الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ -3-

اتفاقية المغرب والنمسا-هنغاريا سنة 1783م

 

يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.

اعتمادا على لوي شنيي، فإن دور باشا طنجة انحصر في إبلاغ ملوك الدول التي سيزورها رضى السلطان اتجاههم. ولكن فيما يخص النمسا فإن مهمته كانت أكثر أهمية ودقة. وفعلا، جاءت بعثته تتويجا لتبادل بلاط البلدين المراسلات، وقد كلف من أجل التفاوض والتوقيع على اتفاق مع حكومة جوزيف الثاني.
وصل ممثل السلطان إلى ليفورن في 14 أكتوبر ولكنه لم يدخلها إلا في 16 نونبر 1782، وقبل دخوله المدينة كتب بتاريخ 25 أكتوبر 1782 إلى المستشار الملكي والديني للإمبراطور الأمير دو كونيتز
((De Kaunitz يخبره بأن السلطان سيدي محمد بن عبد الله قد عينه سفيرا مفوضا لتقديم التعازي للإمبراطور جوزيف الثاني في وفاة الإمبراطورة ماري طيريز ( Marie Thérèse). (والتي ستخلد ذاكرتها )
وتهنئة الإمبراطور بمناسبة توليه العرش وإبرام معاهدة سلم مع النمسا. وتبعا لذلك يخبر بزيارته المقبلة إلى فيينا ويطلب الموافقة على شرف تقديم نفسه إلى العرش الإمبراطوري بصفته سفيرا للسلطان المغربي. وبعد أيام معدودة، زاره بلازاري (Lazaret) (الحجر الصحي) مبعوث الإمبراطور جوزيف الثاني بليفورن السيد جولياني ريتشي (Giuliani Ricci) وزاره مرة ثانية بعد انتهاء مدة الحجر الصحي وشمله بحفاوة كبيرة.
كتب السيد ريتشي والذي كان من مؤيدي إبرام المعاهدة إلى المستشار الأمير دو كونيتز
((De Kaunitz يعبر له أن إبرام المعاهدة ليست مفيدة فقط، ولكن ضرورية لأمن الأسطول النمساوي.
مكث محمد بن عبد الملك بتوسكان قرابة أربعة أشهر ولم يصل إلى فيينا إلا بتاريخ 20 فبراير 1783. وبعث الحاج محمد المهدي للإخبار بوصوله إلى وزراء النمسا وفي 24 فبراير 1783 كانت له أول زيارة رسمية للمستشار Kaunitz.
تكلف كاتب ومترجم بلاط فيينا السيد فون بين (Von Bihn) بحمل السفير في عربة مزينة تجرها ستة خيول و يرافقهما الموكب المرافق له في عربيتين: كاتب البعثة وإمامها والكاتب الخاص لمحمد بن عبد الملك وخمسة ضباط مصحوبين بضابط نمساوي.
استقبل الأمير كونيتز السفير المغربي استقبالا يليق بمقامه… واستقبله أيضا الأمير كوليريدو ( Kolloredo) بالحفاوة ذاتها، وأخيرا استقبل السفير من طرف الإمبراطور جوزيف الثاني يوم 28 فبراير 1783، حيث تكلف السيد (فون بين) بمهمة نقل السفير المغربي من مكان إقامته إلى القصر الإمبراطوري ( Hofburg) في موكب مهيب.
وقد حمل السفير الهدايا التالية إلى الإمبراطور جوزيف الثاني:
ثمانية خيول عربية، وكان سرج الحصان الأول من ذهب من الصنع المغربي، مزركش بالأحجار الكريمة، أما الثاني فكان سرجه من فضة صنع في المشرق، بينما الأسرجة المتبقية كانت مغطاة بثوب الحرير …
صندوقين مغلفين بالجلد يحتويان على أثواب باهضة الثمن.
حينما استقبل السفير من طرف الإمبراطور النمساوي جوزيف الثاني بعد تأدية مراسيم الاستقبال أعلن السفير أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله أرسله إلى فيينا لإبرام معاهدة السلم، أجابه نائب المستشار فون كوبنزيل Von Kobenzel بالألمانية وباسم الإمبراطور جوزيف الثاني الذي يتمنى سلاما تاما وصداقة وطيدة ودائمة وأنه متفق على إبرام هذه المعاهدة.
ترجم كلا الخطابين السيد فون بين… وفي الأسابيع الموالية تمت مناقشة بنود المعاهدة وكان من الضروري عقد سلسلة من الاجتماعات في هذا الشأن…وانتهت بتوقيع معاهدة 17 أبريل 1783. وتتضمن الاتفاقية
نسختين أصليتين الأولى حررت باللغة العربية موقعة من طرف ممثل الإمبراطور والثانية حررت باللغة اللاتينية تحمل توقيع محمد بن عبد الملك…
وبعد توقيع المعاهدة انشغل السفير محمد بن عبد الملك بالتفكير بالعودة إلى المغرب لأن مشروع زيارة روسيا تم إلغاؤه. وفي أواخر شهر ماي 1783 عندما كان في مدينة ( Triste) تعذر عليه إيجاد باخرة تعيده إلى المغرب. وعاد السفير إلى طنجة في 15 يوليوز 1783.
حققت بعثة محمد بن عبد الملك مهمتها الدبلوماسية، والمتمثلة في عقد الاتفاق الذي رغب فيه السلطان سيدي محمد بن عبد الله بالرغم من أن هذه الاتفاقية لم تسفر على نتائج مهمة سواء للمغرب أو النمسا ذلك أنه في السنوات اللاحقة لم تشهد العلاقات التجارية بين البلدين أي تطور ملموس، إلا أنه عل الرغم من ذلك تعكس هذه الاتفاقية السياسة التي نهجها سيدي محمد بن عبد الله الذي أراد تنمية بلاده مع القوى المسيحية الأخرى.
تطرح هذه السفارة السؤال حول فهم وتلقي الشرق من طرف المجتمعات الأوروبية وبصفة خاصة مجتمع فيينا. فهذا الشرق لم يعد بعيدا، لكن واقعه بدأ يؤثر على الأفكار المسبقة للمهتمين وبالتالي ضرورة تغيير خطابهم اتجاهه وكذلك التعامل السياسي للأمراء والذي يجب أن يتوافق مع الفاعل الجديد.
تدل الأخبار الواردة من فيينا أن تحريات الجرائد الأوروبية تولي اهتماما خاصا بالموضوع، فإعادة قراءة هذا المصدر الكلاسيكي لتاريخ العلاقات الدولية في الفترة المعاصرة بدأ منذ حوالي عشرين سنة ويعني اللقاءات التي اهتمت بالحدث.
اعتمد متن هذه الدراسة على خمسة عشر قصاصة من جريدة أوترخت La Gazette d’Utrecht وإحدى عشر قصاصة من جريدة أمستردام La Gazette d’Amsterdam وخمس قصاصة من جريدة ليد Leyde La Gazette وقصاصتين من جريدة كوريي أوروباdu Courrier de L’Europe La Gazette . تستدعي البعثة السفارية لمحمد بن عبد الملك مقارنة الخطابات التي خلفتها هذه الجرائد التي اهتمت بهذه البعثة.
تعكس البعثة السفارية لمحمد بن عبد الملك إلى فيينا توجه المغرب نحو تفعيل تجارته بالبحر الأبيض المتوسط، وقد تم ذلك عبر مرحلتين :
قام السفير المغربي في عام 1778، بأول بعثة إلى ليفورن Livourneبهدف افتكاك الأسرى المسلمين الذين أسرهم بيترو- ليوبولدو (Pietro-Leopoldo) ويبدو أن الرحلة كانت مثمرة جدا.
وفي 8 فبراير من العام 1778 وقع السفير المغربي مع الدوق الأكبر معاهدة التجارة والصداقة و قدم له الأسرى دون فدية مقابل فتح ميناء طنجة للبحرية الروسية. و يمكن للأسطول الروسي بعد ذلك العبور إلى ليفورنو فيمر على مضيق جبل طارق و يصبح بذلك خطرا حقيقيا على القسطنطينية ، ويمكن أن يقع العكس ، وإذا تطلب الأمر عوضا عن إغلاق المضيق محاصرته عن طريق البحرية التجارية في البحر الأبيض المتوسط.
لقد دشنت سفارة محمد بن عبد الملك إلى فيينا سنة 1783 اقتحام المغرب للنظام الدبلوماسي النمساوي والتحالف النمساوي الروسي.
تقربنا مراسلات القنصل الفرنسي لوي دي شنيي (1722-1796) من تحضيرات هذه الرحلة. ففي يناير/ كانون الثاني عام 1780، يتم الإعلان عن السفارة المقترحة إلى توسكانا وفيينا، وفي سياق إعداد السفارة أخرى إلى نابولي، التي ينبغي للطاهر فنيش أن يقوم بها في شهر أغسطس، يبدو أن القنصل الفرنسي تصور السفارة واحدة فقط للذهاب إلى توسكانا، نابولي وفيينا وفي الأخير إلى بترسبورغ.
كان القصد من السفارة المغربية إلى فيينا هو تأكيد انضمام المغرب للتحالف النمساوي، وقد سبق للسفير المغربي عبد الملك أن تلقى رسائل اعتماده سفيرا في 20 أغسطس 1780، لكن مشروع البعثة أوقفه السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وعلقه إلى سنة 1782 .أما عن أطوار رحلة السفارة المغربية إلى فيينا، فقد تابعت جريدة Utrecht السفارة المغربية وخصصت لها حيزا مهما في يومياتها، إذ سجلت بالتفصيل أطوارها، حيث كان مقررا يوم 30 أبريل 1783 أن يلتقي السفير المغربي مع الأمير Kaunitz والذي كان مقررا أن يسافر إلى إفريقيا وكان على السيد Tessara أن يرافقه. وأنه عين قنصلا ملكيا بالمغرب.
لم يكن إيمانويل تاسارا Emmanuel Tessara شخصا مجهولا بالنسبة لقارئ جريدة Utrecht، يظهر في عدد 21 دجنبر 1782 في صفة كاتب الإمبراطور مكلف باستقبال السفير المغربي في الطريق لأخذه إلى فيينا، وفي عدد آخر في 12 مارس 1783، هذه المرة في Hofburg(هولفبورة) يستقبل عبد الملك لمرافقته إلى (جوزيف الثاني) وبمناسبة الاستقبال الذي خصص له بتاريخ 18 فبراير (La Gazette de Leyde) تذكره أيضا في مناسبتين باعتباره عميدا مكلفا لاستقبال عبد الملك وهي مناسبة لإثارة تعيينه كقنصل، والذي سبق وأن أخبر به سابقا.
وحسب Ramon Lourido Diaz هو الذي كلف من طنجة بتدبيج المعاهدة بالنسبة للنمسا.
بالنسبة لهذه المهمة، تستحضر La Gazette de Leyde مساهمة رجل شاب في الرابعة والعشرين من العمر، ازداد في البلاد المنخفضة ومتمكن من اللغات الشرقية، وبدون شك قام بترجمة المعاهدة إلى اللاتينية.
أكيد أن Bihn لعب دورا مهما في هذه السفارة وكان يعمل كمترجم في البلاط وهو مساعد أيضا (لإمانويل تاسرا). وأنه كلف مرافقة السفير المغربي في جميع تحركاته مثل الحفلة الراقصة التي أقامها الأمير Liechtenstein في 2 مارس 1783 م حيث كان جالسا بجانبه .منذ لقاء السفير المغربي وحتى مغادرته ظل Bihn برفقته.
وحسب جريدة (Utrecht) انطلق السفير المغربي في 30 يناير من تريست حيث ينتظر وصوله يوم 14 فبراير للعاصمة حسب المراحل الآتية: 30 يناير أدلسبرغ، في 31 يوم راحة، 1 فبراير ليباخ، 2 فبراير يوم راحة،3 من فبراير فرانز 4 فبراير كونوفنتر، 5 هاربورك، 6 ويلدام، 7 كراز، 8 يوم راحة، 9 بروكر، 10 كرابلغ، 11 نوكيرهين، 12 تزاشرتشن، 13 يوم راحة، 14 فبراير يوم الوصول.
وارتباطا بتغطية رحلة السفير المغربي في فيينا ، أبانت جريدة أوتريخت اهتماما خاصا بالسفارة المغربية إلى فيينا، وجعلت قارئها يتتبع مسار البعثة والتي حدث تغيير في البرنامج الزمني للرحلة بحيث تأخر وصول السفير ففي عددها المؤرخ في 27 فبراير أعلن عن توقفه بتريست، وفي العدد 6 مارس بأنه وصل إلى لفيدن بدلا عن يوم 20 فبراير و24 فبراير عند الأمير كونز،في 27 عند الإمبراطور كلوريدو، وفي 28 عند الإمبراطور في 2 مارس بالمسرح الوطني لمشاهدة دي غلوك، وفي 3 مارس حفلة راقصة لدى الأمير ليشلتنشفاين، وفي 4 في لاريدوت، وفي 6 مارس حفلة عشاء عند كونتز، وفي 10 مارس مجددا عند الإمبراطور لحضور عرض عسكري، وبعد فترة استراحة، للعودة يوم 3 أبريل لزيارة معمل للخزف،وفي 4 أبريل حفل موسيقي عند الأمير شقارزنبك.
لا نجد هذه الدقة في البرنامج الزمني للزيارة إلا في جريدة أوتريخت. حيث أقام الأمير Lichtenstein حفلة راقصة على شرف استقبال السفير المغربي. وقد شارك فيها خمسمائة شخص. حيث أضيئت القاعات ونصبت المنصة لجلوس السفير المغربي والسيد Bihn وقد أقيمت عشرين مائدة جهزت لحفل العشاء في منتصف الليل .
أظهر الأمير مدى تأثيره ونفوذه، فحضور خمسمائة شخص، إنه عدد رمزي أكثر مما هو واقعي ترجم مكانه الأمير داخل مجتمع النبلاء النمساوي. واسم Lichtenstein جعل من الحفل حدثا بحد ذاته، تتميز المنصة حيث جلس السفير المغربي بزخرفتها وجمالها عن باقي القاعة، وقد تكلف بتنظيمها الأمير ليترجم مدى مكانته ومهابته أمام الحضور.أضافت المنصة على الحدث طابعا مسرحيا جعله موضوع تتبعته الصحف.
استثمر الأمير Lichtenstein للانفراد والتميز عن باقي أمراء أوروبا، لكون هذه الزيارة حدث فريد من نوعه وأداة للتميز الاجتماعي والتنافس بين الأمراء. ووفق ذلك، تفرد جريدة أوتريخت بتغطية استقبال السفير المغربي.
تسمح مقارنة الجريدتين النمساويتين بتمييز مجموعة من تكتيكات الخطاب، حيث ستواجه الخطاب المباشر الذي يتبناه الفاعلون حول الحدث. وفي الرسالة التي كتبها جوزيف الثاني إلى اليوبولد الثاني في فاتح مارس 1783 والتي أكد فيها:
– تم استقبال السفير المغربي، لم أقول له شيئا ، لأن ذلك يدخل في إطار البروطوكول، ولكن سأراه فيها بعد لأكلمه.
لم تكن المراسيم إذن بالنسبة لجوزيف إلا عبارة عن رسميات فقط. فقد كان ملتزما بالأخلاقيات الدبلوماسية، ولم يكن لديه أي نية لفتح أي حوار حقيقي.
(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس)


الكاتب : n ذ. سمير بوزويتة (*)

  

بتاريخ : 03/08/2022