الداهي في «متعة الإخفاق، المشروع التخيلي لعبد الله العروي» 1/2

«ضياع نوبل، ضياع الهالة عند العرب»

 

يرى محمد الداهي أن العرب –رغم تداركهم ما فاتهم نسبيا بعد أن طوعوا الأشكال التعبيرية وأبدعوا فيها- في أمس الحاجة إلى الاهتداء بروح الأعمال الفكرية لعبد الله العروي، التي يدعو من خلالها إلى التحلي بالوعي النقدي، وتجاوز مستمر للوعي التلقائي للذات، والبحث عن السبل الجديرة بالمساهمة في العقل الكوني، واللحاق بالغرب، والدخول في حوار حقيقي بالتموضع في نطاق أرضية واحدة ومشتركة.
“متعة الإخفاق، المشروع التخيلي لعبد الله العروي” كتاب صدر حديثا للكاتب والناقد محمد الداهي، عن دار النشر المركز الثقافي للكتاب في الطبعة الأولى لسنة 2022، يقع في 396 صفحة، ويضم مقدمة عامة وأحد عشر فصلا. يذكر محمد الداهي في مقدمة الكتاب أن عبد الله العروي جمع بين التفكير التاريخاني والإبداع الروائي، حيث أسعفه تكوينه التاريخاني على رصد الإنسانية بصيغة الجمع، ومواكبة التحولات العميقة التي تغير مجرى التاريخ، واستلهام العبر من التجارب الكونية، لعلها تؤهل العرب إلى تدارك تأخرهم التاريخي، وبالمقابل، أسعفته الرواية على تمثيل عوائق التحديث على مستوى تربية الفرد وسلوكه ونفسيته، واستجلاء ما تضمره طويته من إحباطات ورواسب.

أبدى محمد الداهي رأيه حول التجربة الروائية لعبد الله العروي الغنية بموادها التخييلية، وعده واحدا ممن أسهموا في بلورة ملامح الرواية المغربية، وتجديد شكلها وطريقة تعاملها مع الواقع، كما استعرض أبرز السمات العامة التي تميز مسيرته التخييلية، نوردها كما يلي:
مساءلة الواقع من خلال إعادة تمثيله بطرائق سردية مختلفة، سعيا إلى فهم عوائق التحديث من خلال سلوك الفرد وتربيته، حيث يسبر أغوار الذات (سواء أجماعية كانت أم فردية) لالتقاط ما يجول في خواطرها، وما تستضمره من أحلام هاربة وتطلعات محبطة.
التنويع السردي الذي يتجلى في اختيار شكل سردي لكل عمل من أعماله يتناسب وطبيعة الأحداث المعروضة، مما جعل أعماله لا تسير على المنوال نفسه، ولا تنصاع للمعايير ذاتها، حيث اعتمد السيرة الذهنية والتخييل الذاتي واليوميات والمذكرات والخيال العلمي واللغز البوليسي.
الواقعية اللغوية التي تسهم في بناء عوالم تخييلية يطبعها التعدد والتداخل والتهجين والمحاكاة الساخرة، وتعيد النظر في وهم التماثل القائم بين النص والواقع
الميتاتخييل عندما يستثمر عبد الله العروي النقد بمختلف تجلياته وأشكاله –لمساءلة اللغة الآمرة والإيديولوجيا المهيمنة- ينثر آثاره ومواقفه بتفاوت في خطابات شخصيات بعينها، كما لو كانت تنوب عنه في أدوار محددة، ويتمثل ذاته لمساءلة القضايا المطروحة وتعليلها.
يعتبر محمد الداهي أن الإخفاق هو الموضوع الرئيس الذي استأثر باهتمام عبد الله العروي، وتمثله في كل عمل من أعماله التخييلية من زاوية معينة، عبر مجموعة من العوائق، تطرق في كل عمل إلى عائق معين، متوسعا فيه، ومبينا انعكاساته السلبية على نمو المجتمع وتقدمه، وتحوم هذه العوائق إجمالا حول تربية الفرد ونفسانيته، وضعف تأطيره اجتماعيا، وعلاقته مع الآخر المختلف والمتفوق.
يدور هذا المشروع النقدي -الذي يعد حلقة ضمن سلسلة من الأعمال النقدية التي قارب بها محمد الداهي المنجز التخييلي لعبد الله العروي- حول جملة من القضايا التي تستأثر باهتمام عبد الله العروي الروائي، وطريقته في تمثيل القضايا التي تؤرق الإنسان، وتؤثر سلبا في تنمية مجتمعه وتقدمه، وشكل حضور الكاتب وانطباع مؤشراته التلفظية في السرد (بطريقة صريحة أو متوارية)، وموقفه من “أشكال التعبير” المستعارة من الغرب، والتي يدعو عبد الله العروي إلى تطويعها حتى تعكس الأغراض والتطلعات المحلية، والتخلص من التبعية الثقافية والتحلي بالوعي النقدي، وتجاوز الوعي التلقائي بالذات، يقول محمد الداهي في هذا الصدد: “مافتئ العرب يستعيرون الأشكال الغربية، ويصبون فيها المحتويات التي تناسب ذهنيتهم وظروفهم، وإن طوعوها وكيفوها لخدمة أغراضهم الثقافية، مازالت تحمل في طياتها، مواد موروثة عن ظروف نشأتها” (الصفحة 21 من الكتاب).
جاء الفصل الأول تحت عنوان: “ومن الإيمان ما قتل”، تناول فيه محمد الداهي مؤلَّف “أوراق” الذي لم يسم رواية أو سيرة ذاتية، بل أدرجه عبد الله العروي ضمن خانة السيرة الذهنية، حرصا منه على تجريب شكل جديد ضمن تجربته الروائية، فهو يمارس التجريب في كل تجربة تخييلية على حدة، بوعي وتبصر.
يمكن للقارئ أن يجاري المؤلِّف في تجنيس الكتاب، أو يخالفه باعتماد مداخل أخرى لقراءته وتحليله، فكل قراءة تنطلق من مؤشرات لصوغ الفرضيات والاهتداء بها، قصد الوصول إلى نتائج مرضية، ومن جانبه ساير محمد الداهي المؤلِّف في اختياراته بعدما تأكد من سدادها وملاءمتها، متوغلا في قراءة عمله، ومستأنسا بالمعارف العالمة والاستطرادات، وباللغة النقدية الواصفة، وبالميتانص (نص على نص)، وبالحجج والحجج المضادة، التي قد لا يتحملها بعض القراء.
اهتم الفصل الثاني المعنون ب: “استلهام التراث” بالبحث في طبيعة العلاقة التي تربط مؤلف “أوراق” بالتراث، وبيان الأفق الذي تفتحه علاقته به، فقد جرب عبد الله العروي في “أوراق” تقنية تراثية تقوم على عرض المتن، ثم الانهيال عليه بالنقد والتعليق، فالعنوان يحيل إلى مرجع نصي تراثي، وهو “كتاب الأوراق” لأبي بكر بن يحيى الصولي.
أجلى محمد الداهي الكيفية التي تمت بها هذه العلاقة بين العمل التخييلي والتراث، على أساس إنتاج شكل ورؤية جديدين، حيث تفاعل مع التراث بغرض تخصيب الخيال، وتوليد أشكال التعبير وتنويعها، وتجريب العينات والعناصر التراثية في حلل جديدة، تعين على إنتاج رواية منسجمة مع طبيعة الواقع العربي الحالي وآفاقه الواعدة، ومتطلعة إلى تمثيل عقده التاريخية وأعطابه وانكساراته، حيث يُشترط في التعامل مع التراث ليكون منتجا أن “يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع واقعه، أي الواقع الذاتي الذي لا يزال “يتفاعل” مع التراث باعتباره امتدادا ثقافيا وروحيا، ومع الواقع العام، أي العصر الذي تنتج فيه متفاعلات نصية جديدة ومستمرة” (الصفحة 68).
يتناول الفصل الثالث الذي حمل عنوان: «المرايا التي تعكس الوجه الآخر للأشياء» رواية «الفريق»، لتسليط الضوء على ما تحفل به المحكيات المؤطرة من تكسير سطرية الأحداث المتعاقبة، وتقويض الشكل الروائي التقليدي، لإحلال شكل جديد محله، حيث تكسر هذه الرواية الخطية المنطقية للسرد، وتحدث فيها اختلالات تركيبية، وتعيد تأثيث السرد وفق تركيب جديد، تتخلله الفرجات والتقطعات التي تخيب تنظر القارئ العادي بإرهاق قدراته على التحمل والتذكر.
رواية «الآفة» هي موضوع الفصل الرابع المعنون ب: «الاندفاع الأعمى إلى المجهول»، حيث يمارس عبد الله العروي من خلالها التجريب الذي وسم أعماله التخييلية كلها، مثلما يبرهن على ذلك محمد الداهي في هذا المنجز النقدي، فإن عبد الله العروي يُقْدِم في كل عمل على تجريب تقنية تخييلية جديدة لإعادة تشخيص الواقع من منظورات وزوايا مغايرة، والالتباس في ظلال مختلفة، حرصا على فهم الذات والوجود، باتخاذ المسافة اللازمة حيالهما، كما أنه لا يمارس التجريب من أجل التجريب، بل يستخدمه للإسهام في تطوير الرواية المغربية وإنضاجها، وممارسة نقد مسبق على الشكل بهدف تطويعه حتى يكون صدى للهموم الذاتية والجماعية، ويسعف في تحقيق المطابقة بين البنيتين الروائية والاجتماعية.
تندرج «الآفة» ضمن روايات الخيال العلمي الذي ينهل مواده الأساسية من المعارف العلمية والتكنولوجية والإثنية، مسندا إليها وظائف جديدة، يتعذر أن يوجد ما يماثلها في الواقع، ويعتبر محمد الداهي الخيال العلمي جنسا تركيبيا يتفاعل إيجابا مع أجناس قريبة، يستعير من محكيات الأسفار الخيالية عنصرين، هما: الإمكانيات اللامحدودة للتمثيل والغرابة، ويتمتع الروائي بحرية أكثر لتخيل وقائع واكتشافات علمية، وتجسير العوالم المتباعدة والمتنابذة، والإرهاص بنتائج مفترضة، وفي مقابل ندرة روايات الخيال العلمي، نلمس قلة النقد المصاحب لها.
يعزو محمد الداهي أسباب ندرة هذا الصنف من الروايات في العالم العربي، إلى عدم إسهام العرب في الابتكارات العلمية، وصحوة الفكر السلفي، وتباطؤ نحت المصطلحات العلمية وتوطينها، ويشير إلى أن ما يسترعي الانتباه في التجربة الروائية لعبد الله العروي، هو تواتر حساسية الإخفاق في تجليات وصور مختلفة، وتتجسد في رواية «الآفة» من خلال تعثر البرامج العلمية، وإيثار الاندفاع والتهور على الرصانة والتأني، ورسوخ الفوضى والعنف في نفسية السواد الأعظم من الناس.
انطلاقا من الأفكار المصاغة سلفا، يخلص محمد الداهي إلى أن «الإخفاق في الروايتين «الفريق» و»الآفة» يتطلب استئصال الآفات والقلاقل التي تؤثر سلبا في حياة البشر، وتترك آثارا وخيمة في تكوينهم النفسي، وتصدهم عن الاستفادة من المكاسب العلمية والتربوية البناءة» (الصفحة 137).
ينتقل بنا النقد في الفصل الخامس الذي حمل عنوان: «ما وراء لغز ذات الاسمين»، إلى نوع آخر من الأدب، من خلال رواية «غيلة» وهو الأدب البوليسي، الذي كان إلى حد قريب مهمشا ومقصيا ومبعدا من اهتمامات المؤسسة الأدبية، ويرى محمد الداهي أن هذا الجنس يستحق أن يُعنى ويهتم به بالنظر إلى بنائه المحكم والقائم على أركان وقواعد محددة من جهة، وإلى تعدد أنواعه وعوالمه التخييلية (الرواية الملغزة، والرواية السوداء، ورواية التشويق، ورواية المغامرة، ورواية الرعب)، فهو يراهن على إعادة التوازن إلى حدث تعرض إلى الاختلال والاضطراب بمعاقبة المجرم، وإعادة الاعتبار الرمزي إلى الضحية، ثم إحلال النظام والعدل محل التسيب والظلم.


الكاتب : مريم الجنيوي

  

بتاريخ : 12/11/2022