الحيّ المحمدي… حين يكتب المكانُ ذاته

قراءة في كتاب حسن نرايس «الحيّ المحمدي: وجوه وأمكنة.. محكيات وبورتريهات»

 

لا يقدّم الكاتب المغربي حسن نرايس في كتابه «الحيّ المحمدي: وجوه وأمكنة.. محكيات وبورتريهات» مجرد رحلة في فضاء بيضاوي شديد الخصوصية؛ بل يقدّم مشروعًا متكاملًا لإعادة بناء الذاكرة المغربية من داخل أحد أكثر أمكنة الدار البيضاء حميمية وتكثيفًا للطبقات الاجتماعية والثقافية.
على امتداد 238 صفحة، يكتب نرايس نصًّا لا يشبه كتب المكان التقليدية، لأنه يتجاوز السرد والتوثيق إلى طرح سؤال عميق: كيف يصنع المكان الإنسان؟ وكيف يعيد الإنسان كتابة المكان كي لا يندثر؟
من الأخصاص إلى الحيّ المحمدي… جذور الرحلة، فقبل الدخول في أزقة الحي المحمدي، يبدأ نرايس من نقطة لا يمكن تجاهلها: منطقة الأخصاص (جنوب المغرب)، أرض الوالدين، الذاكرة الأولى، والمكان الذي يصفه الكاتب قائلا: «منطقة طالها النسيان الجغرافي والتاريخي».
يهدي الكاتب كتابه إلى والده مبارك نرايس «الأخصاصي: ووالدته فاطمة بنجدي «الأخصاصية»، في اعتراف مبكر بأن الذاكرة العائلية هي البذرة الأولى للكتابة.
الأخصاص ليست مجرد خلفية، بل الجرح المؤسِّس:
مكان يفيض بالغياب، ويشكّل لدى الكاتب حساسية خاصة تجاه ما يضيع، وما يجب إنقاذه عبر السرد.
حين ينتقل الأب إلى الحي المحمدي، يبدأ الطفل في اكتشاف عالم متناقض: صخب، فقر، جمال، عنف، وسحر لا مثيل له.
من هنا تتشكل ثنائية المكانين التي يتأسس عليها الكتاب:الهامش المنسي (الأخصاص) والهامش الحيوي (الحي المحمدي)، وما بينهما رحلات الوعي الأولى.
يكتب نرايس الحي المحمدي كما لو كان كائنًا حيًا: يتنفس، يشيخ، ينهض، يمرض، ويُعيد اختراع نفسه.لا يتعامل معه كحيّ، بل كهوية كاملة لها قوانينها غير المكتوبة، ولها ذاكرة جماعية لا تستقر في مكان.
الأزقة التي «تعلّمك كيف تمشي»،
البيوت التي تصنع العلاقات قبل الجدران،
المقاهي التي تتحول إلى مدارس غير رسمية لوعي الطبقة الشعبية.
هذه التفاصيل ليست زينة لغوية، بل مفاتيح قراءة: فالحي هنا ليس ضواحي مدينة، بل مختبرا اجتماعيا وثقافيا صاغ صورة المغرب الحديث بقدر ما صنعته المراكز الرسمية.
يركّز الكتاب على أمكنة محددة ليست مجرد نقاط على الخريطة، بل محطات تكوّن الوعي:درب مولاي الشريف: بدايات الدهشة، أولى المغامرات، المدرسة والشهادة الابتدائية، مكتبة «اليزيد» التي فتحت باب القراءة. سينما شريف: حيث يتعلم الطفل معنى الصورة، وتتشكل علاقة أولى بينه وبين الفن. سينما السعادة: الخطوات الأولى نحو عشق السينما، ذلك الظلام الذي يولّد الضوء. تيران الطاس وتيران الحفرة: ملاعب الطفولة وطقوس الصداقة والجرأة. هذه الأمكنة وغيرها، في يد نرايس، تتحول إلى أساطير شخصية تبني معمار النص. إنها ليست مجرد أماكن، بل شخصيات أسهمت في صناعة الكاتب والراوي نفسه.
يخصّص نرايس جزءًا كبيرًا من الكتاب للبورتريهات، ليس باعتبارها سيرًا، بل باعتبارها مرافئ إنسانية للحي.
يستعيد شخصيات صنعت ذاكرة المكان، ومنها: العربي الزاولي، الحاج العبيدي الزياني، محمد تيسلى، محمد سؤال، حسن حبيبي، محمد مفتكر، حميد الزوغي، محمد مفتاح، سميرة الزاولي، أول رئيسة فريق لكرة القدم بالمغرب، رموز «ناس الغيوان» الذين صاغوا وجدان الحي والمغرب بأسره. هذه الوجوه ليست شخوصًا عابرة؛ إنها أعمدة سردية تمنح الحي صوته وروحه.
فالمكان بلا وجوه يتحول إلى مساحة صامتة، لكن الوجوه تُعيد إليه نبضه.
شخصيات معروفة وأخرى مجهولة، يذكرها الكاتب ويمنحها جميعا القيمة نفسها، المثير في بناء هذه البورتريهات هو أن نرايس لا يكتبها ببرود المؤرخ، بل بلمسات الرسام الذي يعرف قيمة الظلال الصغيرة وتفاصيل الحركة ونبرة الصوت. كل بورتريه محاولة لاستعادة حضور شخصيات قد تذوب في زحام المدينة الحديثة لو لم يمسك بها الكاتب ويعيد منحها لحظة خلود.
في مقدمة كتبها الناقد والباحث المغربي بوجمعة أشفري في مستهل الكتاب، استعان بفكرة لافتة: «الحكاية كتابة غير مرئية». هذه «الكتابة غير المرئية» تتجلى في طريقة نرايس عندما يفتتح كل فصل بمقاطع مقتبسة من كتّاب وفلاسفة عالميين: تشيخوف، جبران، شكسبير، محمود درويش، آل باتشينو، فيكتور هوغو، تولستوي، جبرا إبراهيم جبرا، نجيب محفوظ و.. غيرهم… هذه الاقتباسات ليست ترفًا ثقافيًا، بل فضاء حواريا بين الحي المحمدي والعالم. كأن الكاتب يقول إن هذا الحي الشعبي قادر على أن يقف في صف واحد مع الأدب العالمي… وأن يضيء معناه المحلي عبر مرآة عالمية.
يكشف نرايس عن حقيقة لافتة: أن الإبداع المغربي، في كثير من تموجاته، خرج من الهامش لا من المركز، فالحي المحمدي كان حاضنة للموسيقى الروحية والاحتجاجية، للمسرح الشعبي، للرياضة، للحكايات الشفوية، لأجيال من الفنانين الذين صنعوا هوية المدينة.. هنا يصبح الكتاب تاريخًا موازيًا للمغرب، تاريخًا غير رسمي، كتبه الناس العاديون، واحتضنته الأزقة والبيوت الضيقة.
يمزج نرايس بين لغة شعرية ووعي سوسيولوجي، بين بناء بصري مستمد من علاقته بالسينما وشغف توثيقي يحفظ التفاصيل الصغيرة، هذا ما يجعل النص متعدد الطبقات، يمكن أن يُقرأ كسيرة، كبحث اجتماعي، كدراسة ثقافية، أو كعمل فني مكتوب بعين رسّام.
عند سؤال الحداثة… هل تغيّر المكان أم تغيّر وعيه؟ يتوقف نرايس طويلاً أمام تحولات الحي: العمارات الجديدة، الهجرة الداخلية، تبدل الملامح…لكن الكتاب لا يقع في فخ النوستالجيا، بل يطرح سؤالًا أكثر دهاءً:هل اختفى الحيّ فعلًا، أم اختفت اللغة التي كانت قادرة على رؤيته.. الجواب يأتي من الكتاب نفسه:
الكتابة هي مقاومة الزوال. ما دام النص قائمًا، فالمكان لا يموت.
من هنا يبدو الكتاب ليس مجرد سرد عن حيّ عريق في الدار البيضاء، إنه يقدّم مختبرًا للذاكرة المغربية، مسرحًا صغيرًا تتحرك عليه تحولات التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي. فالكتاب لا يُقرأ كتابًا عن مكان فحسب، بل بوصفه إعادة بناء لهوية كاملة عبر الوجوه، الشوارع، النبرات، الأصوات التي شكّلت حياة أجيال من أبناء الحي.
نعم. المكان يفرض نفسه، لكن من دون تزيين، يبدو كأن الحي، بفوضاه ودهشته وقسوته وحنانه، يتولى مهمة السرد بدل الكاتب، كما أن نرايس الذي يحكي عن الحي من خلال طفولته وصباه، لم يتعامل بجمود مع المكان بوصفه خلفية، بل بوصفه كائنًا حيا لم يعد موجودًا بالملامح نفسها اليوم. مع ذلك لم ينزلق الكاتب إلى الرثاء السهل، بل سعى إلى فهم طبيعة التحولات، وإلى مساءلة علاقة الإنسان بالمكان حين تتغير معالمه وتتبدل وظائفه.
في الحي المحمدي، كما يصفه نرايس، تتجاور الطبقات الاجتماعية، وتتقاطع الرغبات، وتتصادم الأحلام، لكن المكان يبقى هو القادر على تحويل التناقضات إلى رواية مشتركة.
من ناحية موازية، يعتمد نرايس أسلوبًا لغويًا يميل إلى الشعر دون أن يغادر التحليل، ويستخدم بنية فصلية محكمة تعتمد على عناوين بسيطة لكنها مشحونة بالدلالات، كما أن كتاب نرايس ينتمي إلى تقليد مغربي راسخ في كتابة المكان، وهو تقليد ساهم فيه كتّاب كبار مثل محمد شكري، محمد زفزاف، عبد الكبير الخطيبي، إدريس الخوري، الطاهر بنجلون.
هذا التقليد يقوم على ثلاث أفكار جوهرية:
أولها: أنسنة الفضاء الحضري وتحويل المدينة إلى شخصية روائية.
ثانيها: تحرير الهامش من صمته عبر منحه حق الكلام والكتابة.
ثالثا: تماهي الذات مع المكان بحيث يصبح السرد جزءًا من بناء الهوية.
إنه كتاب يكشف، بعمق، أن المكان لا يُكتب ليُحفظ… بل يُكتب لأن الإنسان نفسه لا يكتمل إلا بذاكرته.


الكاتب : ناهد صلاح

  

بتاريخ : 10/12/2025