ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
مختبر كبير للمعمار، هذا ما وقع بالدار لبيضاء إبان الحماية، فقد تسابق المهندسون لإظهار مهاراتهم وفنهم، ومنافسة بعضهم البعض وهم يضعون تصاميم العمارات والفيلات والمجسمات التي أثثت الشوارع الحديثة لهذه المدينة الحيوية التي لم تفقد وهجها على مر السنوات، رغم مشاكلها وصعوبات العيش بها، ورغم حداثتها بالمقارنة مع باقي مدن المغرب العتيقة، جنباتها تكاد تنطق معلنة عن كنوز معمارية قل مثيلها، كنوز تسترعي انتباه العارفين وتأسر أنظار المارين سياحا أو وافدين إليها من مختلف البقاع، بخلاف ساكنتها التي لا تلقي بالا إلى ما يحيط بهم من لوحات معمارية راقية، ورغم أن العديد من هذه الكنوز المعمارية أصبح في حاجة إلى الترميم و إعادة الاعتبار إليه إلا أنه لا يزال يشغل المهتمين والمهندسين وكذا الجمعيات المختصة بالتاريخ المعماري للمدينة وذاكرتها التي تأبي التواري وراء ستار النسيان والإهمال، بل تقف شامخة متحدية كل من يقول عن الدار البيضاء إنها مدينة الإسمنت فقط بدون أي جمالية أو ذوق معماري رفيع، معالم مثل بنك المغرب أو ساحة محمد الخامس أو حديقة الجامعة العربية أو قنصلية فرنسا أو ولاية الدار البيضاء أو قبة زيفاكو أو مبنى كنيسة القلب المقدس أو العمارات بشارع محمد الخامس أو مبنى لينكولن الذي يوجد الآن في طور الترميم بعد سنوات من الإهمال عرضته لشتى أنواع الاختلالات والإفساد والسطو على جنباته وغرفه من طرف المشردين واللصوص،و الزمن، بل حتى المسلخ البلدي القديم أو غيره، كلها معالم تجمع فنون المعمار التي تسابق المهندسون في القرن العشرين على إبرازها للعيان مازجين بين فن الآرت ديكو والأسلوب المغربي الجديد «نيو موريسك».
إن التراث المعماري بالدار البيضاء لا يمكن وصفه إلا بالتجانس والتناسق، ورغم ما تعرفه العاصمة الاقتصادية من تغييرات في جميع المجالات والاتجاهات خصوصا في المجال المعماري ببروز بنايات تفتقد للجمالية وانتشار مظاهر ترييف داخل المدينة أو في جنباتها القريبة، إلا أن هذا المعمار عرف أوجه في فتره الأربعينيات بشكل خاص وفي عهد الحماية بشكل عام، و إلى حد اليوم فإن هذا التراث المعماري المنتشر وسط المدينة لا يزال يستأثر باهتمام المختصين الذين يسعون بكل جهد للحفاظ عليه من الاندثار ومن عوامل الزمن وبالخصوص من يد الإنسان التي تطاولت على الكثير منه ودمرته بكل برودة دون تفكير في ما يزخر به من حمولة تاريخية وثقافية لا يمكن تعويضها إن اندثرت، كما حدث للمسرح البلدي دمر سنة 1984 على سبيل المثال لا الحصر.
لا تنفك الدار البيضاء عن بعث إشعاعها وجلب الأنظار إليها فهي لا تقبل العيش في الظل، هي المدينة المتوجهة دائما منذ القديم اجتذبت حتى السينمائيين وما فيلم كازابلانكا الذائع الصيت الذي أخرجه الأمريكي مايكل كورتيز سنه 1942 ولعب أدوار البطولة فيه كل من انغريد بيرغمان وهمفري بوجارت إلا خير دليل على ذلك حيث حقق نجاحا باهرا وانتشر معه اسم الدار البيضاء CASABLANCA في جميع أنحاء العالم، فيلم اشتهر به بار البيانو الذي يوجد بمطعم ريكس بكورنيش عين الذئاب.
وكما أشرنا فقد كانت الدار البيضاء مختبرا للحداثة والمعمار بالمغرب فقد استقبلت خلال فتره الحماية أشهر المهندسين المعماريين الذين تنافسوا لإبراز مهاراتهم وإتقانهم لعملهم موظفين مختلف الأشكال الهندسية المعمارية، ومستعملين أحدث العلوم والتقنيات المتوفرة آنذاك، ولقد كان أول المهندسين الذين جلبهم ليوطي المقيم العام الفرنسي إلى البيضاء للقضاء على فوضى التعمير التي سادت في بداية الحماية كان المهندس المعماري بورست الذي خطط لفصل المدينة الأوروبية عن المدينة الإسلامية المغربية، ثم المهندس كوشنار الذي كان له توجه مخالف لسابقه، كما كان من بين المهندسين ماريوس بوير وادريان لافورك و غيرهم كثير، وانصب الاهتمام على بناء الجسور والطرق والمستشفيات والأحياء …
لا يمكن إنكار أن الاستعمار الفرنسي كان هو المحرك الأساسي للتغييرات الجذرية التي عرفتها الدار البيضاء فقد تحولت في ظرف قياسي من مدينة قديمة عتيقة تعيش وسط أسوارها إلى مدينه شاسعة حديثة ممتدة خارج الأسوار فاتحة المجال لأنماط معمارية كانت شائعة في أوروبا مثل الارت ديكو والنيوكلاسيكية لتضع بصماتها على واجهات المباني البيضاوية وتطبعها بطابعها المتميز.
لقد وضع مجموعه من الغيورين على تراث المدينة المعماري لائحة تضم أكثر من 4000 مبنى في حاجه ماسة إلى العناية والحماية والاهتمام بل طالبوا بإدراج الدار البيضاء والاعتراف بها كموقع للتراث العالمي، وذلك حفاظا عليها من الاندثار وصيانة لها من السقوط في غياهب النسيان حتى تبقى صامدة مصانة للأجيال القادمة، والكثير من هذه المباني توجد وسط المدينة انطلاقا من الحي الإداري حيث توجد المحكمة الابتدائية والولاية والبريد والتي توجد وسطها ساحة الحمام كما يلقبها البيضاويون غير بعيد عن المسرح الذي أنشئ حديثا و لم يفتتح بعد، وستسجل وزاره الثقافة حتى الآن 483 مبنى على لائحة الآثار الوطنية وهو أمر يفرض على ملاكها عند تنفيذ أي أشغال عدم المساس بالواجهات الأصلية وينتظر تسجيل ما لايقل عن مئة مبنى آخر.
وبشارع محمد الخامس حيث تبرز بشكل أكبر أساليب المعمار الموري الجديد المتأثر بنقوش مشرقية وبالفن الجديد الأوروبي تتم إعادة بناء فندق لينكولن الذي شيد سنة1917 ، لقد تم تحويل الكثير من الفيلات والمباني إلى متاحف وصالات عرض، ويوجد بشارع المنتزه المركزي متحف يعود تاريخه إلى أربعينيات القرن الماضي كان عبارة عن فيلا تم تحويلها لعرض المجموعة الخاصة برجل الأعمال عبد الرحمن السلاوي الذي كان يهوى اقتناء وجمع القطع الفنية،ويحمل المتحف اسم مؤسسه عبد الرحمن السلاوي ويعرض به كل ما جمعه خلال رحلاته في المغرب من زجاج بوهيمي إلى مجوهرات تقليدية.
إن الدار البيضاء، كما سبق القول، متحف كبير مفتوح على السماء يحتضن كنوز هندسية معمارية يبرز فيها بشكل واضح وجميل فن ممزوج بالطابع المغربي الجديد ، ويبرز هذا الفن أو هذا المعمار بشكل واضح في شارع محمد الخامس شارع المحطة سابقا الذي يبلغ طوله 3 كلم ويظهر على واجهه العمارات والمباني التي تطل على البيضاويين، بتجسيدات صغار الملائكة وعناقيد العنب ورؤوس الأسود والمنحوتات المختلفة.
في الجهة المقابلة للسوق المركزي هذه التحفة المعمارية المشهورة بمطاعمها ودكاكينها وورودها وبائعي أسماكها هناك مبنى بسينو الرمزي والذي يتم تجديده حاليا والمعروف بفندق لينكولن الذي بناه المهندس المعماري روبرت برايد سنة 1917 والذي تم تصنيفه تراثا عالميا لمده لمدة 22 سنة ، و بالقرب من ساحة محمد الخامس تقع حديقة الجامعة العربية، والتي تعتبر واحدة من أكثر المساحات الخضراء شعبية في الدار البيضاء، وعلى مقربة منها كنيسة القلب المقدس، والتي كانت معبدا كاثوليكيا تحول إلى موقع ثقافي، وبعيدا في اتجاه الحي المحمدي وقرب محطة القطار المسافرين، توجد المجازر القديمة التي بنيت سنة 1922 بزنقة جعفر البرمكي من قبل المهندس جورج ارنيست ديزماgeorges Ernest Desmarest و Albert greslin ، وبنيت هذه المجازر لتحل محل تلك التي بنيت سنه 1908 في مكان ساحة الأمم المتحدة، كان عدد السكان المدينة يبلغ حينها 100,000 نسمة وسعة المشروع كانت تشهد على استشراف توسعها المستقبلي تبعا للمخطط التعميري الحضري لبروست ، وكذا على القواعد الصحية لتلك الفترة، تقع المجازر على مساحة 6 هكتارات بساحات حقيقية وأزقة تربط بين مختلف البنايات، وفي الهامش هناك محلات إدارية ومساكن عبارة عن مجموعات محاطة بالحدائق وفي الوسط في الزقاق الرئيسي المتمحور حول المدخل الرئيسي هناك الإسطبلات وبنايات الذبح المتصلة مباشره بالسوق في أسلوب معماري عبارة عن مزج رائع بين الارت ديكو والأسلوب الموريسكي الجديد، في سنه 2008 قررت البلدية تحويل هذه البناية إلى فضاء ثقافي تدبره مجموعة من الجمعيات.
قبة زيفاكو“Coupole Zevaco، لا يعرفها البيضاويون بهذا الاسم، هي الكرة الأرضية وفقط، استأثرت بإعجابهم وكانت موعدا للقاءاتهم ومزارا إجباريا لكل من يزور» لمدينة» في السنوات الأولى لبنائها، ومناسبة لالتقاط الصور بممرها تحت الأرضي الذي تحفه أكشاك صغيرة تعرض فيها التذكارات والبطائق البريدية، وكم من بيضاوي لا يزال يحتفظ بصوره هناك تذكره بسنوات مجد الكرة الأرضية الحديدية قبل أن تغزوها جحافل الباعة المتجولين المغاربة ومن إفريقيا جنوب الصحراء، وتكسوها مظاهر مخزية أدت إلى إغلاقها سنوات عديدة قبل أن يعاد افتتاحها مرممة على أمل أن تحافظ على نظافتها وجمالها رغم أن ترميم ممرها تحت ارضي لم يرق إلى ما كان عليه سابقا من توهج وجمال .
قبة زيفاكو، التي يعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1975، وكانت من تصميم المهندس المعماري جان فرنسوا زيفاكو ، توجد في قلب ساحة الأمم المتحدة، بين باب مراكش وشارع محمد الخامس مجاورة لفندق حياة ريجنسي ذي المعمار الحديث وسور باب المدينة القديمة البني مما أضفي عليها جمالية خاصة وتناسبا للألوان المحيطة بها المتدرجة بين الأبيض المميز لعمارات الدار البيضاء واللون البني المميز للمباني الأثرية ولونها الأحمر الذي يميل إلى البرتقالي ويتغير مع ساعات النهار المختلفة ومع الإضاءة الليلية مجسدة بذلك اندماجا وتناغما مع التأثيرات المحيطة بها.
لم تتوان هذه المعلمة الفريدة عن جذب الأنظار بل إنها أصبحت رمزا للمدينة تزين البطاقات البريدية والمجلات وتكون في كثير من الأحيان خلفية لأي تظاهرة تحتضنها الدار البيضاء، لما تميزت به من هندسة معمارية راقية. هذه القبة البيضاوية الشكل لم تسلم من الإهمال واللامبالاة رغم صمودها سنوات عديدة في وجه تأثيرات الزمن، مقاومة كل العوامل التي كانت ستجرها لا محالة إلى ما وصلت إليه إلى من تردي مخجل وغير مفهوم وتحولها إلى نقطة سوداء في قلب المدينة الحديثة إلى أن أقفلت نهائيا لسنوات عديدة ثم يعاد افتتاحها بعد سنوات خمس من الترميم والأشغال، التي أنجزتها كل من شركة الدار البيضاء للتراث وشركة الدار البيضاء للتهيئة بكلفة بلغت 25 مليون درهم، ورغم أن هناك تغييرات على مستوى البعد الأخضر بإنشاء حديقة صغيرة وغرس النباتات في الجنبات المفتوحة على السماء ، والتي تتصل بالممر تحت أرضي مع الاهتمام بالجانب البيئي وإقامة مرافق صحية خاصة بالمارين والزائرين إلا أن الملاحظ أن الأكشاك التي تم زرعها في جنبات الممر لا تزال مغلقة مع أرضية إسمنتية لا نعلم لماذا لم يتم التفكير بكسوها بما يلزم من مربعات رخامية أو غيرها عوض تركها رمادية اللون تعطي الانطباع أنها متسخة لا جمالية فيها !
ورغم ذلك تبقى قبة زيفاكو رمزا تاريخيا للمدينة المليونية ذات بعد ثقافي وتاريخي ومعلمة بصرية يفتخر بها سكان الدار البيضاء متمنين أن تبقى دائما في قمة جمالها ورونقها وألا تتعرض مرة أخرى للنسيان والإهمال .