الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ -5- :اتفاقية بين المغرب والإمبراطورية النمساوية سنة 1830م

يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.

 

توترت العلاقات بين المغرب والإمبراطورية النمساوية، بعد أن تم يوم 20 محرم 1244 / 2 غشت 1828 استيلاء بعض الرؤساء البحريين المغاربة على باخرة نمساوية تحمل اسم فيلوص Velose كانت مثقلة بالبضائع آخذة طريقها من ترييست إلى ريو دي جانيرو. ويسهب الناصري في الحديث عن هذه الحادثة، بقوله، إن هجوم جنس النابريال على ثغر العرائش والسبب في ذلك أن السلطان المولى عبد الرحمان رحمه لله قد طاف في آخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف (13يونيو1828) على ثغور المغرب ومراسيه وأنه أراد إحياء سنة الجهاد في البحر التي كان أغفلها السلطان المولى سليمان رحمه لله، وأمر أعني المولى عبد الرحمان بإنشاء أساطيل تضم إلى ما كان قد بقي من آثار جده سيدي محمد بن عبد لله وأذن لرؤساء البحار من أهل العدوتين سلا ورباط الفتح أن يخرجوا في القراصين الجهادية للتطواف بسواحل المغرب وما جاورها، فصادفوا بعض مراكب النابريال فاستاقوها غنيمة إذ لم يجدوا معها ورقة الباصبورط المعهودة عندهم، وعثروا فيها على شيء كثير من الزيت وغيرها، وكان بعضها قد جيء به إلى مرسى العدوتين وبعضها إلى مرسى العرائش، فهجم النابريال على مرسى العرائش بستة قراصين يوم الأربعاء من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، ورمى عليها من الكور شيئا من الضحى إلى الاصفرار، وعمد في أثناء ذلك إلى سبعة قوارب فشحنها بنحو خمسمائة من العسكر ونزلوا إلى البر من جهة الموضع المعروف بالمقصرة وتقدموا صفوفا قد انتشب بعضهم في بعض بمخاطيف من حديد لئلا يفروا ومشوا إلى مراكب السلطان التي كانت مرساة بداخل الوادي وهم يقرعون طنابيرهم ويصفرون ومراكبهم التي في البحر ترمي بالضوبلي مع امتداد الوادي لتمنع من يريد العبور إليهم فانتهوا إلى المراكب وأوقدوا فيها النار وقصدوا بذلك أخذ ثأرهم فيما انتزع منهم فلم يكن إلا كلا ولا حتى انثال عليهم المسلمون من كل جهة من أهل الساحل وغيرهم وعبر إليهم أهل العرائش وأحوازها سبحا في الوادي وعلى ظهر الفلك إلى أن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا، وكان هنالك جملة من الحصادة يحصدون الزروع في الفدن فشهدوا الواقعة وأبلوا بلاء حسنا حتى كانوا يحتزون رؤوس النابريال بمناجلهم، وقد ذكر منويل هذه الوقعة وبسطها وقال: إن النابريال قتل منهم ثلاثة وأربعون سوى الأسرى وتركوا مدفعا واحدا وشيئا كثيرا من العدة وأفلت الباقي منهم إلى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وراءهم.
واعلم أن هذه الوقعة هي التي كانت سببا في إعراض السلطان المولى عبد الرحمان عن الغزو في البحر والاعتناء بشأنه، فإنه رحمه الله لما أراد إحياء هذه السنة صادف إبان قيام شوكة الفرنج ووفور عددهم وأدواتهم البحرية وصار الغزو في البحر يثير الخصومة والدفاع والتجادل والنزاع ويهيج الضغن بين الدولة العلية ودول الأجناس الموالية لها حتى كاد عقد المهادنة ينفصم، وأكد ذلك اتفاق استيلاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وهو ما هو فوجم السلطان رحمه الله واعمل فكره ورويته فظهر له التوقف عن أمر البحر رعيا للمصلحة الوقتية ولقلة المنفعة العائدة من غزو المراكب الإسلامية، وانضم إلى ذلك إعلان الدول الكبار من الفرنج مثل الجليز والفرنسيس بأن لا تكون المراكب إلا لمن يقوم بضبط قوانين البحر التي يستقيم بها أمره وتحمد معها العاقبة وتدوم بحفظها المودة على مقتضى الشروط، ومن مهمات ذلك ترتيب القناصل بالمراسي التي تريد الدولة دخول مراكبها إليها وتجارتها فيها أي دولة كانت، ومن هذه المهمات ما قد لا يساعد عليه الشرع أو الطبع مثل الكرنتينات وما يترتب عليها إلى غير ذلك مما فيه هوس كبير، فاشتد عزم السلطان رحمه الله على ترك ما يفضي إلى ذلك وتأكد لديه إهماله لتوفر هذه الأسباب، ولعمري أن تركه لمصلحة كبيرة لمن أمعن النظر فيها، وما يعقلها إلا العالمون، وأما فتنة النابريال هذه فإنها تفاصلت بواسطة النجليز حيث وجه باشدور النابريال فقدما على السلطان رحمه الله مكناسة في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين ومائتين وألف.
وخلافا لما يذكره الناصري من أن حادث الهجوم على العرائش أدى بالعاهل المغربي إلى الإعراض عن الجهاد البحري والاعتناء بشؤون الأسطول فإن نشاط السفن الجهادية ومظاهر العناية بالقوة البحرية قد استمرت بضع سنوات أخرى على الضعف في التجهيز والتأطير. وكانت غنائم بعض السفن تباع بجبل طارق. وقد عزز الأسطول بخمس وحدات خصصت لحراسة المضيق والاعتراض المضاد للسفن الأجنبية التي تحوم حول السواحل المغربية أو تحاول اعتراض السفن المغربية.
وانتهت الأزمة الحادة في الأخير إلى إبرام اتفاقية صلح صدر بها الأمر يوم 29شعبان 1245 / 23 فبراير 1830 على ما ورد في التصدير الذي يبتدئ بالبسملة والحوقلة والطابع الكبير للسلطان مولاي عبد الرحمان. ( لقد اعتذر الأمناء الحاج الطالب بن جلون والعربي السعيدي والطيب البياز في رسالة تحمل تاريخ 2 شوال 1244 / 7 أبريل 1829 عن هذا الحادث الذي كان وراء الهجوم على العرائش على ما تحدثت به صحف جبل طارق حيث جرت المفاوضات الصعبة التي ناب فيها عن المغرب يهودا بن عليل والتي انتهت إلى توقيع الاتفاقية مع الدبلوماسي النمساوي فلوكل Pflug.
لقد كان لاحتلال فرنسا للجزائر أثرا على الضغط الممارس ضد المغرب، وهكذا صادق المخزن على مشروع الاتفاقية بين الطرفين بتاريخ 10 جمادى الأولى 1246/ 18 أكتوبر 1830 بل ورضخ لتجميد أسطوله الذي كان أسطورة البحار.
ولم يكن في وسع المغرب – بعد احتلال الجزائر- إلا أن يقبل التعديل الذي طرأ على الشرط الثامن من الشروط الإثنى عشرة للمعاهدة المغربية النمساوية، وكان هذا التعديل بتاريخ 4 رجب الفرد 1246/ 19 دجنبر 1830. وقد صادق على هذه الاتفاقية يهودا ابن عليل، باعتباره قنصلا للمغرب بجبل طارق، حيث عين بعدما توفي أحمد بن عمر بجة التطواني والذي كان قبل 1817 وكيلا للمغرب حتى توفي سنة 1821. وكان يهودا ابن عليل هو أيضا من أكبر الأغنياء، له اتصالات قوية بالمصالح الفرنسية والانجليزية والإيطالية، وأصله من يهود الرباط. ولكن ما لبث السلطان مولاي عبد الرحمان أن غضب عليه فعزله ووقعت له صدمة نفسية حتى توفي سنة 1838 في حين كان سبريك Sprague قنصل أمريكا بجل طارق يتلهف شوقا لنيل هذا التعيين لنفسه بعد عزل ابن عليل، وهو شيء استشار فيه قائد تطوان محمد أشعاش.
وفيما يلي النص العربي لهاته الاتفاقية:
الحمد لله وحده مضمن شروط عقدها من ناب عن سيدنا المقدس بالله مع جنس النبريال في تاريخ 1830.

* الشرط الأول
إن رعية السلطانين يتعاشرون على وجه المواصلة والموافقة لا يكون بينهم اختلاف في البحر والبر و من احتاج إلى مواساة صاحبه يواسيه مثل الأصحاب.

* الشرط الثاني
مضمنه إذا تلاقى مركب البزركان مع القرصان وأحب القرصان تفتيش الكاغد من البزركان لا يرسل إلا اثنين في فلوكة ينظران الباسبرط.

* الشرط الثالث
مضمنه إذا اجتمع قرصاننا مع برزكان الأنبلادر يظهر له باسبرط في المركب والناس في الفلوكة ولا يطلع أحد للمركب ليلا لفسد له الكرنطينة

* الشرط الرابع
مضمنه أن لا يفتش باسبرط إلا القرصان حين يتلاقى مع البزركان ويقابلون القطع على ما هو معلوم.

* الشرط الخامس
مضمنه إذا ألقت الريح مركبا لنا إلى مراسهم أو ساحلهم يكون كل ما فيه محفوظا مأمونا ويقف معه أهل ذلك المحل و يعطونه كل ما يحتاج إليه وإذا اسلم ذلك المركب واحتاج إلى بعض الحوائج يقضونها له حتى يسافر مأمونا وكذلك إذا حرث مركبهم بساحلنا وكانت لهم به سلعة لم يرد بيعها في بلدنا وأراد ردها لبلده لا يلزمه شيء من الأعشار.

* الشرط السادس
مضمنه أن لا يأسر أحد الجانبين من رعية الآخر أحد وإن وجد أسير في مركب العدو لا يأخذه هو ولا سلعته بعد ما يثبت أنه من رعية أحد الجانبين ولا يطلب أحد منهما صاحبه بقليل ولا كثير.

* الشرط السابع
مضمنه أن تجار الأنبلادر يدخلون لأي مرسى أرادوا من مراسينا وتجارنا يدخلون لمراسيهم كذلك وقائد المرسى يراعي التجار كما يراعي غيرهم ويبيعون ويشترون ولا يطالبون بزيادة على العادة في الكمرك.

* الشرط الثامن
مضمنه إن سلعة النابريال الواردة في مراكبهم أو مركب غيرهم لمراسي سيدنا يدفع عليها العشر كاملا مثل ما يدفع أجناس النصارى وإن لم يرد إنزال سلعته فلا يعطي شيئا.

* الشرط التاسع
مضمنه أن قونصو الأنبلادر يكون مكرما وداره محترمة ويعلق سنجقه كما يعلقه القنصوات وإذا وقع خصام بين أناس من جنسه مع بعضهم بعضا فالقونص الذي يكون في البلاد هو يفصل بينهم.

* الشرط العاشر
إذا كانت كيرة مع المسلمين كلهم ولو كان أجناس النصارى كلهم كيرة مع المسلمين فالنابريال يبقى في الصلح المذكور وإن كانت لسيدنا كيرة مع مع جنس آخر وللنبريال كيرة مع جنس آخر يمنع أحد الجانبين الآخر من المسير والتجارة في بلاد عدوه.

* الشرط الحادي عشر
مضمنه إذا انحرف هذا الصلح وكان بيننا وبينه حرب فلا يترامى أحد الجانبين على الآخر إلا بعد ستة أشهر وإذا كان أحدهم في بلد الآخر يكون مامونا في نفسه وماله حتى يرجع لبلده بعدما يموت ستة أشهر ولا يضيع له شيء من ماله في بلد الآخر بموجب شرعي.

* الشرط الثاني عشر
مضمنه الصلح الدائم على هذه الشروط لا يفسده أمر يحدث بعده بل فيه زيادة ولا نقصان.
تجدر الإشارة إلى أن النص الفرنسي الذي اعتمده جاك كايي في كتابه:
Une ambassade autrichienne au Maroc en 1805,Editions Larose, Paris, 1957.
يختلف قليلا في ترجمته عن النص الفرنسي للاتفاقية المذكورة والتي نشرها:
Rivière P-Louis, Traités, Codes et Lois du Maroc,Tome Premier,Accords internationaux conclus par le Maroc avec les puissances étrangères ou intervenus entre ces puissances au sujet du Maroc de 1767 à 1923, Librairie Recueil Sirey, Paris,1924.
وقد استمرت العلاقات عادية بين النمسا والمغرب على ما تنبئ به رسالة حررت أيام السلطان المولى الحسن بتاريخ 13 محرم 1303/ 22 أكتوبر 1885 صادرة عن إذن نائب القنصل العام لدولة النبريال بإيالة مراكش إلى نائب السلطان الحاج محمد الطريس تستنجد فيها القنصلية بالمملكة المغربية حتى تسعف مركبا نمساويا بستين طنا من الفحم الحجري من البابور الحسني، وكان المركب النمساوي في طريقه إلى أمريكا…
ولما كان المغرب طلب في بداية عهد السلطان المولى عبد العزيز من النمسا كشفا بالقوانين العسكرية الجاري بها العمل في النمسا- هنغاريا، فقد زودت البعثة النمساوية الهنغارية الوزير الأول باحماد بتلك القوانين الثمانية حسبما تدل عليه الرسالة المؤرخة في 26 محرم 1313/ 20 يوليو 1895. ( التاريخ الدبلوماسي 2 / 174). واستمرت العلاقات المغربية النمساوية الهنغارية بالوثيرة التي تترجمها فصول هذا الكتاب، لا من حيث تقديم مشاريع اقتصادية ولا من حيث تقديم مشاريع ذات الصلة بحرية التدين بالمغرب، كما ينضاف إلى هذا وذاك الحرص على الحضور المكثف لهذه الدولة بالمغرب، حيث شاركت في جميع الأوفاق والمعاهدات الدولية المبرمة حول المغرب ( مؤتمر مدريد ومؤتمر الجزيرة الخضراء)، وكان لها موقف مساند للرأي الشعبي الذي طالب بتنحي السلطان المولى عبد العزيز وتولية المولى عبد الحفيظ، تترجمها رسالة مرفوعة من قضاة وعلماء وأشراف وموظفين وأعيان إلى سفير دولة النمسا بطنجة في شأن خلع السلطان المولى عبد العزيز.

(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس)


الكاتب :  ذ. سمير بوزويتة (*)

  

بتاريخ : 05/08/2022