ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
من المعروف أن الدار البيضاء كانت، قبل وصول سيدي محمد بن عبد الله إليها، خاوية على عروشها مدمرة كئيبة لا يسكن أطلالها بشر ولا يجرؤ على مجاورتها إنس، لكن موقعها المتميز بين شمال المغرب وجنوبه كان دافعا قويا للسلطان من أجل إعمارها، لذا أمر حاشيته بإعادة بنائها ناقلا إليها جالية من أهل حاحا التي عززت جيش البخاريين بقصد حراستها وفتح باب الهجرة إليها…
وكان أول من هاجر إليها طائفة من الشاوية وأغلبهم من قبيلة مديونة واولاد حدو والهراويين الرواجع والمعارف واولاد المجاطية واولاد مومن وغيرهم ودكالة، وانضاف إلى أهل البادية والقبائل المجاورة أهل المدن والحضر، وأغلبهم جاء من مدينة فاس ومنهم على سبيل المثال، حسب ما أورده هاشم المعروفي في كتابه «عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور» «، عائلة بن جلون التويميين ومنهم الإخوة الحاج عبد الواحد والسيد محمد والسيد عبد الرحمن أبناء لحسن بنجلون التويمي وأبناء عمهم السيد هاشم وعائلة بنكيران، نخص بالذكر منهم الإخوة السيد الحاج عبد الكريم والحاج عبد المجيد والسيد العربي والسيد احمد والسيد الفاتحي أبناء الطيب بنكيران وأبناء عمهم…».
بالإضافة إلى هؤلاء حلت بالبيضاء وهي في فورة إعادة بنائها وتعميرها عائلة بن احود وعائلة بنيس وعائلة برادة وعائلة أبو زكري وعائلة بن زاكور و الشرفاء العلميون ثم الشرفاء اليعقوبيون والشرفاء الطاهريون، ومن أهل الرباط عائلة المستاري وعائلة ولد الضاكة وعائلة الزيادي وعائلة امبيركو، إضافة إلى أهل سلا ومنهم عائلة بوشنتوف وعائلة كلزيم، ومن أهل تطوان عائلة افتيح وعائلة عكور وعائلة بريشة وعائلة اللبادي وعائلة ابن المفتي وكانوا كلهم يتعاطون التجارة.
ومن غيرهم عائلة الصنهاجي وعائلة بن مسيك وعائلة بن حمان وعائلة الأخيري وعائلة بن العيساوي من أولاد حدو و الهراويين كثير …
لقد حمل هؤلاء المهاجرون معهم في ما حملوه طباعهم الخاصة وثقافاتهم وما جبلوا عليه من سلوك وشيم وخصال، ولكنهم خلال استقرارهم بالبيضاء لم يتقوقعوا على أنفسهم ولا خلقوا «كومبوندات» خاصة بهم أحاطوها بالأسوار والأسلاك الشائكة بل تجاوروا وتساكنوا وتصاهروا وامتزجوا مع بعضهم البعض فتخلق كل عنصر بطبيعة جاره وعم بينهم خلق الجد والصفاء والوفاء والصدق وكرم الضيافة وحب من هاجر إليهم وإيثارهم على أنفسهم واختلطت عناصرهم في بوتقة واحدة جمعت كل ما يميز طباعهم وسلوكهم…
من هؤلاء خرج منهم جيل طيب لهم ماض جميل يحسدون عليه ويحق الافتخار به وهو ماض أظهر أحد أبنائهم النجباء احمد زياد حنينه إليه في كتابه حول تاريخ الحركة الفكرية بالمغرب، والذي قال في هذا الصدد: «وإذا قيل فيما يمكن أن يقال في هذا الكتاب إني أحن إلى ماض مضى وانقضى فإني أعلن إصراري على التمسك بهذا الحنين وبهذا الماضي، إلى أن يظهر في هذا العصر الحاضر الذي نعيشه ما يمكن أن ينسيني محاسن ذلك الماضي بكل ما يحيط بجيده من لآلئ المروءة والصفاء والوفاء، ومن القدرة على الخلق والابتكار، ومن نفس طويل كان وسيظل مضرب الأمثال في بلدنا إلى أن يجد ما يكون قادرا على نسخه بأحسن منه …».
لقد تجلى ما قاله أحمد زياد بالفعل في ما عرف عن أهل الدار البيضاء قديما من خصال حميدة وشيم تليدة من خلال مثالين يوردهما «كتاب عبير الزهور» ، فضيلتان تتجلى الأولى في طبيعة كرمهم وجودهم على طائفتين من الناس أولاهما العدول المنتصبون لتلقي الشهادات وتحرير الرسوم حتى قيل إن العدل بالدار البيضاء أحسن حالا من القاضي في بلد آخر ماديا، فقد كان أهل البيضاء يغدقون عليهم من كرمهم وكانوا يمنحونهم أجورا خيالية عند تحريرهم رسوم الأملاك من بيع وهبة وشراء وصدقة وحبس ووصايا وتركات وإراثات…
أما الطائفة الثانية فكانت العلماء الذين كانوا يردون عليهم بقصد تدريس وتعليم أبنائهم فقد كانوا يتكفلون لهم بالإنفاق عليهم وعلى عائلاتهم وإسكانهم، والأمثلة على ذلك كثيرة منها أن الفقيه العلامة السيد علي بن منصور الدكالي ورد عليهم فأحسنوا إليه وأنفقوا عليه وعلى عائلته وقاموا بإسكانه مدة مقامه إلى أن توفي ودفن بضريح أبي الليوث، ثم عندما جاء إليهم الفقيه العلامة السيد محمد بن عمر دنيا الرباطي ففرضوا له من أموالهم راتبا شهريا وأسكنوه هو وعائلته إلى أن توفي بالدار البيضاء ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه بالرباط، ثم قدم إليهم الفقيه العلامة السيد محمد بن عبد القادر الحريزي فأحسنوا إليه بالإنفاق وقد تصدى له أحد أعيان الدار البيضاء، وهو الحاج محمد بن جدية الذي ينسب إليه الدرب الشهير فزوجه ابنته ومنحه دارا للسكنى وبقي إلى أن توفي بالدار البيضاء، كما تباروا في الإحسان إلى العلامة سيدي محمد الزوين هو وعائلته ومنحه أحد الأعيان بالمدينة وهو السيد احمد بن عبد السلام التليدي البيضاوي دارا من الدور الكبار ثم أعطاه أحد تلامذته قطعة أرضية نحو أربعمائة متر فبناها بإعانة المسلمين وبقي فيها إلى أن توفي، ثم جاءهم الفقيه العلامة السيد عبد الرحمن بن محمد النتيفي فاحتفوا به وأثرى من فتوحاتهم فاشترى دارا بحي لفرينة بالمدينة العتيقة، وبنى بها مسجدا للصلاة والدراسة وبنى فوقه دارا فسيحة ثم انتقل إلى المدينة الجديدة واشترى بدرب «كرلوطي» قطعة أرض بنى بها مسجدا للصلاة والدراسة وبإزائه مطحنة وبنى فوقهما دارا ذات طابقين…
أما الفضيلة الثانية فقد كانت شجاعتهم التي تتجلى في وطنيتهم وكفاحهم ومقاومتهم للمستعمر وقدرتهم على الخلق والابتكار فبتاريخ 17 ذو القعدة 1348 الموافق 16 ماي 1930 صدر الظهير البربري الذي أعده الاستعمار للتفرقة بين عناصر الأمة المغربية والقضاء على وحدتها لكن المغاربة لم يستكينوا أو يقبلوا ما جاء فيه بل قام المغرب من أقصاه إلى أقصاه بالاستنكار والتظاهر في المساجد بقراءة اللطيف وصدر الأمر بمحاكمة المتظاهرين، وإثر صلاة العصر بمسجد جامع السوق تظاهر المصلون بتلاوة اللطيف احتجاجا واستنكارا على هذا الظهير المشؤوم فسيق المصلون كلهم وجلهم من أعيان الدار البيضاء إلى المحكمة قصد محاكمتهم فكان الباشا السيد الطيب المقري مترئسا للجلسة مع المراقب المدني، وكان دفاعا عن الناس، يسأل كل واحد على حدة هل شارك في المظاهرة باللطيف فإذا أنكر أطلق سراحه وإن اعترف حكم عليه بثمانية أيام سجنا، واعترف جل المحاكمين بمشاركتهم في تلك المظاهرات المناهضة للظهير البربري فحكم بثمانية أيام سجنا…