد الحق سرحان ومصطفى الشباك، الاستاذ سابقا في معهد الفنون الجميلة بالبيضاء‫..‬
هي سيرة ذاتية حقا، لكنها بالاضافة الى ذلك سيرة جماعية للممنوع في المغرب ومتابعة لتحولات الجسد بين مخالب السلطة والمجتمع‫..‬

هامش

(قدمت هذه الورقة احتفاء بكتاب «الحلم المحظور» للحسن زينون يوم السبت 3 دجنبر الجاري خلال فعاليات الدورة السادسة لمهرجان تاصميت للسينما والنقد الذي نظمته جمعية مهرجان ثقافات وفنون الجبال ببني ملال).


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 09/12/2022