ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
على شاطئ المحيط الأطلسي ارتأت المدينة القديمة أن تفرد جناحيها على مساحة تقدر بثمانية وأربعين هكتارا، حسب ما جاء في كتاب «المدينة القديمة بالدار البيضاء..ذاكرة وتراث» لمؤلفه حسن لعروس. سكانها المكونون من خليط من المسلمين واليهود وقليل من الأوربيين عاشوا داخل أسوارها في تجانس قل نظيره، في بداية القرن العشرين(1907) كان عددهم يزيد قليلا عن العشرين ألفا، امتهنوا التجارة والفلاحة واعتمدوا على ما يأتيهم به البحر والأرض الخصبة المحيطة بهم من خيرات، وكان يوجد بها حتى بعض الفضاءات الفارغة، أما محيط الدار البيضاء البلدي فكان يضم 47 هكتارا سنة 1907 و 2451 هكتارا سنة 1921 و 9435 هكتارا سنة1936 و 11330 هكتارا سنة 1963.( أندري آدم : الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب).
تضم المدينة القديمة كنوزا معمارية وأضرحة وكنائس وبيعا وجوامع ودكاكين ودورا وأزقة مبلطة بالمسن، وهي حجارة يتم جلبها من البحر، ويحيط بها سور آنذاك «يمتد من ساحة لبحيرة ، لاصقا بالباب الكبير على الجهة الشرقية، نزولا باتجاه ضريح سيدي بليوط والمقبرة ليصل إلى شاطئ البحر الذي كانت مياهه قديما تصل إلى حدود المدينة حتى تلتطم بالسور، وكان السور لاصقا بضريح سيدي بليوط، وليس له مخرج يؤدي إلى البحر إلا الباب القديم أو باب الديوانة أو باب السقالة، أزيل الباب القديم عن آخره ولم يبق منه سوى ممر يؤدي إلى ضريح سيدي بوسمارة. هذا الشاطئ ردم عن آخره ووضعت سكة حديدية تسير عليها قاطرة تحمل الصخور لبناء الرصيف الكبير، ثم شقوا شارع الموحدين حاليا، ومن هناك كان السور يمتد إلى حي «كوبا» لينعرج يسارا ويشق طريقه على شارع البحرية(…)، يمتد السور باتجاه حي الجران، وفي نهاية الشارع يتعرج يمينا على شارع الطاهر العلوي…» ( من كتاب المدينة القديمة بالدار البيضاء ذاكرة وتاريخ لحسن لعروس).
لقد كانت المدينة القديمة نواة الدار البيضاء الأولى حيث عرفت نموا مطردا على مر القرن العشرين ولكنه نمو، حسب الباحثين، لم يكن مستمرا في الزمان والمكان، ذلك أنه عرف فترات تباطؤ وركود كما عرفت الأرض فجوات..فلم تبن الأراضي المحيطة بالمدينة القديمة التي كانت حتى بداية القرن العشرين عبارة عن أرض خلاء، إلا حديثا خلال القرن العشرين مثل مقبرة سيدي بليوط (شارع القوات المسلحة الملكية).
«في سنة 1930كانت المدينة بأكملها داخل جدرانها تحيط بها الأبراج المسلحة بقطع ذهبية ومدفعيات متعبة ومحاطة بأربعة أبواب تقفل كل ليلة من شروق الشمس إلى مغربها ويوم الجمعة أثناء صلاة الظهر، وكانت المدينة تنقسم إلى ثلاثة أقسام المدينة الملاح والطناقر» (الدكتور كريستيان هويل).
في سنة 1907 غداة الإنزال الذي قام به الجنود الفرنسيون، كانت المدينة تنقسم إلى ثلاثة أحياء: التناكر في الشمال الغربي ويقطنه البدويون، الذين يعيشون في «النوالات»، والملاح المخصص للجالية اليهودية في المجال الذي حدده لهم السلطان مولاي سليمان في بداية القرن التاسع عشر، والجزء المهيكل بشكل أفضل في المدينة على طول المرسى وعلى الجانب الجنوبي من السور حيث تمكن باب السور من الانفتاح على باقي البلاد، هناك تتركز البنايات التي يقطنها الأجانب(قناصلة –ووكالات مصرفية-وفنادق –وبنسيونات)، والبيوت التي شيدها التجار المغاربة وكذا التجهيزات العمومية.
لقد تزايد سكان المدينة مع نمو اقتصادها الذي ساهم فيه بشكل واضح وكبير ميناؤها البحري صانع ازدهار الدار البيضاء، فقد ارتفع عددهم من 700 نسمة سنة 1836 إلى ما يزيد عن 20000 سنة 1907 (25000 نسمة حسب أندري آدم)، وبالنسبة للجالية الأوروبية فقد كانت جد صغيرة ونشيطة، فمن 15 شخصا سنة 1856 وصلت 570 سنة 1905 يمثل الإسبان أكثر من نصفها، في سنة 1868 ستستقر بها بعثة كاثوليكية فرنسيسكية ثم أخرى بروتستانتية سنة 1891، وأقيمت بها قنصليات القوات الرئيسية لتحل شيئا فشيئا محل وكلاء القنصليات التي كان على رأسها التجار.
الجالية اليهودية بالدار البيضاء ظهرت بالمدينة سنة 1830 وفي بداية القرن العشرين سيبلغ عددها 5000 نسمة جاءت ليس من الشاوية فقط بل من موانئ أخرى بدأت تعرف ركودا وبدأ نشاطها يتقلص كأزمور والرباط، كما وفدوا من طنجة التي أنشأت وكالاتها التجارية الرئيسية فروعا بالدار البيضاء، ولعب هؤلاء اليهود دور الوسطاء بين المسلمين والأوروبيين.
أما عدد المسلمين فقد تنامي ليصبح 19 أو 20 ألف نسمة سنة1907، وكانت الأعداد الكبيرة تهاجر إليها من القبائل المجاورة أو من الشاوية إضافة إلى مناطق دكالة وتادلة، كما كان هناك سكان أمازيغ وسكان ذوو بشرة سوداء ينتمون إلى وادي درعة الذين بنوا خارج جدران المدينة قريبا من باب مراكش قصرا حقيقيا سمي ب»انزالة اضراوي» تحت رئاسة شيخ زاوية الناصريين ولي تسكروت.
قي نهاية القرن التاسع عشر تسبب الجفاف في انتشار حشود من الأهالي على الطرقات التي تربط جنوب المغرب بالدار البيضاء لينصبوا «نوالاتهم»وهي خيمة من القش وأغصان الشجر بجانب أبواب المدينة وبحي التناكر، وكانت هذه الساكنة تقدر ب6000 نسمة حوالي 1896، لكن إلى جانب هؤلاء الفقراء استقبلت المدينة البورجوازية التجارية لمدينتي الرباط وفاس التي جلبها توسع الأعمال . وفي سنة 1907 كانت عشرون من الدور الكبيرة الفاسية للتجارة تملك فروعا بالدار البيضاء، كان الكل يتجه نحو «الإلدورادو» الجديد، فقراء وأغنياء، تدفعهم مغامرة البحث عن جنة الدار البيضاء الموعودة !