الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ -11- I – العلاقات المغربية بدول أمريكا الجنوبية (البرازيل وفنزويلا والمكسيك والأرجنتين)

يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.

 

يتضمن هذا الكتاب دراسة كرونولوجيا العلاقات المغربية بدول البرازيل وفنزويلا والمكسيك والأرجنتين خلال القرن التاسع عشرومطلع القرن العشرين، ويعمل في الصدد ذاته على توثيق العلاقات الدبلوماسية بين المملكة المغربية ودول أمريكا الجنوبية، كما يخصص محورا لدراسة مضامين محفظة 62 من وثائق الطريس بالمكتبة الوطنية بتطوان. ووفق هذا التصور يعكف الكتاب على رصد إرهاصات وتطورات وامتدادات هذه العلاقات ورسم طبيعة العلاقات الدبلوماسية التي نسجها المغرب مع دول أمريكا الجنوبية.
1. المسار الدبلوماسي للعلاقات المغربية البرازيلية
أكد المغرب منذ القدم أنه بلد بنى سياسات دوله التاريخية على الانفتاح الخارجي وعدم الانطواء على الذات، فلم يقف عند الاتصال بدول العالم القديم وإنما شارك في استكشاف العالم الجديد. وساهم في صناعة تاريخ حوض الأمازون على سبيل المثال لا الحصر خلال القرن الثامن عشر، إذ تم نقل مدينة مازغان المغربية سنة 1769 إلى غراو- بارا Grao-Para شمال البرازيل فأنشئت على غرارها مدينة مازغان الجديدة. ومن ثم استمر المد والجزر بين المغرب ودولة البرازيل قبيل استقلالها سنة 1822، ولتدشن العلاقات الرسمية بين المغرب والبرازيل سنة 1861 حيث تتضمن الوثيقة 13/62 إخبار جوزي دانييل كولاصو بتغيير حاكم دولة البرازيل، ويطلب من النائب السلطاني إطلاع الحضرة الشريفة بذلك ، ويلتمس الرد على ذلك مباشرة من السلطان حتى يخبر بذلك الرئيس الجديد. والرسالة هي:
” الحمد لله وحده …محبنا المحترم الأبر السيد الحاج محمد بن العربي طريس الوزير بطنجة لدى الحضرة الشريفة أيدها لله لا زال السؤال عنك ونطلب لله أن تكون بخير و عافية فكما ليس بخاف عنك منذ العام 1861 و قد مضت تسع و عشرون سنة منذه فقد عرفت جعل كلامي مسموعا من إيالة دولة برصل بنعتي نائبها في هذه الإيالة السعيدة وبواسطة المشهور سالفك الوزير الأبر السيد محمد برقش فقد بلغتني براة (الرسالة) تعريفي من المقام العالي بالله الأمير سيدي محمد تغمده لله برحمته العالي والد سلطانكم الوقتي أيده لله…”. وفي هذا الصدد تؤكد الوثيقة 12/62 ما سبق الإشارة إليه:
”يذكر جوزي دانييل كولاصو باعتباره نائبا عن دولة البرازيل بالمغرب أن التاجر ابراهيم بن موسى السرفاتي يستفيد من الضريبة المهنية الحاصل عليها من موثق المفوضية البرازيلية منذ تسع سنين من قبل وفق اتفاقية مدريد، ولذلك يطلب من النائب السلطاني ملتمس رفع هذا المنع في حق السمسار المشار إليه أعلاه. (1889)”.
وفي إطار تبادل المستجدات التي تهم الحقل الدبلوماسي، وجه القنصل البرازيلي جوزي دانييل كولاصو رسالة إلى محمد بن العربي الطريس بتاريخ 15 يناير 1890 يقدم له فيها صورة الطابع الجديد المعتمد في دولة البرازيل،” فليكن كريم علمك أنني ممتثلا بأمر قد كلفني بالوفاء به حكم دالإيالة البرصل جئت أقدم لك بطيه منوال صورة الطبع المصورة فيها السنجقة في الجديدة المستعملة في تلك الإيالة”.( الوثيقة 14/62). كما يتم الإخبار بتعيينات القناصلة الجدد الذين يمثلون الدولة البرازيلية بالمدن المغربية، مثل تعيين ريو فرانسيسكوداوجو في 4 صفر 1308هـ / 19 شتنبر 1890م، قنصلا للبرتغال والبرازيل بالرباط وقد خلفه يعقوب رفائيل بن عطار قنصلا للبرازيل بالرباط وآلت النيابة إليه سنة 1893. (الوثيقة 19/62).وعموما فقد كان يمثل البرازيل بالرباط أبناء عطار ثم داوجو وكان أبناء عطار متعاقبين على تمثيل البرزيل (أبو شعراء مصطفى، الاستيطان والحماية بالمغرب، الجزء2 ،.ص.800). وفي رسالة من جوزي دانييل كولاصو إلى عامل الصويرة يخبره بتولية جوزي راطو الخليفة عن دولة البرازيل بالصويرة. (الوثيقة 36/ 62). وقد تولى يوسف راطو الطارقي السلك القنصلي للبرازيل منذ 1893 وكان حتى سنة 1900، لا يزال كذلك. (أبو شعراء مصطفى، الاستيطان والحماية بالمغرب، الجزء3 ، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 408/1988.ص.1104). وفي رسالة جوزي دانييل كولاصو إلى النائب السلطاني الحاج محمد بن العربي الطريس ينهي إلى علمه تعيين السيد هيمي ليول ممثلا لدولة البرازيل بالجديدة (الوثيقة 41/ 62). وخلافا لما يقوله أبو شعراء مصطفى في: الاستيطان والحماية ج 3، ص.1017 ما يلي: ” لم أقف إلا على اسم شخص واحد كان يمثل هاته الدولة وهو بيطر نيطو حسب ما جاء في القائمة المحلية العامة سنة 1886. ويبدو أنه كان ينوب عنها قبل ذلك وبعده”.
أما عن الأخبار الرئاسية التي تخص الدولة البرازيلية فإن منها رسالة جوزي دانييل كولاصو إلى السيد الحاج محمد اللبادي الذي عوض الحاج محمد العربي الطريس يخبره فيها بتحسن صحة رئيس جمهورية البرازيل. (الوثيقة 58 /62). والذي سيراسل رئيس الجمهورية البرازيلية السلطان المولى عبد العزيز في شأن تعيين جاكوب أطياس ممثل دولة البرازيل بطنجة.(الوثيقة 74/62). وبعد شهر من ذلك سيتم إرسال النسخة نفسها من قرار تعيين جاكوب أطياس (الوثيقة 76 و 75/62)، وجاء رد المخزن على هذا التعيين، مبررا عدم اهتمامه بذلك بكون الرسالة لم تكن موجهة للحضرة الشريفة وإنما كانت رسالة تخبر من يهم الأمر بتعيين الممثل الجديد للبرازيل بطنجة، (الوثيقة 76 ب/ 62). وفي رسالة جاكوب أطياس إلى النائب السلطاني الحاج محمد بن العربي الطريس تخبر بتعيين لازر الخراط خليفة بثغر الجديدة وبأن يتم التعريف به لدى الجهات المعنية. (الوثيقة 79/62). لم تقف الإخبارات عند مستوى تعيينات القناصلة ممثلين للدولة البرازيلية بالمدن المغربية، بل تجازوتها إلى الإخبار بالتعيينات الجديدة بالموظفين الجدد داخل المفوضية البرازيلية بطنجة، ففي رسالة جاكوب أطياس إلى النائب السلطاني الحاج محمد بن العربي الطريس تخبر بالتعيينات الجديدة بالمفوضية لكل من: عمران بن التاجر مرضوخ قزيز نائبا للقنصل ومنحم بن يعقوب عطية كاتبا ومحمد بن أحمد بن ادريس كاتب المفوضية.(الوثيقة 80/62). كما سيتم الإخبار بتعويض جاكوب أطياس بالقنصل الجديد بطنجة السيد أدونيرام ماوريتي دي كاليميريو ADONIRAM MAURITY DE CALIMERIO قنصلا للبرازيل بطنجة. (الوثيقة 112 / 62). وحسب أبو شعراء مصطفى، فإن هذا التعيين كان بدون شك تحت إشراف جوزي دانييل كولاصو (أبو شعراء مصطفى، الاستيطان والحماية بالمغرب، الجزء 2، ص. 638). وفي عهد هذا القنصل سيتم تعيين ميشال الخازن ترجمانا في المفوضية البرازيلية بطنجة.( الوثيقة 119/62). ففي رسالة لأدونيرام ماوريتي دي كاليميريو إلى الحاج محمد الطريس يبين فيه سبب التماطل ويطلب منه إبلاغه رسميا إن كان قطع المواصلة والمصارفة بين الدولتين ويعلل ذلك. ويستنكر هذا السلوك غير اللائق بين الدولتين والذي يجب أن يخضع لضوابط متعارف عليها في العلاقات الدولية.(الوثيقة 120 /62). ولم تتوقف رسائل الاحتجاج مـن لـدن هـذا القنصـل بخصـوص ما سبـق ذكـره. ( الوثيقة 121 و122/62).
يتضح من خلال المراسلات الدبلوماسية بين القنصل البرازيلي بطنجة أدونيرام ماوريتي ديكاليميرو المعين سنة 1900 حدوث أزمة دبلوماسية بين المغرب ودولة البرازيل، أدت بالمخزن ألا يتجاوب دبلوماسيا مع ممثل البرازيل بطنجة، ما حدا بهذا الممثل إلى أن يرفع رسائل إلى النائب السلطاني يطلب منه جوابا عن تعطيل العلاقات الدبلوماسية مع القنصلية البرازيلية بطنجة، حتى يتمكن من إخبار حكومته بالسبب الكامن وراء هذا القرار، مؤكدا على الطريس إذا ما كان هذا القرار ناتجا عن أمر رسمي من طرف السلطان، أم أن السبب هو عدم توجيه نص التعيين الذي أرسله معه الرئيس البرازيلي للسلطان، كما أكد عليه بخصوص ما إذا كان قطع العلاقات معه هو لا يتعدى أن يكون أمرا شخصيا أم الأمر يتجاوز ذلك ويشمل جميع نيابات البرازيل بالمغرب مشيرا إلى أن هذه المعاملة مخالفة للحقوق الدولية المتعارف عليها، لأنه إذا افتُرض عدم تسليم كتاب الاعتماد سببا كافيا لقطع العلاقات، فسيكون من الواجب إعطاؤه مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر حتى تصله التعليمات من بلده، وفي آخر الرسالة يطلب منه إحياء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين حتى تعود إلى نشاطاتها السابقة. ومع مرور الوقت لم يرد أي جواب من النائب السلطاني حول طبيعة العلاقات الدبلوماسية مع نيابة البرازيل لذلك بعث ديكاليميرو برسالة ثانية إلى الطريس بتاريخ 27 غشت 1900 يلتمس فيها الجواب عن ذلك، مؤكدا على أنه لا يقبل استمرار العلاقات على هذه الحالة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين، ومذكرا إياه أنه إذا لم يلق الجواب المناسب فإنه – وباسم حكومته – يحمل المغرب مسؤولية كل الخسائر التي ستقع في أرواح وممتلكات كل رعايا دولة البرازيل بالمغرب (الوثيقة 122/62). وفي ظل هذا المناخ المفعم بالتوتر فإن الهجوم على دار نيابة البرازيل بمدينة أصيلا وإقامة الحجز عليها وإحاطتها بالجند وإلقاء القبض على عدد من المحميين البرازيليين، زاد من تعميق الهوة بين الطريس وديكاليميرو الذي بادر إلى إرسال مبعوث خاص إلى المدينة لإجراء تحقيق، فتبين أن هذا الحادث وقع بأمر من عامل المدينة، لذلك احتج على ما نتج عن ذلك من الأضرار المادية والمعنوية للأشخاص الذين هم تحت رعاية الدولة التي يمثلها وينوب عليها (وثيقة123/62).
وأمام هذا التوتر في العلاقات الذي سبق وأن حدث مثله بطنجة، حيث نجد في رسالة جوزي دانييل كولاصو إلى النائب السلطاني الحاج محمد بن العربي الطريس يذكره فيها بالاسترعاء تجاه ما وقع بالمفوضية البرازيلية بطنجة جراء حادث إطلاق النار من قبل مقدم المصلى الكبير ومن معه على أولاد بوكوابس الذين احتموا بالمفوضية، وأفضى ذلك إلى مقتل اثنين من أولاد بوكوابس. ويذكر الوزير المفوض أن هؤلاء ليسوا من رعية البرازيل ولكن الأ مر استفحل وأصبح يهدد الأمن بالمدينة. (الوثيقة 47/62). كان من الطبيعي أن تستمر القنصلية البرازيلية في الاحتجاج كلما تعرض أحد رعاياها لأدنى متابعة من المخزن، كما هو الحال بالنسبة للتاجر يوسف بوزكلو الذي امتنع عن الامتثال للشرائع المغربية مصرحا أنه لن يسري عليه أي قانون إلا ما يأمر به قنصله أو ما يصل بواسطته، الأمر الذي دفع بالطريس إلى زجره والتقليل من جنسيته وتهديده بأنه إذا لم يمتثل للقانون المغربي سيتخذ في حقه إجراءات صارمة.(الوثيقة 124/62).
كل هذه الأمور وغيرها دفعت ديكاليميرو إلى أن يجاهر باعتراضه عن مثل هذه التصرفات التي اعتبرها خارجة عن العوائد الدولية المعمول بها، ولقد وجه نسخة من هذه الشكاية إلى ما أسماه بشيخ جماعة النواب، ليكون جميع معتمدي الدول الأخرى على دراية بما وقع في حق نيابة البرازيل بطنجة. وتحمل الرسالة نفسها نص الجواب على رسالة ديكاليميرو من النائب السلطاني حول قضية بوزكلو الذي كان من الضروري إعمال الشرع في حقه، وأما ما ذكره ديكاليميرو عن السبب في قطع العلاقات فإن الطريس يرى بأنه لن تأخذ العلاقات معه شكلها الطبيعي إلا عندما يثبت للمخزن أنه معتمد رسمي من لدن الدولة البرازيليـة، وذلـك بإرسـال نسخـة مـن الكتـاب الـذي وجهـه رئيـس البرازيـل إلـى السلطـان.( الوثيقة 124/62).
وحسب ديكاليميرو في الوثيقة 125 / 62 والمؤرخة بـ 23 أكتوبر 1900 فإن إيقاف التعامل بين الطرفين لا يسري على العلاقات بين حكومة الجمهورية البرازيلية التي لا زالت تتبادل مع المخزن رسائل الود والصداقة، ولا مع الموظفين في القنصلية الجنرالية ونائب القنصل الذي كان مكلفا بإدارتها، والمعروف رسميا لدى الطريس والحضرة الشريفة.
لم تتوقف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والبرازيل بل استمرت على عهد الحماية الفرنسية والإسبانية، حيث ظهر توقيع صالمون ماراشي بوصفه المكلف بقنصلية طنجة، في تقرير 22 فبراير 1921، كما ذكر المساري كذلك بأنه في 16 أكتوبر 1922، وجد تقريرا بتوقيع سيمون لوبيز فيريرا باعتباره عونا قنصليا وقنصلا عاما للبرتغال مكلفا بقنصلية البرازيل في طنجة. وكانت آخر وثيقة تحمل تاريخ 1929، وهي سنة إقفال القنصلية البرازيلية في المغرب، واستمر هذا الانقطاع حتى استعادة المغرب استقلاله واستأنف البلدان تبادل السفراء.

(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن


الكاتب : ذ. سمير بوزويتة (*)

  

بتاريخ : 18/08/2022