الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ. .2 – ولاية العرش: النمسا طرف في الصراع على السلطة سنة 1908

يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.

أصيب المغاربة بحيرة من أمرهم وهم يرون حكومة المولى عبد العزيز أحجمت كل الإحجام عن الدفاع عن وجدة والدار البيضاء، وتركت الجيش الفرنسي يواصل عمليات الاحتلال بقبيلة الشاوية. وقد استغل هذا الاندهاش المولى عبد الحفيظ – خليفة المولى عبد العزيز بمراكش – استغلالا كبيرا، فأعلن لأهل مراكش ونواحيها عن استعداده للدفاع عن البلاد، وإنقاذها من وهدة الاستعمار والاستعباد. فحصل المولى عبد الحفيظ على بيعة أهل مراكش ثم أهل فاس وتطوان، وفي هذا الاتجاه، كانت الدعاية الحفيظية نشيطة ومثابرة ومبادرة، فقد بذل الحزب الحفيظي جهودا جبارة، تدل على وعي حاد بثقل الرأي العام وتأثيره والفوائد التي يمكن جنيها من وراء تفهمه وتأييده للانقلاب الحفيظي. كما ينضاف إلى هذا وذاك أن هذا الحزب كان على قدر عال من الفهم للواقع الدولي، بملابساته السياسية والدبلوماسية. ووفق ذلك بادر إلى إقحام الممثليات والسفارات الأجنبية بالمغرب في تأييد مشروع الانقلاب، وإضفاء الشرعية عليه. ويأتي إقحام دولة النسما في هذا الصراع وذلك عبر قنصلها العام بطنجة، في سياق لطمأنة البعثات والسفارات الخارجية بخصوص الوضع في البلاد، ونورد الرسالة التي بعثها قضاة وأعيان ووجهاء فاس وموظفيها وما والاهم إلى القنصل النمساوي، يخبرونه فيها بما وقع، ويطلبون من دولته أن تقف موقف الحياد من حوادث المغرب، ولا تتدخل في سياسته الداخلية، وأن تحمل فرنسا على سحب جيوشها من البلاد المغربية، ذاكرين أن الأعمال التي قامت بها في المغرب تعد إخلالا بالمعاهدات والحقوق الدولية.
– مح 136/ 5 (إلى جناب حضرة سفير دولة النمسا لدى الأمة المغربية بطنجة (متم ذي القعدة عام 1325 الموافق 15 يناير 1908). الموقعون: عبد الكبير بن محمد الكتاني وسليمان الصقلي ومحمد التهامي كنون و المكي بن محمد الحسني الوزاني وعبد السلام الأمراني.
والرسالة الموجهة إلى السفير النمساوي بطنجة نوردها كالتالي:
الحمد لله وحده من قضاة فاس وعلمائها وأشرافها والمتوظفين بها وأعيانها ومن والاها
إلى جناب حضرة سفير دولة النمسا بطنجة المجاورة لدى الأمة المغربية بعد محبة أن تكونوا بخير فلا يخفاكم ما حل بهذا المغرب من الارتباكات والاشتباكات واضطراب الأحوال والهيجان الزائد الذي هو تيار وسيل جارف وكاد لا يقف على طرف لسوء إدارة مولاي عبد العزيز ووزرائه الذي كانت الأمة سمته ملكا عليها من قبل فقد ارتبك في نفاذ الأموال في المصالح الذاتية الشخصية في اقتراض الملايين من الخارج وصرفها في غير مصارفها واختلال الإدارة في الأمور العدلية وعدم تنفيذ الأحكام السماوية واختلال إدارة الجنود العسكرية وعدم تدبيرها على ما ينبغي وعدم تضييقه على المكلفين أعمالهم التي وقع فيها الخلل وعدم مناقشتهم على إهمالهم الوسائل المفضية لتحسين الأحوال وإصلاحها بما لا يمس استقلال البلاد وعوائدها وديانتها وأحكامها الشرعية وأهمها الاستبداد التام العام في جميع الإصدار والإرادات حتى صار المغرب على أخطار عاقبتها … لعدم المشي على خطى مستقيم وارتكاب العزومات والجادة والطريق الأقوم إلى غير هذا مما أوجب نفور قلوب الرعية وعدم رضاهم بهذه السياسات والتدابير والسبل ومعاكسة الرأي العام له من الأمة المغربية كما لا يخفى على رياستكم أن العاصمة للبلاد المغربية وفقر سلطنتها ….. رياستها وفقار ملوكها هي حاضرة فاس المحروسة بالله سبحانه وبقاء على ما تقدرلديكم فقد أجمع الرأي العام بالعاصمة المذكورة من قضاتها واشرافها وعلمائها وأعيانها وسائر الموظفين لها وكبرائها وسوادها على خلعه خلعا شرعيا حسبما أفتى به اهل الحل والعقد من العلماء ونصب أخيه مولاي عبد الحفيظ نصره الله نصرا سماويا آمين ملكا على الأمة المغربية جمعاء كما تقدم لأهل مراكش العاصمة الثانية من المملكة المغربية مثل ذلك لما هو عليه من النجدة وحسن التدبير والاعتدال في مسالك السياسة والأهلية والكفاءة لهذا المنصب السامي وعلى ذلك أجمع الرأي العام المذكور بانتخاب عام عن تمام الاختيار والطواعية والانقياد والحرية التامة بحيث لم يتأخر عنه أحد وكذلك هو الرأي العام في القبائل والباعث على رقم هذا إليكم إعلامكم بالواقع لتكونوا منه على بال وتبلغوه لدولتكم المتحابة تبليغا رسميا بلسان عموم كافة أهل فاس التي عليها الحل والعقد وإليها المرجع في تسمية الملوك ونصبهم وإننا محافظون على الروابط الودية والتجارية والمناسبات الجوارية ونطلب منكم بلسان الأمة المغربية المحافظة على تلك الروابط التي من مقتضاها البقاء على الحياد التام فيما بين سلطاننا مولاي عبد العزيز واخيه وعدم التداخل في سياستنا الداخلية وأن لا يحصل من أحد من الدول ميل لإعانة السلطان المخلوع أو إقراضه أو بيع الأسلحة إليه أو ما يقافي قاعدة الحياد التي توجبها المودة والروابط المحترمة والعلائق المرعية وأن تكونوا خير برزخ وواسطة في كف الدولة الفرنصوية على إعانته وعن التقدم في الحدود أو في شيء من الأراضي والنقط المغربية حسبما يقتضيه حسن الجوار والعلاقات التي بيننا وبين الدول المتحابة ريثما تسكن الفتنة ويستقر النظام لأن بقاء الدولة الفرانسوية على مقرها في الحدود وإقراض المال امن ذكر ونجدته … الأمة المغربية فتحا لأراضيها وإخلالا للمعاهدات الدولية وقطعا لفتح أبواب التجارة بالمغرب وزيادة الثورات والهجومات والترامي من الطرفين وربما لا يقف ذلك على حد فوجب علينا أن نعرفكم بهذا الأمر الذي أجمع عليه رأي الأمة المغربية استرعاء وتبرءا من تبعية الدين المذكور بحيثان الأمة المغربية تعد اقتراض مولاي عبد العزيز اقتراضا شخصيا لا تطالب الأمة به بوجه وتعد التقدم في الحدود إظهارا للعداء وإخلالا بالمعاهدات والحقوق الدولية فالمؤمل من حضرتكم تبليغ هذا المكتوب لحضرة دولتكم المتحابة والوقوف في حس الوساطة المذكورة حسب معتقدنا فيكم ولكم مزية الثناء والتشكر والتمام في متم قعدة عام 1325 هـ./ 15 يناير 1908م. عبد السلام الأمراني خليفة أمير المؤمنين.
الفصل الثالث: المغرب والنمسا في قلب التجارة العالمية
يسعى هذا المحور إلى رصد حجم لمبادلات التجارية وحجم الاستثمارات بين المغرب والنمسا وذلك من أجل إبراز متانة العلاقات الاقتصادية بين البلدين ومدى عراقتها واستمراريتها.
1 – المبادلات التجارية بين المغرب والنمسا (1902 – 1913)
2 – العلاقات الاقتصادية بين المغرب والنمسا زمن الحماية
3 – العلاقات التجارية بين المغرب والنمسا بعد الاستقلال

خاتمة

عكفت هذه الدراسة على التعريف بالعلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية في أبعادها التاريخية والثقافية والفنية والدبلوماسية وذلك من خلال الحفر الأركيولوجي في اﻠذاكرة المشتركة والوصف الجينيالوجي لخصائصها ومقوماتها. فتم رصد مسارات العبقرية المغربية في نسج محيط جهوي ودولي راهن أكثر على خيار المغرب الكوني المنفتح والمتعدد.
لقد أكد السلاطين العلويون انخراطهم المبكر في مبادرات مغرب النبوغ الكوني اﻠذي تفاعل ويتفاعل مع عبقريته ومواهبه، وكفاءاته ورأسماله البشري، وينفتح على أرصدة اﻠذكاء الكوني والخبرة الإنسانية والحكامة العالمة والمتجددة.
فعلاقة المغرب بدولة النمسا – هنغاريا تجسد العمق الإستراتيجي لدبلوماسيته والتي راهن من خلالها على تفعيل سياسة التقارب بهدف تجسير التعارف بين الشعوب والحوار بين الهويات وبناء مستقبل التعايش والتسامح، وذلك في أفق التحالف الإستراتيجي المتجدد والمبني على سياسة التكثلات الإستراتيجية.
ولذلك يهدف هذا الكتاب إلى إبراز مكامن القوة الدبلوماسية لدى السلاطين العلويين على الصعيد الإقليمي والدولي وما علاقاته الإستراتيجية مع إمبراطورية النماسا – هنغاريا إلا الدليل الواضح على مدى استيعاب الدولة المغربية لقوة خلق التحالفات الإستراتيجية في البحر المتوسط من أجل التموقع أكثر على الساحة المتوسطية والدولية.
لقد نجحت الدبلوماسية المغربية في تأسيس علاقات دولية تقوم على التفاعل الإيجابي واحترام الآخر. وجعل العدو الممكن صديقا متجددا، وفي هذا الصدد يقدم هذا الكتاب نموذجا قويا للممارسة الدبلوماسية المتبصرة والتي نجحت في زمن قياسي وصعب أن تجعل المغرب قبلة للدول القريبة والبعيدة، ودولة النمسا- هنغاريا محول هذا الكتاب، تجسد إلى حد بعيد أن هذه التحركات مهمة طالما تطرح رؤية مغربية تتعلق بمستقبل البلاد وتؤكد ضرورة الحفاظ على هويته العربية والإسلامية. وذلك وفق دبلوماسية مرنة وزئبقية تحقق الأهداف التالية:
لا أعداء دائمين، ولا أصدقاء دائمين، ولكن مصالح دائمة. ولطالما اختبرت هذه المقولة من خلال تاريخ العلاقات الخارجية للمغرب، إذ أن تلك العلاقات قد كانت ذات طابع صراعي تارة، وطابع سلمي تارة أخرى، وتبقى المصلحة المحرك الأساسي لعملية تحول الأولويات.
أكد صناع السياسة الخارجية للدولة المغربية أن سياسة الأبواب المفتوحة وتعزيز المصالح الاقتصادية والسياسية تمكن المغرب من التحرك بمرونة عالية في بيئة التنافس الدولي بالمتوسط، فالحاكم هو مصلحة المغرب الوطنية .وفي السياق ذاته، راهن المغرب أن يكون في قلب التجارة العالمية، ولذلك وظف العامل الاقتصادي كأحد مقومات الفعل أو السلوك السياسي الخارجي والذي يعد من أهم الوسائل التي تستخدمها الدول في تحقيق أهدافها وضمان أمنها. ولكي يعزز المغرب موقعه ومركزه الدولي بادر إلى منح امتيازات للدول الأوروبية عامة ودولة النمسا – هنغاريا على وجه التحديد، وهذا بطبيعة الأمر، سيتيح فرصا لإعادة بناء وتفعيل علاقاته مع هذه الإمبراطورية.
لقد كان الرهان الحقيقي من وراء توثيق العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية والعمل على انتظامها بتفعيل الجوانب التجارية والاقتصادية، والذي حتما سيعطي المغرب بعدا جيوسياسيا مهما في المنطقة وسيوفر هامش حركة أوسع لسياسته الخارجية وسيمتلك القدرة على التموقع أكثر في تفاعله مع السياسات الأوروبية في المنطقة.
وأخيرا يشدد هذا الكتاب على ترسيخ الدبلوماسية الثقافية كأساس لتشجيع التفاعل المدني والانسجام الإنساني والتضامن الكوني بين الأمم والأوطان والمجتمعات، والعمل على التنسيق مع مختلف الفاعلين في الحقل الثقافي والمدني سواء كانوا حكوميين: (الوزارات المعنية، الجماعات المحلية، المؤسسات الجامعية، المراكز اللغوية والثقافية، والأروقة والمتاحف، ومراكز البحوث…) ﺃﻭ كانوا غير حكوميين:(جميع الفاعلين المدنيين والمجتمع المدني…).
المساهمة في جمع الأرشيفات التي تبرز التقاطعات الثقافية بين المغرب والنمسا – هنغاريا ومساعدة الباحثين في الولوج إليها لدراستها وتحليلها ونشر نتائجها.
عولمة الاحتفاء بذاكرة التراث المشترك والأرشيفات المتقاطعة والأصوات المتلاقحة والتجارب المتداخلة لتنمية ثقافة التقارب بين الشعوب.
إعادة قراءة التاريخ والذاكرة المشتركة بين المغرب والنمسا- هنغاريا من أجل تدعيم التنمية المستدامة للفعل الثقافي الهادف إلى تزكية الشراكة الثقافية والدبلوماسية المدنية.

(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن


الكاتب : ذ. سمير بوزويتة (*)

  

بتاريخ : 11/08/2022