الجفاف والغلاء يهددان بتراجع إنتاجه رغم تدابير التخفيف من حدّتهما على صغار الفلاحين
اكتست الأرض حلّة مزركشة ولو بشكل نسبي، خلال شهر فبراير، بفضل التساقطات المطرية والثلجية التي عرفها المغرب، والتي أسعدت الجميع وتنفّس لها الكلّ الصعداء، بشكل جعلت الفلاحين خصوصا وسائر المواطنين عموما، يخرجون وإن بدرجات متفاوتة من دائرة القلق الذي حاصر الجميع، والذي تطّور عند الكثيرين إلى خوف وأسى، من عطش بدت ملامح جفافه على أكثر من مستوى، في وطن ظلت خضرة أراضيه، وغزارة مياهه المتدلّية من عيون الجبال، ومن شلالات كتلك المتواجدة في إقليم أزيلال، على سبيل المثال لا الحصر، من بين عناوينه الأخّاذة، التي تبهر العيون وترتاح لها النفوس.
تساقطات أحيت الآمال في إمكانية إنعاش التربة، وإنقاذ الموسم الفلاحي، خاصة في ارتباط بالزراعات البورية والعلفية، لكي تتكامل حلقات عُقد الأمن الغذائي، بين ما هو طبيعي يترقبه الجميع بكل تفاؤل، وبين ما هو إجرائي مؤسساتي يهمّ التدابير المعتمدة لدعم هذا القطاع والمنتسبين إليه، قصد تحقيق نسبة مهمة من الأهداف الأساسية المسطّرة. هذا العُقد الذي تكمن جماليته في توفير كل السبل لكي يستمر «العيش» بكل تفاصيله، في البوادي كما في الحواضر، ولكي نتجاوز العجز الذي حين يتهدد الماء، فهو يمس بالغذاء، ولا يقف الأمر في هذا الصدد عند الحبوب والقطاني، والخضروات والفواكه، واللحوم الحمراء أو البيضاء فقط، بل يشمل كذلك مادة، ظلت مورد رزق لمواجهة أعباء الحياة عند صغار الفلاحين، وعنصرا اقتصاديا مهما عند كبارهم، ومنتوجا غذائيا متميزا، عند الصغار والكبار، مرتبطا بالنمو وباحتياجات الجسم لغنى مكوّناته، ويتعلق الأمر بالحليب، الذي يريد الجميع، في اللحظات الحرجة، سواء التي مررنا منها سابقا أو التي لا تزال ترخي بظلالها علينا إلى غاية اليوم، أن يحمل بياضه، هذا اللون الذي يرتبط بالطهارة والنقاء وبكل ما هو أًصيل من قيم وشيم، طمأنينة وسكينة في حقل كل المشتغلين فيه والمرتبطين به.
في الطريق إلى منطقة «السوالم» التي تتمدد إسمنتيا يوما عن يوم، ويعلو البنيان فيها تدريجيا بشكل تصاعدي، اخترنا أن تكون وجهتنا صوب بعض الدواوير التي ظلت إلى وقت قريب تعيش على غنى أراضيها بما تجود به من خيرات، بفضل الماء القادم من السماء وكذا الصاعد من باطن الأرض، في رقعة جغرافية تحتضن تربة خصبة تقدم لأهلها ما هم في حاجة إليه بكل سخاء.
بساط أخضر في حاجة إلى مزيد من «الزركشة»
قطعنا بضعة كيلومترات، ونحن ننتقل لإنجاز أحد دعامات هذا العمل الصحفي الذي قررنا أن نسلط الضوء على موضوعه من زوايا مختلفة على صفحات جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وكنا ونحن نطوي المسافات، بعد أن انعطفنا من الطريق الرئيسية لـلنقطة المسماة 36، نتابع بـ «شغف طفولي» تلك المساحات المختلفة، التي تحوّلت في ظرف زمني وجيز إلى بساط أخضر، وإن كان علوّ عشبها لم يلامس بعد، ما اعتدنا عليه وألفناه ولا يزال لاصقا في ذاكرتنا، لكن ومع ذلك، فقد كان بمثابة كوّة مفتاح صغيرة في باب عريض للخيرات، التي يتضرع الجميع للباري عز وجلّ، دعاء وابتهالا، لكي تستمر ولا تنقطع وأن تكبر أكثر فأكثر.
في تلك الأراضي التي كانت تحيط بنا، كان لافتا للانتباه، تواجد بعض الأبقار هنا وهناك، في أعداد صغيرة، لا تتجاوز في بعض الحالات البقرة الواحدة في مساحة مهمة، وفي أخرى البقرتين أو ثلاث، كما كان واضحا أنها لم تكن بذلك الشكل الذي يحضر في المخيّلة كلما كان الحديث عن هذه الحيوانات، التي هي أحد مصادر استمرار العيش بنسلها وحليبها ولحومها، إذ كانت عظام عدد منها بارزة، مما يؤكد على ضعفها وعلى فقر غذائي تعانيه، فقد كانت تتقاسم الحشائش فيما بينها، إلى جانب حمير وبغال وبضعة أغنام هنا وهناك، يراقبها تارة عن بعد، وتارة أخرى عن كثب، نسوة أو رجال أو أطفال.
في ضيافة «تعاونية»
بعد مسافة معيّنة دخلنا تراب دوار جدات، التابع للنفوذ الترابي لجماعة الساحل اولاد حريز إقليم برشيد، وتوجهنا بشكل مباشر صوب مركز صغير لتجميع الحليب، حيث كان في استقبالنا بناء على موعد مسبق، رئيس التعاونية مصطفى احمادات، الذي كانت ابتسامته واضحة على وجهه، والتي سيتبيّن فيما بعد أنها تستمد إشراقتها من الأمل الذي يسكن قلب الرجل، ومن المواطنة التي تسلّح بها في أزمات ومراحل عديدة لتجاوز كل الصعاب، التي كانت إما مناخية أو «بشرية»، والتي تسببت في أزمات للعديد من الأسر التي كان هذا المواطن يعمل جاهدا، وفقا لما أفصح عنه وهو يتحدث إلينا ويردّ على أسئلتنا، لكي يكون عاملا من بين العوامل الأخرى، الرسمية والمدنية، التي تتكتل وتعمل من أجل أن تتوفر لشبابها شروط العيش الكريم، فلا يفكروا يوما في مغادرتها نحو وجهات تختلف مآلاتها.
جلس مصطفى برفقة أشخاص آخرين، القاسم المشترك بينهم، لم تكن رابطة الدم والقرابة العائلية فقط، ولا الانتماء القبلي، وإنما كذلك «الهويّة الفلاحية»، وإن كان الأمر يتعلق بفلاحين صغار، بالكاد يواجهون مشاق الحياة لكي يبقوا واقفين على أقدامهم ولا يسقطون أرضا. بعد جلسة تعارف بسيطة وضّحنا لمحدثنا ومضيفنا بشكل مدقّق ما الذي جلبنا إلى هناك، والغاية من زيارتنا، وبدأنا ننتقل معه من فكرة إلى أخرى، وخلال تنقّلنا هذا كانت التفاصيل المختلفة، التي قد لا يعرفها الجميع، تتبين معالمها وتتضح تأثيراتها المختلفة.
ولادة عسيرة وتحديات للاستمرار
شكّل الجفاف والتدابير المتعلقة بالماء والإشكالات المرتبطة به إضافة إلى قرب حلول شهر رمضان الأبرك وعلاقة كل هذا بوضعية مادة الحليب، المدخل للنقاش مع حمدات، قبل أن ننتقل للحديث عن الأبقار الحلوب، وتفاصيل اقتنائها وتربيتها وتوفير العلف لها، والدعم الذي توفره الدولة من خلال وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات لمساعدة الفلاحين على الاستمرار في احتضان هذا النوع من الأبقار، فجاء حديثه مسترسلا معبّرا عن الواقع بلغة ابنة بيئتها.
أكد مصطفى أن التعاونية الصغيرة شرعت في العمل في سنة 2016، وانطلق نشاطها في البداية ببضع فلاحين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد العشرة، ثم بدأ العدد في الارتفاع مستقطبة فلاحين صغار من الدوار ومن الدواوير المحيطة ومن بينها لغرابة، أولاد علي، سيدي قاسم، خريشفة وغيرها، مشيرا إلى أن الاشتغال في الحليب ظل يعرف تباينا، فتارة يصل عدد المتعاملين إلى 200 فلاح وأكثر، وتارة أخرى يتراجع، في ظل وجود مجموعة من الإكراهات والتحديات، كما هو الشأن بالنسبة للفترة الحالية إذ يتراوح عدد «الفلاحين» ما بين 60 و 70 الذين يأتون بحليب أبقارهم، وهو الرقم الذي يعتبر منخفضا في مقارنة مع ما عرفته مثل هذه الفترة من السنة الفارطة.
حديث مصطفى، كشف أن هذا التراجع يعود لمجموعة من الإكراهات، على رأسها الجفاف وقلّة الماء، وما يرتبط بهما من كلأ، مشيرا إلى أن الخسائر التي تكبّدها عدد من الفلاحين الصغار جعلتهم يعزفون عن الاستمرار في هذا «النشاط» الذي يعتبر بالنسبة للكثيرين غير مربح، خاصة بالنسبة لمن ليست لديهم إمكانيات كبرى وأنشطة فلاحية أخرى موازية تساهم في خلق التوازن على مستوى الدخل، بحيث أن البعض منهم إما يبيع الأبقار الحلوب التي يتوفر عليها، وإما يفقد الكثير منها بسبب عدم العناية والاهتمام، وهو ما يفرض القيام بمجموعة من التضحيات لكي لا يتوقف «نهر الحليب» عن الجريان.
العلف .. «الذهب الأصفر»
هذه الصعوبات التي أشار مصطفى إلى بعض ملامحها، جعلت ابنه عبد الحق يتدخل، الذي هو نائبه في التعاونية، لكنه اختار في هذه المرة أن يتحدث على لسان الفلاحين الذين هو أحدهم، ليعدّد بعض الإكراهات المتعلّقة بتربية الأبقار الحلوب، مبرزا أن كميات الحليب التي يتم إنتاجها هي مرتبطة بعدد رؤوس الأبقار، إذ يكون الحليب متوفرا بكثرة إذا كان عددها مرتفعا، أخذا بعين الاعتبار أن بعض الفلاحين حتى وإن توفروا على عدد لا بأس به، فإن منتوج الحليب لا يكون بالحجم المنتظر، وذلك بسبب قلة العلف الذي يمنحها إياه وطبيعته، مؤكدا على أنه بات يُنعت بـ «الذهب الأصفر» نظرا لارتفاع سعره ولندرته.
وأوضح عبد الحق أن العلف المركب الخاص بالحليب، كان يباع بـ 3 دراهم للكيلوغرام قبل أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، وبعدها ارتفع ليصل إلى غاية 5 دراهم، أما حاليا فهو يتراوح ما بين أربعة وأربعة دراهم و 20 سنتيما عند الشركات التي تقوم ببيعه، في حين أن الفلاح يقتنيه بسعر يقدّر بما بين 4.30 وأربعة دراهم ونصف الدرهم. وأكد المتحدث أن ارتفاع أسعار المواد الأولية التي تدخل في إطار تصنيع العلف المركب هي التي أدت إلى الغلاء، مما جعله لم يعد في متناول الجميع، مشيرا إلى أن الأمر يتعلّق بمكونات مستوردة تتوزع ما بين الزرع، الذرة، الكوك صوجا، الصوجا.
ونبّه المتحدث إلى أن بقرة حلوب ومن أجل إنتاج ما بين 28 و 30 لترا من الحليب في اليوم، يجب أن تتناول حوالي 10 كيلوغرامات من العلف المركب، و 400 غرام من الصوجا، و 3 كيلوغرامات من التبن، إلى جانب سيلاج الذرة أو ما يسميه الفلاحة بـ «لانسيلاج»، ويتعلق الأمر بالذرة العلفية المطحونة التي لها دور مهم في إنتاج الحليب،لأنها تحتوي على نسبة عالية من الألياف والبروتين والمعادن الأساسية، وتتميز بقيمتها الغذائية الممتازة، مما يجعلها تساعد على زيادة الإنتاجية وتحسين جودة اللحم والحليب، حيث تتناول البقرة معدل 25 كيلوغراما في اليوم، وبالتالي فأمام وضعية الجفاف التي عاشتها بلادنا خلال السنوات الأخيرة، فإنها لم تعد متوفرة بالشكل الذي كانت عليه، وبات سعرها يصل إلى ما بين 1.25 و 1.50 للكيلوغرام، دون الحديث عن سؤال الجودة. وشدد عبد الحق على أن في المنطقة التي ينتمي إليها كانت هذه «الذرة» متوفرة بكميات كبيرة خلافا لما هو عليه الحال اليوم، مبرزا بأن ما هو متواجد حاليا يتم جلبه من الغرب.
كلفة ومردودية
استرسل عبد الحق، في ردّه على أسئلة «الاتحاد الاشتراكي»، موضّحا كيف أن البقرة التي تتوفر لها كل المقومات الضرورية المتعلقة بجودة التغذية والمكان والمتابعة، يمكن لها أن توفر كميات مهمة من الحليب، حسب سلالة كل واحدة، مشيرا إلى أن هناك من يمكنها أن تعطي ما بين 45 و 50 لترا في اليوم الواحد، أما إذا غابت هذه الشروط فإن مردوديتها تتراجع يوما عن يوم «حتى كيمشي ليها الضرع والرجلين ويمكن أن تفارق الحياة»، حسب تعبيره، مضيفا بالقول «هناك أمثلة كثيرة عشناها في علاقة بفلاحين كانت لديهم أبقار لكن كلفة التكفل بها التي كانت مرهقة دفعت أصحابها إلى تركها تسيح في الأرض لكنهم ظلوا بالموازاة مع ذلك يقومون بحلبها، علما بأن البقرة الحلوب تتطلب توفير تغذية حقيقية لها، إلى أن فقدوا عددا منها والبعض المتبقي تم بيعه بأثمنة ضئيلة جدا».
وأبرز الشاب، الذي يصرّ على التشبث بتربة أرض والده وأجداده، التي رأى فيها النور، رغم كل الصعوبات والتحديات، وفقا لما جاء على لسانه، أن الحديث عن المردودية هو مقترن بالضرورة بكلفة التغذية، مشيرا إلى أن الكميات الكبيرة التي تحدث عنها، والتي يعتبر توفيرها للأبقار الحلوب أمرا ضروريا من أجل إنتاج بجودة، لها كلفة جد مهمة توفيرها ليس في متناول الجميع، مستدلاّ على ذلك بسعر العلف المركب الذي وكما أشار فقد وصل إلى 4.20 درهما للكيلوغرام، أما التبن فقد ارتفع إلى مستويات قياسية بحيث أن سعر «البالة» وصل إلى 60 درهما أي بمعدل 5 دراهم للكيلوغرام الواحد، في حين يبلغ ثمن الصوجا سبعة دراهم ونصف، بالإضافة إلى «لانسيلاج» الذي يباع ما بين 1.40 أو 1.50 درهما، فضلا عن أجر العامل المكلف بالاهتمام بالأبقار ورعايتها والاعتناء بها ومراقبتها، الذي يصل إلى حوالي 400 درهم للأسبوع.
كوفيد والمقاطعة
الصعوبات المادية، التي وردت بتفصيل على لسان عبد الحق، جعلت والده يتوقف بدوره عند معيقات أخرى أكد بأنها كانت سببا فيما وصلت إليه الأوضاع اليوم، مشيرا إلى أن هناك عوامل مركّبة ومتّصلة فيما بعضها رفعت من مستوى التحديات، إلى جانب الجفاف وندرة المياه، ويتعلّق الأمر بفترة الجائحة الوبائية لفيروس كوفيد 19، وبـ «حملة المقاطعة»، وهما حدثان شدد مصطفى على أنهما قصما ظهر الفلاح الصغير، وجعلا إنتاج الحليب يتراجع، بسبب تخلّي الكثيرين عن هذا النشاط، الذي كان بالنسبة للبعض وسيلة أساسية للعيش.
وأوضح رئيس تعاونية «أولاد جدات» أن المحطة الأولى والثانية، جعلتا الإقبال على الحليب من طرف الشركة التي تقوم باقتنائه يتراجع، لأن الطلب على هذه المادة انخفض، وهو الوضع الذي شكّل صدمة للكثيرين، مستدّلا على ذلك بحالة سيدة مسنة كانت تجلب كل يوم 5 لترات من الحليب، تُعتبر هي سندها في العيش، وبمقابلها تقتني ما تحتاجه من أساسيات للعيش من سكر وشاي وغيرهما، ويتذكّر كيف أنها فوجئت بهذا الواقع فجلست أرضا بعد أن خلعت منديلها من على رأسها وشرعت «تخاطب السماء» وهي تعبّر عن حسرتها وألمها لما سيحلّ بها، فما كان منه إلا أن اقتناه منها وحافظ على هذه الخطوة تضامنا منه، رغم أن «سقى» الأرض العراء المقابلة له بأطنان من لترات الحليب الذي تم هدره بسبب هذا الوضع، غير ما مرّة، بعد أن تم الإعراض عنه، رغم أنه بيع خلال تلك الفترة وفي عدد من المرات بسعر 90 سنتيما ودرهم للتر الواحد؟
منظومة متضامنة
أبرز مصطفى أن توفر الحليب إلى غاية اليوم يعود الفضل فيه لعدد من العوامل والمجهودات، الأولى ترتبط بالمخزون المتبقي من الزرع والتبن، والثانية التي تعتبر أساسية وهي التي تتعلق بإجراءات الدعم التي توفّرها الوزارة الوصية على القطاع ومن خلالها الحكومة، سواء في ارتباط باستيراد الأبقار الحلوب، أو عند ولادة العجول، أو على مستوى العلف المركّب. وأوضح المتحدث أن العلف المدعّم يباع بدرهمين ونصف للكيلوغرام الواحد، وتقوم الوزارة بتسليمه لشركات إنتاج الحليب الكبرى، التي تقوم بدورها بتوزيعه على التعاونيات التي تتعامل معها، حسب حجم لترات الحليب التي تقوم بدفعها للشركة، التي على أساسها يتم تحديد كميات العلف المطلوب، والذي يتم توزيعه على امتداد أربعة أشهر في السنة، يتم تحديدها بناء على الوضعية المناخية وتراجع وفرة الكلأ.
أكد مصطفى على أن الحصول على العلف المدعم، الذي يساهم في التخفيف من حدّة الأزمة، تعترضه بعض الإكراهات التي من المفيد الانتباه إليها وإيجاد حلول لها من أجل تذويب كل المعيقات التي قد تعترض سبيل الاستفادة منه، ومنها أنه يتعيّن على رئيس التعاونية من أجل التوصل بالحصة التي سيوزعها بدوره على الفلاحين المتعاملين معه، تسديد ثمنها خلال مدة 24 ساعة، ضمانا للاحتفاظ بها، وهو ما يشكّل عائقا أمام عدد من التعاونيات الصغيرة، لأن السيولة المالية المتحدث عنها لا تكون بالضرورة متوفرة في كل وقت، وبالتالي من المفيد التفكير في خطوات لتسهيل هذه العملية، علما بأنه حتى حين يتم شراء العلف وجلبه إلى التعاونية فإن عملية توزيعه لا تكون دائما مرهونة بمقابل مادي يؤديه الفلاحون في الحال، نظرا لأوضاعهم المادية والاجتماعية الصعبة، وهو ما يعتبر إكراها بالنسبة لهذا النوع من التعاونيات، التي عليها أن تقوم في مثل هذه الحالة وفي حالات أخرى بدور اجتماعي، الذي يسمو على كل الاعتبارات الأخرى.
وشدّد مصطفى على أن التعاونية وفي ظل هذه الأوضاع، تساهم من موقعها إلى جانب مكونات الدولة، في توفير الأبقار الحلوب والعلف المركب للفلاحين مع تسهيلات في الأداء، التي قد تكتمل أشطرها وقد تليها خسارات، من أجل ألا يتوقف إنتاج الحليب ولكي تستمر عجلة الإنتاج في الدوران، التي لا تضمن فقط الحصول على هذه المادة فحسب أو اللحوم الحمراء فقط، وإنما الغاية منها كذلك توفير سبل العيش الكريم في القرية، وتعزيز ترسيخ العلاقة الفلاحين والأرض حتى لا يهجرونها.
إكراهات وتحديات
نبّه مصطفى إلى أن توفير الحليب، من أجل استعمالاته المتعددة في منتجات مختلفة لكي تصل إلى المستهلكين، يتطلب بذل المزيد من الجهود، لأن الوضع الحالي يبين على أن الأفق لن يكون مريحا، وبأن هذه الوتيرة ستكون محكومة بالتراجع في سقف زمني أقصاه شهر يونيو، مبرزا أن الوضع ما قبل 2020 ليس كما بعدها، وكيف أن إنتاج الحليب يصل إلى ذروته ما بين دجنبر وشهر فبراير، وهي الفترة التي تلد فيها أغلب الأبقار، التي تتميز بالبرد وتوفر الكلأ مقارنة بالصيف، مؤكدا في هذا الإطار أن المساعدة المتوفرة من خلال العلف المدعم تعتبر جد مهمة، ومكنت من تجاوز العديد من المشاكل، لكن الفلاح في حاجة لما هو أكبر، لأن الكميات التي يحصل عليها لن تسدّ رمق أبقاره طيلة السنة وستستهلكها في زمن وجيز، مشددا على ضرورة التفكير في دعم دائم، منتظم ومباشر.
وأبرز احمادات أن الفلاح يبيع اليوم اللتر الواحد من الحليب للتعاونية بـ 4.50 درهما، الذي تقتنيه الشركة منها بـ 4.65 درهما، وهو وضع يطرح صعوبات عديدة على الفلاحين والتعاونيات، هذه الأخيرة التي من تلك النسبة البسيطة يجب أن تحتسب مصاريف مختلفة لكي تبقى هي أيضا مستمرة، في حين أن كلفة الحليب بالنسبة للفلاح قد تصل إلى 5 دراهم وبالتالي فهو يبيعه بالخسارة، وهو ما يجعل الفلاحين يطالبون بأن تكون هناك زيادة في سعر الحليب الذي يبيعونه للتعاونيات ليصل إلى ما بين 5 و 6 دراهم، مما سيشجعهم على الإبقاء على هذا النشاط وعدم إقباره.
وشدد مصطفى على أن عدد الفلاحين المتعاملين مع التعاونية يتراجع يوما عن يوم بسبب الخسارة التي أضحت واقعا، جراء ارتفاع أسعار الأعلاف، لأن كل الحسابات لم تصل بهم إلى النتيجة التي كانوا يتوخونها، موضحا كيف أن هناك من تعامل مع التعاونية لأربعة أو خمسة أشهر ثم تخلى عن هذا الأمر، وهناك من حاول التحلي بالصبر ومواجهة الصعوبات، لكن قدرته على ذلك لم تتجاوز السنة، بينما تواصل فئة أخرى الاستمرار حريصة على عدم التفريط في «رأسمال» برمزيته البدوية. وأكد المتحدث على أن هذا الوضع أرخى بظلاله على إنتاج الحليب فهناك تعاونيات تراجع معدل الحليب الذي كانت تسلمه للشركة في اليوم الواحد من 8 إلى أربعة أطنان، والوضع مرشح لمزيد من التراجع، وباتت معرّضة لخطر التوقف في أي لحظة بسبب تراجع عدد رؤوس الأبقار في منطقة الشاوية.
اختبارات وتجميع
صادف تواجدنا في ضيافة تعاونية أولاد جدات، وصول شاحنة صهريجية تابعة للشركة المتعاقد معها، التي تقوم بإنتاج وتوزيع الحليب، حيث قام مستخدمها بربطها بالأوعية التي تم بها تجهيز «المركز»، وبعد ذلك شرع في أخذ عينات من الحليب الذي تم تجميعه لإجراء اختبارات عليه للتأكد من جودته، تفاديا لإمكانية أن تكون به مضادات حيوية أو تم خلطه بالماء أو أن تكون قد شابته شائبة، وذلك حفاظا على سلامة وصحة المستهلك، وهي العملية التي يتم القيام بها وتتكرر على أكثر من مستوى، حين تتسلم التعاونية الحليب من الفلاحين، وبعد قدوم الشحنات الصهريجية، ونفس الأمر حين نقلها له إلى مقرات الشركة، حيث يتم التعامل مع هذه «السلسة» بكثير من الحزم والصرامة.
عملية استمرت لمدة معيّنة قبل أن تعطي النتائج الضوء الأخضر لنقل الحليب إلى داخل الصهريج، ليتم توجيهه بعد ذلك صوب معامل الشركة وهناك يمر بعدة مراحل، إلى أن توضع بعد ذلك منتجاته المختلفة على الرفوف، ومنها إلى موائد الأسر المغربية في كل منطقة من تراب المملكة، لكي تستمر عملية الإنتاج وسلسلة التوزيع التي هي عنوان على أمن غذائي مستمر، تتكتل كل الجهود لضمانه والحفاظ على استمراريته.