الدار البيضاء …تلك المدينة 1 : قبل الدار البيضاء كانت …أنفا

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

مثل طائر الفينيق تنبعث الدار البيضاء من رمادها كلما أحاطت بها الفتن ودكت أسوارها مدافع الغزاة … تنتصب على ساحل المحيط الأطلسي شامخة فخورة.. هنا حيث يلتقي التاريخ بالحداثة .. تاريخها العريق لا يعرفه إلا القليل من الناس، منذ كان اسمها آنفا، يقول هاشم المعروفي في كتابه «عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور»: «عتاقتها بالنسبة لأصلها آنفا وأنها من أقدم المدن والمراسي المغربية، وقد لعبت أدوارا هامة في التاريخ ولا يعلم كثير من الناس إلا الحالة التي كانت عليها قبل الاحتلال وبعده ..وما وصلت إليه من استبحار العمران وازدهار الحضارة وكثرة السكان وانتشار البنيان واتساع الفجاج ورواج التجارة ونفاق الصناعة ما زاحمت به عواصم المعمور واشتهرت به في الكرة حتى أطلق عليها العاصمة التجارية وعروس الأقيانوس، وغير ذلك من الألقاب الضخمة الجميلة فصارت بذلك غنية التاجر ونزهة السائح وسلو الغادي والرائح..».
كانت أنفا قديما والدار البيضاء حاليا قبلة الزائرين ومحط رحالهم من كل الجهات بسبب ما عرفته من ازدهار وما احتوته من ظروف العيش وتوفر فرص العمل وكثرة المصانع وسهولة التجارة ووفرة فواكهها وثمارها وخصوبة بساتينها وحقولها، فيها المغربي والأوروبي والإفريقي، المسلم واليهودي والمسيحي، تتعايش وسط دروبها كل الأجناس والثقافات، ليمتزج الكل في بوتقة فريدة من نوعها قل مثيلها…
يقول فيها ذو الوزارتين العلامة الأديب لسان الدين بن الخطيب الذي نزل ضيفا على أعيانها وعلمائها في كتابه «معيار الاختيار» : « قلت فأنفا قال جون(ميناء) الخط والإقلاع ومهبط السلاع تهوي إليه السفن شارعة وتبتدرها مسارعة تصارف برها الذهبي بالذهب الإبريز وتراوح برها وتغاديه بالتبريز..تسقط الطير حيث يلتقط الحب///وتغشى منازل الكرماء..خارجها يفضل كل خارج وقانصها يجمع بين طائر ودارج فواكهها طيبة وأمطارها صيبة، كيلها وافر، وسعرها عن وجه الرخاء سافر، وميرتها لا تنقطع، لها خف ولا حافر، لكن ماءها وهواها عديما الصحة والعرب عليها في الفتن ملحة …».
مصادر كثيرة وكتب تاريخية ذكروا آنفا كاسم للدار البيضاء في العصور الغابرة منها كتب ابن خلدون وابن الخطيب وأبو القاسم الزياني وابن أبي زرع والحسن الوزان ومرمول وغيرهم، لكن أول مؤرخ ذكر اسم آنفا، حسب الباحثين، هو الشريف الإدريسي (القرن السادس الهجري و 12 الميلادي) في مؤلفه « نزهة المشتاق في اختراق الآفاق :» من فضالة إلى ميناء آنفا، مسافة أربعين ميلا .إنه ميناء تتجه إليه البواخر من كل الآفاق وفيه يتم تبادل الحبوب والشعير والمصنوعات اليدوية من طرف أمازيغ قبائل بني يضفرت دوكال وآخرون…».
أما بالنسبة لمؤسسها فتتضارب الأقوال، لأن من الباحثين من يرجح فرضية بنائها من طرف الفينيقيين ومنهم من يرى أن أصلها غير ذلك، يقول اندري آدم في الجزء الأول من كتابه «الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب:» سميت الدار البيضاء خلال انمساخها التاريخي الأول أنفا ANFA، ومعنى الكلمة الذي من المفروض أن يكون بربريا، يفتح الباب لتأويلات مختلفة، كما أن أصل المدينة يبقى مجهولا، وخلافا لما صرح به مارمول وليون الإفريقي فهي ليست قرطاجية ولا رومانية وبما أنها ليست عربية –لا يوجد نص يشير إلى ذلك- فلا يمكن أن تكون إلا بربرية..». ورغم أن حضارتها ازدهرت واستبحر عمرانها في عهد دولة بني مرين فآخرون يرجحون أن أنفا تم تشييدها في عهد الموحدين بعد إزاحة إمارة البورغواطيين التي حكمت كل مناطق تامسنا الواقعة بين ضفتي نهري أبي رقراق وأم الربيع لفترة تمتد لأربعة قرون،
لكن ما عثر عليه الباحثون من آثار يؤكد أن الإنسان حل بالموقع المسمى أنفا منذ ما قبل التاريخ، وقد عثروا على أثر صناعة بدائية في أحياء عدة من المدينة وقد جاء اكتشاف «اطلانتروب البيضاء» l’atlanthrope de casablanca) (سنة1955 بسيدي عبد الرحمن ليغني سلسلة البشريات المعروفة .
كان البرتغاليون سببا في خرابها في القرن الخامس عشر، لقد ذكر المؤرخون أنهم احتلوا مع الإسبان أكثر من مدينة على السواحل المغربية، ففي سنة 1415م استولوا على مدينة سبتة، بعد حصار دام ست سنوات، وفي 1457 احتلوا قصر المجاز، وفي 1464 احتلوا طنجة، وفي 1471 احتلوا أصيلا، وفي 1501 استولوا على مازاكان، وبنوا حصن البريجة، وفي 1504 أخذوا العرائش ثم أكادير، وفي 1506 احتلوا آسفي، ومنها عادوا إلى أزمور فاستولوا عليها في 1508 ثم المعمورة في 1514، وفي 1468استولوا على أنفا، التي كانت تزودهم بالقمح والصوف والبهائم، وسبب استيلائهم عليها وتخريبهم لها أن ملاحيها، خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر، كانوا يمارسون القرصنة، وحسب ليون الإفريقي فقد كانت أشرعتهم تغامر حتى «نهر البرتغال»، ثأرا وانتقاما من البرتغاليين بسبب ما قاموا به من احتلال للثغور المغربية الأخرى، مما جعل الغزاة يقررون هدم عش القرصنة ذاك، لكن كان عليهم قبل ذلك أن يدرسوا أوضاع البلاد والعباد لما عرفوا عنهم من شجاعة وإقدام، ولهذه الغاية أرسل الملك ألفونصو الخامس جاسوسا تمهيدا للهجوم، وصل حسب ما أورده اندري آدم، إلى ميناء آنفا على متن باخرة محملة بالفواكه وتنكر في زي تجار التين والزبيب متجولا بين الناس عارضا سلعته، متحينا كل فرصة يستقي منها معلومات حول خريطة المدينة وشوارعها ليستعملها الجيش البرتغالي في تجهيز خطة الهجوم، وفي سنة 1468 ستنزل بعثة بقيادة أحد الإخوة الصغار للملك البرتغالي الفونصو الخامس تحت جدران أنفا، وكانت تضم 50 سفينة وعشرة آلاف رجل من خيرة رجالهم، حطموا الجدران وخربوا المدينة التي كان سكانها قد فروا بمتاعهم قبل وصول الجيش البرتغالي، وبعد نهب المدينة وتخريب أسوارها وأبنيتها عادوا من حيث أتوا تاركين وراءهم أكواما من الحجارة يسكنها البوم .
بقيت المدينة على خرابها مدة ثلاثة قرون، إلى سنة 1770 حيث سيقرر السلطان سيدي محمد بن عبد الله إعادة بنائها وتحصينها من الهجمات الخارجية، فأعلى جدرانها ودعمها بسطيح للمدفعية (السقالة) وبنى بها سجنا منيعا ومدرسة إسلامية وحماما…كما أقام بها ثكنة تتكون من جهة من عبيد البخارى، وهم العسكر السود الذين كونهم المولى إسماعيل، ووطن فيها فيلقا من أمازيغ حاحا، وأطلق عليها اسم الدار البيضاء.. وما فتئت المدينة أن نهضت من جديد …
بالإضافة إلى اسم أنفا عرفت المدينة بأسماء أخرى ومنها اسم من أصل برتغالي «كازابرانكا»، وحسب المؤرخين فإنه من المرجح أن يكون البحارة البرتغاليون هم من أطلقوه سنة 1460 م، وهم يرون من بعيد بناية بيضاء على الساحل، لكن هذا الاسم سيغيره الإسبان في ما بعد حيث عوضوا حرف الراء في «كازابرانكا» بحرف اللام، وهذا الاسم هو الذي عرفت به في العالم بأسره، Casablanca ، ويبقى أن هذين الاسمين وضعا ليس لتسمية مدينة أو قرية بل لتعيين دار بيضاء تُرى من بعيد… على شاطئ المحيط الأطلسي، دار ستتحول، خلال مدة قصيرة، لتصبح قطبا اقتصاديا ذا صيت عالمي وأكبر مدينة بالمغرب…


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 12/03/2024