لم تعد القصة القصيرة، باعتبارها جنسا نثريا حديثا له خصائصه ومقوماته، تحتاج إلى مروجين ووسطاءَ، بل فرضت نفسها. فهي التقاط للحظة من لحظات الوجود الإنساني في زمان ومكان محددين، عن طريق التكثيف والتضمين.
وفي هذا السياق، نشير إلى أننا سنحاول تلافي الجانب النظري في هذه القراءة، فضلا عن كوننا لن نتبنى منهجا نقديا خالصا، وإنما سنسعى إلى رصد الخصائص الفنية في المجموعة القصصية المعنونة ب «كالعنقاء أنهض من رماد»، للقاصة ربيعة العربي، والصادرة سنة 2016، والمكونة من ثلاثين قصة تتراوح بين حجم صغير وكبير، وردت في مائة وثلاث عشْرة صفحةً من القطع المتوسط.
قراءة
في العنوان:
هكذا، سنقف عند عتبة العنوان باعتباره تعريضا للقصص، ويشكل بنية دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات القصص. فكلمة “العنقاء” المتضمنة في بنية العنوان، قمينةٌ بشرح ما تبقى منه؛ والعنقاء طائر أسطوري يحترق ثم يُبعثُ من رماده، دليلا على الاستمرارية والبعث والتجدد في الحياة، وكذا الإصرار والعزيمة على تكرار الفعل نفسه.
فحضور طائر العنقاء في المجموعة، يمثل تصويرا لحال الذات الإنسانية في الوجود؛ لأنها تحترق وتتمزق وسط المعاناة، فتصير رمادا، وركاما، إلا أنها تتجلى وتنبثق وسط هذا الركام، والذي يتمظهر في حروف اللغة. فالكتابة تُلملم شظايا الإنسان في حكايات متجددة، وفي جدلية بين الحياة والموت، ومن ثم تحضر باعتبارها باعثا لحياة إنسانية جديدة أكثر إصرارا وإقبالا على التحدي إلى ما لا نهاية، في احتراق جديد، تعقبه ولادة جديدة، فحكاية متجددة.
تيمات المجموعة:
تحتوي المجموعة على جملة تيمات تزخر بها حياة الإنسان وجدليته مع واقعه المعيش، من قبيل: البطالة، الفقر، التشرد، التسول، المعاناة، الموت، الحنين، الطفولة، الأم، الوطن، الحب، المرض، الخيانة، الرحيل… وكلها تصور لنا جوانب الذات الإنسانية الممزقة، إما بفعل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية (الفقر، البطالة، التشرد، التسول…)، وإما بفعل الحنين (الطفولة، الأحلام، الشباب، الأم، الأب…) أو مشاكل اجتماعية أسرية (الخيانة الزوجية، الرحيل…)، أو بحضور الموت باعتباره زمنا نهائيا للوجود الإنساني، وحتميةً تحسم الموقف.
الشخوص:
الشخصية في المجموعة نوعان: النوع الأول ليس له دور كبير في تحريك أحداث القصص، وإنما يكون حضوره استجابة لمنطق السرد، في حين أن النوع الثاني، يضم شخصياتٍ تتلاءم والمكان الذي جرت فيه الأحداث؛ فالقرية مثلا، تستدعي أسماء من قبيل: عبد الكريم، عبد الرحمان، عبد القادر، بوشعيب، للا طامو… ما يكشف لنا عن دقة الكاتبة في اصطفاء شخوصها، وذلك استجابة لخصوصية المكان والزمان اللذين جرتْ فيهما أحداث القصة، كما أن لهذه الأسماء دلالاتٍ كبيرةً لدى أناس القرى والبوادي، ذات بعد رمزي، وديني، وثقافي.
التبئير (focalisation):
في هذا الصدد، نجد أن هنالك حضورا بارزا للتبئير الداخلي في القصص؛ لأن الساردة/ السارد ترى الأحداث وتسردها من زاويتها الخاصة، ومن ثم، تكون الساردة ملمةً بحالات وتحولات الفواعل في سرد القصة. فالساردة هي المبئر الناقل للأحداث كما رآها، وبهذا نميز بين تبئير داخلي ثابت، وهو المهيمن في المجموعة، وتبئير داخلي متغير حيث تنوب إحدى شخصيات القصة عن الساردة؛ كشخصية “عمر” التي نابت عن الساردة في تبئير شخصية “أحمد” وما رافقها من أحداث في قصة “بدأ الخطو”.
مسار الأحداث:
يتم مسار الأحداث وفق النظام الطبيعي، ومنطق السرد، المتعارف عليهما في بناء القصة القصيرة سرديا وخطابيا، وهو نظام العلة والمعلول، أو السبب والنتيجة اللذين يتبادلان المواقع حتى نهاية القصة.
الزمن
في المجموعة:
يمثل تحديد الزمان تحديا كبيرا للقارئ؛ لأن ثمة تضمينا وإخفاء لهذا العنصر بين منطق الأحداث وسياقاتها، فضلا عن صعوبة وضع الإصبع على زمن القصة، أي الزمن الدياكروني، كما وقعت في الماضي، وزمن السرد أو الخطاب، أي الزمن السنكروني، ونجمل القول في:
إن الزمن في المجموعة يخضع لسيرورة وصيرورة بناء الحدث في القصة، وهنا جدلية الأزمنة وتنوعها في المجموعة؛ فهناك زمن فيزيائي (الصباح، المساء، الليل، النهار، الفجر، موسم الحصاد، الصيف، الماضي…) يستنتج من منطق السرد؛ لأن هذا الأخير قد يبدأ من خلال حدث التذكر (الماضي)، أو يقفز إلى معاينة الواقع وتحليله (الحاضر)، أو يلجأ إلى التكهن والتنبؤ (المستقبل)، والشيء نفسه ينسحب على الزمن الوجودي (الولادة، النشأة، الموت…)، والنفسي (الانتظار، الخوف، التيه، الحيرة، الشوق، الحنين، الحزن، الألم، الوجع…)، والتاريخي (التضحية بالذات، الثورة، النصر…)، ومن ثم نقول إن الزمن، في المجموعة، يدخل في البناء الفني للقصص، وفي جدلية مستمرة معها بين التواري والظهور.
الفضاء:
تضم المجموعةُ جملةً من الأمكنة التي تتعدد بتعدد القصص، وأفعال الشخصيات، ما يجعل هذه الأمكنة تشكل فضاءين مختلفين متجادلين؛ لأن لكل منهما قيمَهُ وأبعادُه ودلالاته. أما الفضاء الأول فهو القرية حيث يضم: الجبل، الوادي، الحقول، الزريبة، السرداب… ما يطلعنا على أبعادٍ قيميةٍ (التعاون، القناعة، التهميش، الطفولة، الصبا، الحنين…)، وأما الفضاء الثاني فهو المدينة، إذ يحتوي: المدرسة، الشوارع، الأزقة، الأحياء، الحديقة… وينقل لنا: الهوة بين الفقراء والأغنياء، البخل، التيه، تقهقر القيم، هيمنة المادي على الإنساني…، وبهذا يكون هذان النوعان من الفضاء محملين بقيم ورؤى، وناقلين للصراع بين قيم القرية وقيم المدينة، ومؤثرين في الشخوص نفسيا، ومتأثرين بهم.
الحوار:
يبرز في المجموعة مظاهر الصراع النفسي والاجتماعي بين الشخصيات، كما في قصة “لحم يستباح” ما أتاح للكاتبة تسريد أفكارها وتصوراتها على لسان الشخصيات.
– الوصف:
تم توظيفه لسبر أغوار الشخصية النفسية والاجتماعية، وهذا يدل على أن الكاتبة تعرف عن شخصياتها الكثير، ومن ثم تقديم صورة متكاملة، وتضم معرفة، في سرد متدرج ومؤسس على عنصر التشويق؛ إنه وصف دقيق، نمثل له، على سبيل المثال لا الحصر، بقصتين هما: “سيدة الهجر” و”امرأة من نار”.
على سبيل الختم:
يمكننا القول إن المجموعة تضمنت مختلف مقومات السرد القصصي، من حيث السرد والبناء الفني والتشكّل الدلاليّ، وتتمة لما رصدناه أعلاه، نورد ملاحظاتنا في:
– اعتماد الكاتبة لغة سردية تقترب من لغة الشعر الانزياحية، والمليئة بالرموز والإيحاءات،
– تعاملها مع عنصر الزمن من منظور منطق السرد الحديث: التذكر والاسترجاع، الحذف، الاستباق…
– حضور التناص (“حريق أينع” يستدعي: الثورة التونسية…)، والاقتباس من الشعر ( “سقط القناع”) ومن الغناء الشعبي ( “بدأ الخطو”)…
وتظل هذه القراءة محاولة قد لا تستوفي المجموعة حقها، وإنما قد تدفع قراءً آخرين إلى تصحيح ما تم رصده، أو الاستمرار في تسليط الضوء على الكثير من الرموز والدلالات، والتي تتطلب قراءاتٍ متعددةً، وتأويلاتٍ منطلقةً من ذخيرة معرفية ونقدية، ومن هنا ننوه بدقة الكاتبة، وحنكتها الفنية والسردية الكبيرة.