الخطاب القرآني بين السخرية والتقديس.. ما لم تقله الكاتبة سميرة مصلوحي

«السخرية في الخطاب القرآني» منجز جديد في الساحة الفكرية المغربية خاصة والعالم العربي عامة، يقدم للقارئ المهتم بالنص القرآني من جانب كونه خطاب مقاربة تداولية اشتغلت فيها الكاتبة سميرة مصلوحي على الجانب الحجاجي من داخل النص الديني. وقد انطلقت الكاتبة والباحثة سميرة مصلوحي من توصيف القرآن بأنه كتاب يخوض في المجال الديني، ووفق هذا المجال اختارت تصنيفه وتعيينه، معتبرة أن القرآن تأسيس لخطاب ديني بما يسمح بإمكانية دراسته وتحليله باستعمال المناهج والنظريات الحديثة بهدف إحراز ما يمكننا من تجديد الخطاب الديني، وجعل مضامينه تتساوق مع أبعاد ومقومات العصر والحياة في راهنيتها.
عتبة هذه الدراسة التحليلية للخطاب القرآني في نظر الكاتبة هي اللغة؛ حيث الكلمة لجام المعنى الذي يقبض به الإنسان على ناصية الوجود محولا طلاسمه وألغازه إلى رموز وعلامات يتم تشفيرها في قواميس لغوية قوامها ما أسمته الكاتبة بنوايا الذوات المتكلمة عبر سراديب عملية التواصل التي لا تكون متحققة إلا في حضرة متلقين موجودين فعليا، أو متلقين محتملين في ما يلي من الأيام.
تؤكد الكاتبة أن حضور المتلقي في الذات المتكلمة هو الذي يعطي للتلفظ بعده الحواري، لكنها سرعان ما تستفز طمأنينتنا المتجذرة في كون الكلام كان ولايزال بالنسبة لنا هووسيلة التواصل في ما بيننا، وفي ما بين الأنا والآخر من أجل النظر إلى ما يكونه وبغية معرفته، لتشد انتباهنا إلى أن الأمر ليس دائما كما تعارفنا عليه. فالكلام الذي ننشد من ورائه الظهور، يكون في الكثير من الأحيان هو ما به يتخفى الذي يتكلم؛ إذ تخبرنا سميرة مصلوحي بأننا قد « نتكلم فلا نكون مرئيين، بل إننا نتوارى خلف ما نتلفظ به.» وتشدد من جهة أخرى، على قوة هذه الوظيفة للغة حينما يكون المنطوق المتلفظ به متخما بما هو غير مرغوب فيه، أي ما هو غير صائب اجتماعيا – وفق منطلقات وضعية التواصل وزاوية نظر المنصتين – فتكون آلية نقده هي السخرية، خصوصا والأمر يستند في الثقافة الشفهية إلى اعتقاد الأفراد في مدى تحقق تأثير الكلمة الساخرة حينما تكشف العيوب، وتزيح عنها اللثام ثم تجسدها في صيغ السب والقذف والمساس بالعرض والشرف.
تحت ضوء هذه الصورة الذهنية لمفهوم السخرية في الثقافة الشفهية العفوية، تؤسس الكاتبة سميرة مصلوحي للبعد التساؤلي الذي عليه قامت بأشكلة موضوع أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه تحت عنوان «السخرية في الخطاب القرآني»، وذلك تحت عنوان آخر فرعي في الصيغة «مقاربة حجاجية تداولية» . ولأن التساؤل أو التساؤلات عندما تتم أشكلتها، تغدو هي جوهر الموضوع، وبالتالي لا مجال لإعادة بنائها وفق تأويلات محددة سلفا بغرض تلمس الطريق صوب المعاني التي تحاول الكاتبة القبض عليها، والحال أننا نمتلك حق قراءة الموضوع في كليته وإعادة بنائه؛ بما يعني امتلاك كل قارئ شرعية نحت نص ثان على هامش النص الأول- موضوع الأطروحة، ولكن إزاء نفس التساؤل/التيمة؛ لهذا أنقل تساؤلات الكاتبة كما صاغتها هي: (كيف يمكن للخطاب الإلهي المتعالي أن يكون خطاب سخرية وهو الذي يصف نفسه بأنه القول الفصل وليس بالهزل في قوله تعالى : «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون» ؟؟ )
لقد جاءت تساؤلات الكاتبة سميرة مصلوحي تجسيدا لدهشتها أمام فكرة استئثار الخطاب القرآني باستعمال أسلوب السخرية في مواضع ومواقف أخرى. وبمثل هذه الدهشة سوف تؤسس الكاتبة لتصنيف مستفز للخطاب القرآني إذ تصرح في كتابها بأن أرضية اشتغالها هي «المتن القرآني الساخر»؛ فهذا التصنيف، حقا، يستفز القارئ الذي ألف تقديس الخطاب القرآني إلى حد يتم فيه التعتيم وحجب كل إمكانية لاستبصار جدوى وأهمية العمل على سبر الأبعاد التداولية المتعددة فيه، ثم فتح أفق ذلك الاستبصار من زوايا نظر متعددة ومختلفة، وحتى تلجم الكاتبة عنان أي تأويل من شأنه أن يُسحَب على مقاربتها التداولية للبعد الحجاجي كما أرادته في ارتباط وصلة بأسلوب السخرية، فقد اهتمت أولا بتعيين مفهوم السخرية وتحديد دلالته في سياق يفضي بنا إلى عين المعنى الذي تروم الكشف عنه عبر مقاربتها، وبالضبط من خلال ما يقدمه النص القرآني وكما يقدمه بالتدقيق عبر الآيات القرآنية، محمولا في ثنايا ألفاظ أخرى مثل الاستهزاء، اللمز، الغمز، الضحك، اللعب…. الخ.
تؤكد الكاتبة أن ما تصبو إليه هو دراسة الجانب المتعلق بالحجاج، أو ما أسمته البعد الحجاجي لأسلوب السخرية في الخطاب القرآني وما يحققه في عملية التواصل الحواري بما هو جوهر الخطاب القرآني، ومن صلب كونه خطابا تتوفر فيه جميع أركان العملية التواصلية؛ فتبين أن المحاججة فيه ليست إلا آلية لإقناع المتلقي وحثه على تصديق منطوق النص؛ بل وجعل المتلقي يجسد مضامين منطوق النص القرآني قولا وفعلا، وتلك سدرة المنتهى التي ينشدها الخطاب الديني.
ها هنا أجدني أتساءل بمعية الكاتبة: كيف لخطاب ينشد التصديق والإقناع أن يلجأ إلى وسيلة أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها مستفزة ؟ فالسخرية وسيلة بواسطتها ترتسم ملامح المسافة الفاصلة بين حدي كل تواصل ألا وهما المتكلم والمستمع، السخرية إعلان من لدن الذي يقوم بها بأن الذي تتوجه إليه لا ينتمي إلى دائرة من يخاطبه، إنه أقل درجة وتحق عليه اللعنة في كل تجلياتها من قبيل التهميش، الإقصاء، أو القتل؛ أي كل أشكال التعنيف الممكنة. ثم كيف تستقيم تلكم الغاية القصوى التي منبعها وطريق بلوغها هو القلب مع السخرية التي تهز جنبات وأوصال القلب وتقوض طمأنينته؟
وفق هذه الدهشة تتعمق التساؤلات وتتناسل في كثرة نرتكز في الإقرار بها على المنهج الذي اعتمدته الكاتبة سميرة مصلوحي في مقاربتها الثاقبة التي يحضنها الكتاب بين دفتيه؛ فالمنجز بالنسبة للكاتبة تطبيق لاختبار تحول وظيفة المظاهر اللسانية الساخرة الواردة في القرآن من الإبلاغيةinformativité إلى الحجاجية من منطلق كون العبارة الساخرة تروم الاستفزاز باعتباره سبيلا نحو التغيير. بعد ذلك تنتقل الكاتبة لتتناول هذه القضية من منظور شمولي والذي تتم فيه دراسة السخرية القرآنية باعتبارها رؤية شمولية ومنهج حياة؛ فهو يلامس جميع مناحي الحياة البشرية في مستوى ما هو ذاتي فردي وخاص، أو في مستوى ما هو علائقي جماعي ومشترك بين الأنا والغير.
لكن ما طبيعة هذه الحقيقة أو بالأحرى أي نوع من الحقائق ينشده الخطاب القرآني من وراء السخرية عندما حولها إلى آلية للمحاجة؟
بخصوص هذا النوع من الحقائق أي التي موطنها القلب، يخبرنا الفيلسوف بليز باسكال بأنها حقيقة لا مجال للاستدلال عليها؛ إنها بنت تصديق، من صلب يقين، لما نشعر به والذي يغدو مبادئ أولية نستكين ونطمئن إليها، ثم نجعلها في وضعيات أخرى منطلقا لاستشراف بلوغ حقائق مغايرة تلك التي تسمى القضايا. وفق هذا التصور تتضح الحقيقة التي يرومها الخطاب القرآني وينشد المحاجة عليها بغرض إقناع المتلقي وحثه على تصديقها والإيمان بها بما هي الحقيقة الواحدة والمطلقة الموجهة إلى مخاطب في بعده الجماعي – الكوني في الصيغة «يا أيها الناس»، لتوضيح ذلك تخصص الكاتبة المبحث الثالث بعنوان « الفعل الساخر تأسيس لنظام اجتماعي متوازن» للربط بين الآلية والمقصد، حيث تستشهد بآيات قرآنية ترصد نمطية الفعل والسلوك التي تتمثل في تقليد السلف والسابقين كما في الآية التي تقول: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما أَلْفَيْنا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون»(سورة البقرة-آية رقم 169)، وهي آية تبين كيف يستفز الخطاب القرآني سلوك تبعية الأنا للآخر التي تتجذر في حياة الناس بالجزيرة العربية حتى أضحت بمثابة سلطة تتحكم فيهم ، وتغيب وتحجب عنهم إعمال العقل والتفكير الذاتي. وهذا ما سعى الخطاب الساخر إلى تحطيمه كما تقر بذلك الكاتبة سميرة مصلوحي، مضيفة أن الخطاب الساخر قد بلغ مداه وعمق تأثيره عندما أقحم المتلقي في صلب رحى التحاور إذ يقوض ادعاءاته بلسان حاله نفسه، وتفصل الكاتبة القول في ذلك في الصفحة رقم 185 من كتابها مع الإشارة إلى ارتكاز النص القرآني على التقابل بين المفردات التي استعملت في تأثيث المشهد الساخر.
لم يقف الخطاب القرآني عند هذا المستوى، وإنما تعداه إلى تعميق مقاصده من خلال اعتماد الملفوظات الأخلاقية التي تتجاوز حدي الترغيب والترهيب إلى حد توجيه الفعل وتقويمه، وهي ملفوظات تجعل القارئ يستكنه صنفا آخر من الحجج التي يعتمدها الخطاب القرآني وهي ما خصته الكاتبة بالحجة البراغماتية الضاغطة على نفسية المتلقي، والتي تحصره في دائرة ضيقة تحمله كرها على تقويم فعله عبر توصيف فعله بصفة «جريمة» بما هي أس القبح الذي تشمئز منه النفوس السليمة جميعها.
لقد تعددت الحدود التي تمظهر عبرها ومن خلالها فعل السخرية في الخطاب القرآني، فنحن نراه يعرض بعدا أكثر تجسيدا لصيغ سخرية المُخاطِب من المُخاطَب، إنه يحمل الدلالات على غير جواهرها «فالملفوظ في ذاته لا يحمل دلالة صريحة» كما تقر بذلك الكاتبة؛ بل يتضمن تعارضا تناقضيا يحدث ثمة صدمة تحبط انتظارات المتلقي وتقذف به في جبة الدلالة السالبة التي بشكل ساخر تسلبه نخوة الكينونة البشرية. ولعل القارئ النبيه سيدرك بكل تأكيد أنه هنا إزاء منطق الاستدلال الحجاجي الذي تستشهد على تجليه بالآية التالية: «المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون» (سورة التوبة، الآية رقم 67).
تحضر هذه الأبعاد إلى جانب أخرى بإمكان القارئ أن يتتبعها بين دفتي الكتاب، وذلك لتشكل بنية حجاجية دامغة لتبئير الفعل البشري قبل الذوات الفاعلة. وهذا ما به تكون السخرية التي يؤسسها الخطاب القرآني؛ سخرية لا تبخس قيمة الفرد و/أوالجماعة- الانسان، ولكن لتدفعه صوب النظر إلى التناقضات الثاوية فيه والمتجذرة في حياته على جميع الأصعدة.
لكن ونحن نلفت الانتباه إلى هذه النقطة بالذات، فإنما لإزالة أي لبس قد تسحبه علينا الفكرة / الإشكالية التي كانت هي نقطة ومنطلق هذه المقاربة التداولية (كيف لخطاب يتصف بالقدسية والتقديس في أعمق صور وصيغ تمثلهما أن يستعمل السخرية آلية للإقناع بضرورة الإقلاع عن السخرية ذاتها عبر تبيين أنها بئس الفعل والقول والمقصد ؟) ..
لعل هذا ما انتهت إليه الكاتبة سميرة مصلوحي وهي تمنحنا لحظة سفر ماتع ومتعب أيضا في سراديب ذهنية الإنسان العربي، فنحن نقرأ قولها في الصفحة رقم 195 : «(…) وما تومئ إليه (تقصد الوحدات المعجمية المستعملة في الخطاب القرآني) من معاني ساخرة؛ الشيء الذي يجعله يتحرج من نسبة هذه الصفات إليه ويتخذ خيار منحى الابتعاد عنها….» إنه الأمر الذي لم يقُلْه عنوان الكتاب. وأما الذي لم تقُلْه الكاتبة صراحة، فهو كون التعارض التناقضي ما بين الفكر والفعل والذي كان محط سخرية الخطاب القرآني منذ ذات زمن، لا يزال قائما في العالم العربي حتى الآن، وأنه هو عينه العائق الحقيقي لكل حركة تاريخية ممكنة.
أخيراً، لابد من التأكيد على أن ما يمكن القبض عليه من خلال هذا السفر الفكري المائز هو أننا أمام عائق حقيقي نحن مدعوون أكثر إلى تقويضه نظريا أولا؛ إنه ذهنية التعارض التناقضي بين الفكروالفعل.. وذاك ما سعى الخطاب القرآني إلى بلوغه بواسطة بنية حجاجية بليغة، سدرة المنتهى بها كانت هي جعل المتلقي يتحرج أمام نفسه أولا وأخيرا، والتي معها أضحى الخطاب القرآني خطاب إحراج بامتياز، وليس خطاب سخرية..


الكاتب : فاطمة حلمي

  

بتاريخ : 09/07/2021

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *