ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
ابتداء من سنة 1907 ستنطلق النواة الأولى للمدينة الجديدة البيضاوية وستوسع حول قطبين متجاورين ،حسب ما جاء في كتاب “الدار البيضاء” لأندري آدم..هما السوق والمخيمات العسكرية، لكن هذا التوسع سيصطدم بفوضى التعمير التي سبقت الإشارة إليها سابقا، وبالمضاربات العقارية التي ازدهرت في ذلك الوقت بشكل كبير، ولعبت دورا كبيرا في تأخير عجلة خلق مدينة جديدة بمعايير أوروبية متعارف عليها، وهكذا ومنذ سنة 1910 تم بناء قنوات الصرف الصحي بالإسمنت على مستوى عميق في الأرض لأنها شيدت في السابق على مستوى سطح الأرض وكانت بارزة للعيان، وفي ذات السنة بدأت أشغال إنجاز مشاريع الماء الصالح للشرب التي كانت المدينة في حاجة إليها، أما بالنسبة للإنارة العمومية فقد حصل الفرنسي فير على امتياز احتكار إنارة المدينة من قبل السلطان عبد العزيز، وكانت أول تجربة أشرف عليها إنارة الساحة الكبرى التي أصبحت تحمل اسم ساحة فرنسا.
«لقد كانت المشاريع التي وضعتها فرنسا إشارة قوية إلى بداية استعمار المنطقة فإقدام فير على تأسيس شركة «Grand socco»
بالممر الذي أصبح يحمل في ما بعد اسم «سوميكا» كان إعلانا عن نية فرنسا في وضع برنامجها المستقبلي بالمنطقة» ، من كتاب الدار البيضاء التحولات الإدارية والاقتصادية و العمرانية بين منتصف القرن التاسع عشر و بداية الحماية» لكاتبه نور الدين فردي.
العديد من البنايات خصصت كمكاتب لشركات كبرى مثل شركة الدراسة والتجارة ودار كارل فيخ ومقر شركة لا مبيروتر، و بدأت عمليات بناء المحلات التجارية والفنادق والمحلات الخاصة بتخزين الحبوب والصوف والجلد قصد التصدير بالطريق المتجهة إلى مديونة، وتحولت الدكاكين التي في ملك تجار يهود والمخصصة لبيع الحبوب والقطاني إلى مقاهي ومحلا تجارية يملكها الأجانب، وقبلا وفي سنة 1909 شيدت أول عمارة مكونة من طوابق من قبل أنطوان ماس، وكان بنك الليوني وراء دعم هذه المشاريع لصالح الأجانب.
ثم بدأت فرنسا في إعداد الطرق والأزقة وصدر قرار يتعلق بذلك في 18 سبتمبر سنة 1907 وصدر الأمر بتوسيع أزقة وطرق المدينة التي عبدت بالحجار حتى تتمكن السيارات من المرور ..
من جانب آخر وفي مجال بناء الدور و المنازل كان المال هو المحرك الأساسي لكل مضارب، الذي كان عند شرائه أرضا يتزايد ثمنها يوميا، وهو ينوي إعادة بيعها لجني أرباح طائلة من ورائها، فقد كان الناس لا يشترون الأراضي إلا لبيعها فتبقى تلك الأراضي التي يتجاوز ثمنها الملايين عارية، وفي سنة 1913 أصبحت الدار البيضاء تنحصر في «بحر من الأكواخ كأنها ضاحية لا شكل لها نوع من ضاحية مدينة ضخمة مازالت غائبة»، موريس زيمرمان «مناظر طبيعية ومدن المغرب».
وتبعا لذلك اضطر السكان المتزايدة أعدادهم بشكل مطرد إلى البحث عن بقع ذات أثمان مناسبة بعيدا عن وسط المدينة وعن أماكن عملهم ليبنوا فيها مساكنهم، وهذا ما جعل الدار البيضاء تتحول إلى مدينة لا حدود لها، وتواجدت بها أحياء ذات كثافة سكانية دون أي قواعد للعمران. هذه المضاربات ستصعب الأمر على الوافدين القرويين والأوروبيين، الذين اضطروا بسبب ندرة المساكن وغلائها إلى السكن في دور الصفيح، «وبما أن العامل الأوروبي كان يتقاضى آنذاك بالدار البيضاء ما يقارب 15 فرنكا في اليوم فلن نندهش إذا علمنا أن بعض الأوروبيين كانوا يسكنون دور الصفيح، وأن أقبح أكواخ المدينة القديمة كان يوجد تحت سقفها إلى حدود الحرب العالمية الثانية عائلات فقيرة «بيضاء»» أندري آدم.
هذه الفوضى التي تخبطت فيها الدار البيضاء سيصفها هنري بروست، المهندس المعماري الفرنسي الذي استعانت به سلطات الاحتلال لوضع حد لها بالقول: ‘»في بداية 1914 كانت المدينة الصغيرة الأهلية غارقة وسط خليط خارق من الفنادق والمساكن من مختلف الأنواع تتناثر أمواج من الخشب وفيلات وعمارات من خمسة طوابق على بعد كيلومترات من الأسوار كانت في البداية فوضى غير محتملة بدون قنوات لأن النمو كان سريعا في جميع الميادين وفي جميع الاتجاهات…›».
بدأت السلطات البلدية في رسم حدود المدينة الجديدة بعد بدء ترصيف الطرق الرئيسية، وذلك برسم شارع يبلغ قطره ما بين 3 إلى أربع كيلومترات قامت إقامته دون صعوبة كبيرة حسب اندري ادم ..بعد مفاوضات، لأنه كان بعيدا عن السوق وتم شق الطرق مثل شارع لا لورين (رحال المسكيني الحالي) وشق شارع الساعة (علال بن عبد الله )يبلغ عرضه 15 مترا، وكان هو المسلك الوحيد نحو المدينة.
ثم بدأت بعض المجموعات السكنية تأخذ وجه ها مثل حي الحرية «la liberté» الملتصق بشرق المخيمات العسكرية، ثم حي لا فونسيير، الذي يقطعه زقاق الساعة، وبدأت تظهر بنايات مختلفة مكونة من فنادق ومخازن على الخصوص على طول طريق مديونة، التي رصف منها ما يزيد عن 20 كيلومترا، وأصبحت الطريق الوحيدة التي تتوجه نحو مراكش والشاوية، ثم تناثرت مجموعات سكنية ضحوية على مسافة من المدينة بعيدا عن الشارع الدائري في الشرق وعلى طريق الرباط وحتى الصخور السوداء الذي جزأه ‘لاندرا ‘ الموظف القديم الذي أصبح ثريا بواسطة الحظ، أما في الغرب على طريق ازمور فقد ظهر حي «راسين» وفي الغرب الأقصى على بعد أربعة كيلومترات من وسط المدينة قام أحد المقاولين وهو ليونارد جوليان بخلق مدينة فاخرة للنزهة على هضبة انفا سماها أنفا العليا.لكن كان على الفوضى المعمارية التي عرفتها الدار البيضاء منذ سنة 1907 أن تجد لها حدا، وهنا سيأتي دور هنري بروست المهندس المعماري الذي لم يكن مبتدئا في المهنة فقد سبق لمشروعه في مباراة تخص مدينة انفير أن حظي بالريادة والتفوق، ولكن مهمته بالدار البيضاء لم تكن تشبه باقي المهام التي اضطلع بها فقد كان عليه أن يجد تصميما لمدينة موجودة تتخبط في فوضى عارمة وشاملة إضافة إلى تحد أخر يتمثل في بناء مدينة أوروبية بجانب مدينة مغربية تتوسع بدورها.
ولإنجاح مهمته كان على بروست أن يركز نظره على ما كان يعتبره الفرنسيون مفتاح السيطرة على المدينة منذ البداية وهو الميناء الذي يفضي إلى العالم الخارجي الذي بواسطته ستحمل البواخر الراسية فيه خيرات البلاد والمحصولات الزراعية والتجارية والصناعية إلى فرنسا ثم محطة القطار التي تربطها بمختلف الجهات المغرب لتسهيل نقل كل ما تراه فرنسا مناسبا لها، وبعد تحديد موقع المحطة أصبحت السكة الحديدية محاذية شرقا لتراب المدينة الجديدة ولهذا كان على التجارة والصناعة أن تتجمعا شرق المدينة بين الميناء والمحطة، ثم أصبحت ساحة فرنسا تعتبر مركزا النشاط التجاري ونقطة التقاء بين سكان المدينة العتيقة والمدينة الجديدة، ففي سنة 1914 وحتى سنة 1921 لم تكن أبعادها تتجاوز 200متر على 40متر لكن بعد هدم الجدران ودور الملاح الموجودة في الخلف ستصل الأبعاد إلى70 مترا، كما قام بروست بهدم جدار المدينة القديمة المقام على الوجه الجنوب الشرقي لساحة فرنسا ومصب واد بوسكورة وعدد من الدور المجاورة له لرسم شارع عريض يسهل الربط بين الميناء والمدينة الجديدة .
تبدو هذه التحولات التي يصفها الفرنسيون في كتاباتهم وكأنها كانت تدور في بحر هادئ وساكن وفي مدينة لا يهم سكانها سوى البحث عن منافذ العيش الكريم وجني الأموال وبناء المساكن والدور والعيش في سلام، لكن الأمر لم يكن كذلك ففي خضم مخططات تغيير وجه البيضاء وتوسيعها ليتسنى للاستعمار تيسير السطو على المدينة التي كانت أهم المراكز التجارية البحرية في شمال إفريقيا وعلى مينائها الذي قال عنه «لوموان» Le Moine: «فميناؤها واسطة عقد الموانئ المغربية المفتوحة للتجارة، ويوجد وسط سهول الشاوية الخصبة»، كانت هناك معارك ومظاهرات واحتجاجات قام بها السكان الذين تعرضوا لشتى أنواع التقتيل بدءا من الغارات التي شنتها البحرية على مدينة الدار البيضاء التي تعرضت لدمار وتخريب شامل من طرف المدفعية الفرنسية يومي 5 و7 غشت من سنة 1907 على إثر حدث مقتل تسعة عمال أجانب من طرف الأهالي الذين كانوا يقومون بأعمال بناء خط السكة الحديدية منتهكين حرمة مقبرة قديمة للمسلمين، وهو ما اعتبر تدنيسا للمقدسات الدينية للمغاربة، هذا الغزو الذي تعرضت له المدينة إن كان يبدو في ظاهره على أنه رد فعل تجاه أعمال التخريب التي قام بها سكان مدينة الدار البيضاء تجاه شركة البناء التي كانت تعتزم ربط مرفأ الميناء بالرصيف، إلا أنه في واقع الأمر كان فكرة راودت القوى الاستعمارية الفرنسية منذ سنة 1903، للسطو على هذا المركز التجاري المهم، فما إن احتلت جحافل القوات الفرنسية مدينة الدار البيضاء في 7 غشت 1907 وتوجهت أنظارها للزحف نحو الشاوية لاحتلالها، حتى سارع أبناؤها إلى حمل السلاح والدعوة للتعبئة الشاملة والجهاد في صفوف القبائل المجاورة، حيث جابهت قوات الاحتلال الفرنسي في معارك عدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر؛ معركة دار بوعزة في 28 غشت 1907، ومعركة سيدي مومن في 3 شتنبر 1907، ومعركة السطات الأولى في 15 يناير 1908، ومعركة عين مكون في 24 يناير 1908، ومعركة دار قصيبات في 2 فبراير 1908، ومعركة سيدي الجبلي ومعركة مديونة في نفس السنة، وتوالت المعارك المناهضة للاستعمار في نفس الوقت الذي كانت سلطات الاستعمار تخطط وتصمم المدينة الأوروبية الجديدة ، وقد عاشت الدار البيضاء أعنف هذه الأحداث يوم 7 أبريل 1947، والتي تؤرخ للمجزرة الرهيبة التي ارتكبتها سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية في حق ساكنة مدينة الدار البيضاء للحيلولة دون قيام جلالة المغفور له محمد الخامس من زيارة الوحدة التاريخية إلى مدينة طنجة.