الدار البيضاء …تلك المدينة -20- وليان صالحان واحد من تونس والآخر من العراق، أحدهما سميت المدينة على اسم ابنته

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

لقد كانت الوثيقتان السابقتان تصبان في بوتقة التأكيد على وجوب الاهتمام بالضعفاء واليتامى وتمكينهم من جزء من الأموال التي يتم جمعها في «ربيعة الشيخ»، وذلك ما تم تأكيده أيضا في نص ثالث أورده ذات الكاتب في كتابه المذكور جاء فيه : «خديمنا الأرضى ناظر أبي الليوث وأحباس الدار البيضاء الطالب ادريس الفيلالي وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبعد، فقد وصل جوابك عما أمرت به من تنفيذ الخبز للمرضى والأفاقيين وجعل البيوت لهم بأنك نفذت ترتيب الخبز لهم من مستفاد الضريح المذكور غير أن العامل اطلعك على كتاب شريف بأن الصائر يكون من ربيعة الشيخ مع أن الربيعة تفتح على يد أمناء المرسى والقاضي ويفرق ما يوجد فيها، فالثلث على الضعفاء القاطنين بجوار الشيخ والباقي يصير في ختان اليتامى وأبناء الضعفاء، وتعين عليك أن تُصير على المرضى مما تحت يدك من المستفاد مبادرة لأمثال ما أمرناك به، والعمل على ما يصدر لك ثلثاه من وفر الأحباس الكبرى والثلث الواحد هو الذي يكمل من فتوحات الولي المذكور و ما عداه من بقية الفتوحات ينفذ في مصالحه ووظائفه المعهودة فيه فليجر عملك عليه وقد كتبنا للقاضي والأمناء والعامل بمثله والسلام في 15 قعدة عام 1319 ه» .
ذكر الباحثون أن سيدي بليوط أبو الليوث عاش في أواخر الدولة المرابطية وأوائل عهد الدولة الموحدية كما ذكروا أن سنة وفاته 595 هجرية هي سنة وفاة الخليفة يعقوب المنصور بن يوسف الموحدي، وكان المترجم راعيا للغنم والماعز ويتغذى من ألبانها، وكان قد بنى كوخا من القش للتعبد والصلاة داخله، وقد كان مشهورا بمرافقة الأسود وكان العامة معتادين على رؤيته صحبة أسده. ورغم أن ضريحه يوجد داخل المدينة القديمة لكن هناك من يذكر أن الضريح الحالي لم يكن لسيدي بليوط بل لولي آخر، وأن الفرنسيين في هدمهم لسور المدينة القديمة الممتد على طول الشارع مكان البازارات الحالية نقلوا ضريح سيدي بليوط من موضع الهدم إلى ضريح الولي المجهول أي الضريح الحالي، فيما يقول البعض إن ضريح سيدي بليوط هو نفسه الذي كان داخل المدينة وقام الفرنسيون بهدم السور خلف الضريح الذي كان داخل برج زاوية السور ولا يزال البرج باديا إلى يومنا هذا، كما أن هناك تضاربا حول صحة توطين الضريح تفسره البقايا الأثرية التي تمت ملاحظتها عند أشغال حفر شارع الحنصالي، بشهر يونيو 2014، وتتمثل في بقايا الهياكل العظمية التي كانت تنتمي للمقبرة الإسلامية المحاذية للمدينة القديمة، ما يدل على أن توطين ضريح سيدي بليوط كان داخل المدينة القديمة أي عن يمين الشارع المحفور بينما الضريح الحالي يوجد عن يسار الشارع ووسط مقبرة المسلمين.
بجوار سيدي بليوط وعلى بعد أمتار قليلة منه يوجد ضريح سيدي علال القيرواني .
فمن مدينة القيروان التونسية جاء هذا الولي الصالح، وحسب ما يتم نسجه حوله من حكايات فإنه وصل المغرب في القرن الرابع عشر الميلادي، وعنه يقول الباحث الفرنسي س.برتيمي إنه تزوج امرأة تقطن أنفا تسمى للابيضا، توفيت قبله وبنى لها ضريحا كان مصبوغا بالأبيض، وسميت المدينة على ذلك «الدار البيضاء»، لكن هناك حكاية أخرى تذكر أن للا البيضاء هي ابنته وكان سكان أنفا آنذاك ينعتون محل تواجد ضريحها بالمنزل الأبيض «الدار البيضاء» فسميت المدينة بذلك، وترجمها الإسبان إلى كازبلانكا.
ضريح سيدي علال القيرواني بناه السلطان مولاي عبد الله ويوجد به قبره وقبر ابنته البيضاء، حسب أغلبية الآراء، وربما هذا الولي هو أكبر أولياء الدار البيضاء مقاما ويقع بالسقالة أمام ميناء الدار البيضاء…
وبمسافة بعيدة نسبيا عن الضريحين السابقين يطل ضريح سيدي عبد الرحمن بن الجيلالي من أعلى صخرة ناتئة بمنطقة عين الذئاب، على المحيط الأطلسي، فقد اعتاد البيضاويون المرتادون لكورنيش عين الذئاب، رؤية قبة خضراء محاطة بأبنية بيضاء وسط المحيط بعيدة قليلا عن الشاطئ، في منظر بديع يزين البطاقات البريدية ويغري المصورين ولكنه لا ينبئ بما يدور في جنبات الضريح من حياة مشبوهة لبعض من سكنوا تلك الدور المجاورة له، في أوقات المد تحيط بهذه الصخرة المياه من كل جانب، وقبل أن تبنى القنطرة الحالية التي تربط تلك الجزيرة الصغيرة بكورنيش عين الذئاب كان زوارها يتنقلون إليها بواسطة مراكب صغيرة مطاطية. منذ أسابيع تم هدم المباني المحيطة بالضريح وعاد سيدي عبد الرحمن لينعم بالهدوء الذي كان يرفل به قيد حياته، هدوء قد لا يعكر صفوه إلا هدير الأمواج التي تتكسر على صخرته، وحسب الباحث محمد جنبوبي مؤلف كتاب «الأولياء في المغرب» فإن الولي أصله من العاصمة العراقية بغداد وعاش في القرن السادس الهجري وعاصر شيوخ التصوف الأوائل في المغرب من بينهم أبو شعيب السارية ومولاي عبد الله امغار وعبد الجليل بن ويحلان وغيرهم.
حافي القدمين بظفيرة على ظهره يحكى أن سيدي عبد الرحمن كان كثير التنقل بين عدة أماكن من الساحل الممتد بين عين السبع وعين الذياب، التي كانت عبارة عن غابة متصلة مليئة بأنواع الأشجار غاصة بالحيوانات، حسب ما جاء في كتاب الدكتور مصطفى اخميس «شعائر وأسرار أضرحة البيضاء»، ويقال إن أبا شعيب أيوب السارية المعروف بمولاي بوشعيب الرداد انتقل مشيا على الأقدام من أزمور إلى أنفا للقائه بعدما سمع عنه الكثير كما أوصى سكان المنطقة به خيرا مع الاهتمام بخدمته والتبرك به. توفي سيدي عبد الرحمن وهو في ريعان شبابه، وهو يرقد في إحدى غرف البناية التي شيدها سكان المنطقة خصيصا له كما يوجد بجوار قبره قبر آخر قيل إنه لخادمته التي كانت من مريداته والمتحمسات لزهده كما تفانت في خدمته .
ولي آخر سمي حي راق باسمه في الدار البيضاء، سيدي محمد مرس السلطان، يحكى أنه كان أحد مساعدي السلطان مولاي الحسن الأول، وكان يتولى مهمة الإشراف على المرس أو الثكنة العسكرية للدار البيضاء، لكنه سرعان ما زهد في المنصب وباع ممتلكاته وقصد مدينة فاس لتلقي العلوم الدينية في جامع القرويين توسم فيه معلموه الشأن الكبير ثم عاد أدراجه صوب مدينة الدار البيضاء، حيث سخر ثروته لخدمة الفقراء واليتامى وعرف بقدرته على علاج القلق النفسي حتى في حالاته المستعصية…
غير بعيد عن المركز الجامعي بن رشد بالدار البيضاء، وفي أحد الدروب المجاورة له هناك قرب شارع غاندي يوجد ضريح سيدي محمد مول الصبيان الذي عاش في بداية القرن الماضي، وكان بائعا متجولا للماء يرفض تلقي أجرته مالا بل يقبل في المقابل كسرة خبز وزيتون، لقب بمول الصبيان لحبه الشديد للأطفال وملاعبته لهم فبادلوه حبا بحب، وكان يعد لهم إن مرضوا علاجات مصنوعة من خليط من الأعشاب فيستردون عافيتهم فورا ومع انتشار خبر علاجه للأطفال أصبحت النساء يقصدنه لعلاج أطفالهن المرضى.
(يتبع)


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 03/04/2024