في لحظة تشظٍّ وجوديّ، وارتباكٍ سياسيّ واجتماعيّ، تطلّ علينا مجموعة محمد سعد العلمي القصصية «الحُلم في بطن الحوت» كإضاءة سرديّة على ملامح الإنسان العربي المعاصر، وهو يتخبّط بين الحلم والانكسار، بين الرغبة في النجاة والمراوحة في القاع. وإذا كانت النصوص القصصية قد قُرئت تقليديًا من داخل بنيتها السردية والموضوعية، فإنّ مداخل قراءتنا اليوم ستتموضع على تخوم ما قبل النص: أي في العتبات، وتحديدًا عناوين القصص، باعتبارها نصوصًا مصغّرة وعتبات دلالية تؤسس لفعل القراءة، بل وتُمارس دورًا تأويليًا وإيحائيًا مفتوحًا.
من هنا، تنطلق هذه المداخلة من فرضية مركزية مفادها أن العناوين في هذه المجموعة لا تُلخّص النصوص بل تُفخّخها بالدلالات، وتحمل في بنيتها القصيرة المكثّفة طبقات من الرمزية والتمويه والتناصّ، وتؤدي أدوارًا متعددة بين الإغراء، والتفكيك، والتأويل. ولتحليل هذه العتبات، سنُزاوج بين أدوات السيميائيات النصية والقراءة التأويلية، منفتحين على خلفيات ثقافية ودينية وفلسفية استدعتها هذه العناوين إما بوعي القصد أو بتمثّل اللاوعي الثقافي.
وسنقسّم مداخلتنا إلى ثلاث وحدات تحليلية:
• أولاها تنطلق من العتبة الكبرى: «الحُلم في بطن الحوت» بما هي عنوان المجموعة وتكثيف رمزي شامل؛
• والثانية نُخصّصها لتحليل عناوين القسم الأول المعنون بـ «قصص قصيرة»، وما تحمله من تحولات دلالية وسردية؛
• ثم نختم بتحليل عناوين القسم الثاني «قصص قصيرة جدا»، حيث تتكاثف الرمزية وتختزل التجربة في ومضة.
في ختام هذه الرحلة التأويلية، سنعيد مساءلة الوظيفة النصية للعناوين: هل تُقدّم نفسها كمفاتيح للقراءة، أم كمصائد تأويلية تُربك التلقي وتُضخّم أفق الانتظار؟ وهل يمكننا الحديث عن عناوين مقاومة، تُجسّد فعل الكتابة بوصفه فعلاً نقديًّا واستباقيًّا في وجه السلطة والعطب والخراب؟
لقد حاولنا في هذه المداخلة أن نستكشف مجموعة «الحُلم في بطن الحوت» لمحمد سعد العلمي انطلاقًا من عتباتها النصية، وبخاصة العناوين، لا بوصفها عناصر ثانوية، بل كفضاءات مكثفة تُنتج المعنى وتؤطّر فعل القراءة. فمن العنوان المركزي الذي يحمل تقاطعات دينية ووجودية (الحُلم في بطن الحوت)، إلى العناوين المفردة المختزِلة في القصص القصيرة جدًا (جهالة، وشاية، أمومة، انتحار، وعي…)، تتكشّف أمامنا بنية سردية تعمل على حافة الانفجار، تُعلي من شأن الرمزية، وتستنطق المسكوت عنه في واقع مختنق.
العناوين هنا لا تُقدّم مفاتيح جاهزة للقراءة، بل تمارس فعل التشويش الواعي على التلقي، وتُساهم في بناء خطاب نقدي، إنساني، وساخر، يتقاطع مع قضايا كبرى مثل: الهوية، القهر، النفي، الصمت، السلطة، الهشاشة، الوعي. وبهذا المعنى، فإنّ كل عنوان هو بمثابة نص مضمر، أو كبسولة سردية، تضع القارئ أمام لحظة اشتباك تأويلي لا تخلو من الألم والقلق والدهشة.
وقد برزت في هذه التجربة سمات أسلوبية ودلالية أبرزها:
• تفضيل التكثيف والإيجاز على التفسير والسرد الممتد.
• اعتماد مفردات مشحونة بالرمزية والانفعال.
• توظيف المفارقة والسخرية الناعمة.
• تكوين وحدة مزاجية رغم تعدّد الموضوعات والشخصيات.
وبناء على ما سبق، يمكننا أن نعتبر العناوين في هذه المجموعة ليست فقط عتبات للنصوص، بل مشروعات سردية مصغّرة، وأفعال لغوية مقاومة، تؤسّس لكتابة حداثية تُعيد النظر في وظيفة اللغة، في علاقتها بالواقع والممكن والمرغوب.
إنّ «الحُلم في بطن الحوت» ليست مجرد صورة بلاغية، بل بيانا وجوديا وسرديا مضمرا، يُعلن أن الحلم في زمننا ليس نزهة في فضاء مفتوح، بل مقاومة خافتة داخل أحشاء القيد، حيث لا منفى أكثر قسوة من اللغة، ولا خلاص أكثر هشاشة من القصّ.