-1-
أصدرت وزارة الشباب والثقافة والتواصل بيانا تعلن فيه نتائج دعمها لقطاع النشر والكتاب برسم سنة 2023. وهو الذي تمثل أساسا في: دعم 142 مشروع كتاب (من بين 618 مشروع قدم لها). وهذا بمبلغ قدره 2،5 مليون درهم.
ما جعل اتحاد الناشرين المغاربة يعبر في بيان له «عن استيائه الشديد» من هذه النتائج. وهي التي من شأنها، في رأيه، أن «تعمق أزمة النشر الثقافي وتزيد من هشاشة المقاولة الثقافية بالمغرب»، محملا بذلك الوزارة «مسؤولية الارتباك والخلل الذي سيعرفه قطاع النشر وصناعة الكتاب والمشاركة المغربية في المعارض خلال الموسم الثقافي الجاري».
وأوضح البيان «لقد كان أملنا كبيرا في وزارة الثقافة، التي تدرك تمام الإدراك الصعوبات التي تعاني منها صناعة الكتاب بالمغرب، في أن تجعل من محطة الدعم مناسبة لتثمين الجهود النوعية التي يقوم بها الناشرون المغاربة والخدمات الوطنية الجليلة التي يقدمونها سواء داخل الوطن أو خارجه، حيث يعتبر الناشرون المغاربة سفراء الثقافة المغربية في الخارج بحرصهم الدائم على الحضور في المعارض والملتقيات الدولية التي تعنى بالكتاب والثقافة».
إن «قيمة الدعم الذي تخصصه الوزارة للكتاب والمعارض»، يضيف البيان، هي في العمق استثمار في الثقافة الوطنية ودعم إشعاعها عربيا ودوليا، فلا يخفى عن الوزارة وعن عموم المتابعين للشأن الثقافي أن صحوة صناعة النشر في المغرب والحضور المتزايد لدور النشر المغربية في المعارض الدولية يعود الفضل في جانب كبير منه إلى دعم الوزارة».
-2-
شخصيا لست مطلعا على كل ملابسات هذا الملف. ولكن ما أعرفه، بحكم اهتمامي بقضايا الثقافة عموما، وبالقطاع الثقافي على الوجه الأخص، هو ما يلي:
* أن الوزارة المعنية أصدرت منذ سنة 2013 مرسوما لدعم المشاريع الثقافية والفنية (مرسوم رقم 2-12-315 الصادر في 13 ماي 2013). وهو الذي صدر في عهد الوزير السابق، السيد محمد الأمين الصبيحي، وتعزيزها بوضع دفتر جديد للتحملات، يحدد شروط هذا الدعم، بوضوح.
* أن هدف هذا المرسوم هو تحسين شروط الدعم التي بدأت خلال عهد للوزير السابق، السيد محمد الأشعري (المرسوم رقم 2.00.354 الصادر في 14 فبراير 2000 المتعلق بمنح إعانات مالية للمسرح والكتاب).
* أن هذا تم من خلال: أولا، بتفويض اختيار المشاريع المستحقة للدعم إلى لجنة وطنية معينة، تتكون من أهل الاختصاص (كتاب، مثقفين، باحثين…)، تتغير دوريا. وثانيا، برفع الميزانية المخصصة للنشر والكتاب إلى نحو 10 ملايين درهم، بين سنوات 2014-2016.
* أن هذا الاجراء ساهم في تنشيط حركة الكتاب والنشر في المغرب، حيث أدى نسبيا إلى: تحسين وضع دور النشر القائمة، وظهور دور نشر جديدة، ومكتبات جديدة، وتنظيم إقامات للمؤلفين، وتحسين المشاركة المغربية في المعارض الدولية للكتاب، ودعم الجمعيات والتظاهرات الثقافية، المتعلقة بالكتاب (…).
* والأهم، هو ارتفاع عدد الكتب المطبوعة لكل سنة إلى ما معدله 2100 كتاب، والكتب المدعمة من وزارة الثقافة إلى ما معدله 500 كتاب، بين سنة 2017 و2021. (حسب التقري السنوي لمؤسسة آل سعود بالدار البيضاء عن وضع الكتاب والنشر خلال هذه الفترة)
* أن قطاع الثقافة خفض -لأسباب غير معلنة- هذا الدعم هذه السنة، كما ذكر، إلى 142 كتابا فحسب. والسبب، على رأي بعض الناشرين المتضررين، أن الوزارة عينت ، خلال هذه الدورة، ناشرا رئيسا للجنة الدعم، ما يتنافى مع منطق العدالة والحياد، حيث لا يمكن أن يكون على رأس هذه اللجنة خصم وحكم في ذات الوقت.
-3-
لكن بغض النظر عن هذه الملاحظة الأخيرة، فإن الملاحظات والأسئلة الجوهرية التي طرحها، في تقديري الخاص، الشكل الجديد من الدعم المباشر للكتاب بعد تجربته لمدة 9 سنوات الأخيرة (2014-2023)، هي كالتالي:
-أولا، منح الدعم لعدد كبير من المؤسسات، التي ليست بالضرورة دورا للنشر، مثل: الإدارات والمؤسسات والمعاهد والجمعيات والمنظمات غير الحكومية (مثل اتحاد كتاب المغرب). فيما المفترض أن يوجه الدعم ، في الصناعات الثقافية للكتاب، إلى صانعيه في المقام الأول.
– ثانيا، عدم احترام غالبية دور النشر للالتزامات التي حددها دفتر التحملات المذكور . وهي التي تتعلق، مثلا بـ: مدى مصداقية المعلومات التي تقدمها هذه الدور، ومدى جودة الكتب التي تختارها للنشر، وعدد النسخ التي تطبعها فعلا من كل كتاب، ومدى تقديم كتبها إلى لجان القراءة، وحرصها على التدقيق اللغوي لكتبها، وكذا على أداء المستحقات للكتاب والمترجمين (…).
-ثالثا، ضعف المستوى المعرفي، نتيجة ذلك، لما يفوق نصف الكتب المدعمة. وهذا كما لو كان غرض دور النشر فحسب هو الدفع بأكبر عدد ممكن من الكتب للحصول على أكبر دعم ممكنـ ما يفيد دعم الكتب بغض النظر عن مضمونها أو محتواها المعرفي، كما اشتكى العديد من المهتمين بحق الكتاب في بلادنا..
– رابعا، والأهم من ذلك هو غياب القارئ، الذي هو نتيجة سياسة الدعم المطبقة التي تركز على العرض دون الطلب، أي على دعم دور النشر والمؤسسات المذكورة، دون الانتباه إلى دعم الجمهور المفترض أن الدعم العمومي للكتاب موجه إليه في الأصل. والنتيجة، انفصال شبه تام بين العرض والطلب، بين القارئ والكتاب.
والسؤال هنا، هو هل ما قام به قطاع الثقافة من تخفيض قوي لدعم الكتاب راجع لخلل ما في لجنة الدعم (ورئاستها بالتحديد، كما ذكر)، أم أن المسألة تتعلق، في النهاية، بقرار سياسي للقطاع هدفه تصحيح المسار؟ وبمعنى أوضح عدم اقتناع القطاع بسياسة الدعم التي كانت مطبقة إلى حين، وعزمه بالتالي على تغييرها، وكيف؟
-4-
إشكاليات كبرى إذن تطرحها مسالة دعم قطاع النشر والكتاب في المغرب ، وفي العالم العربي ككل، لعل أبرزها هي:
* الكتاب والنشر قطاع اقتصادي، كما نعرف. بمعنى أنه يشكل حلقة أو «سلسلة للقيمة» التي تتكون، وفق مصطلحات هذا القطاع، من: إنتاج، وترويج، وتوزيع. بمعنى، حتى يصل الكتاب (المنتج اللامادي للمعرفة) للقارئ وجب أن يمر عبر عناصر هذه السلسلة، التي تحوله، في النهاية، إلى منتج مادي، خاضع للتداول في سوق.
* والسؤال هنا هل وجب على الدولة دعم إنتاج الكتاب، في مجتمع ديموقراطي ليبرالي؟ تم طرح هذا السؤال منذ ستينيات القرن الماضي حين بدأ الحديث، لأول مرة، عن «الاقتصاد الثقافي». وكان جواب الاقتصاديين وقتها ببساطة هو أنه إذا كانت هناك فروع من هذا الاقتصاد (الكتاب، الموسيقى، السينما، المسلسلات..) لها سوق ولاتحتاج إلى دعم، فهناك فروع أخرى أضعف (مثل فنون العرض) تحتاج إليه.
* هذا ما سمي وقتها «بنظرية بومول»، والتي لاتزال إلى الآن محل نقاش في أوساط الاقصاد الثقافي. ويهمنا منها أن إنتاج الكتاب، وفق هذه النظرية منتج اقتصادي في سوق حرة، وأن دعمه، في بلد ديموقراطي ليبرالي، لا يفيد إلا انتهاكا وإفسادا لمنطق هذه السوق، والذي قد يصل إلى تشجيع الريع، وأشكال الانحراف التي تحدثنا عنها، والحيلولة بذلك دون قيام سوق للكتاب بذاته.
* لكن، من جهة أخرى، المعروف أن الكتاب ليس مجرد سلعة، بل هو اقتصاد ثقافي، أي منتج مادي له طابع ثقافي. وفي هذه الحالة، قد يجوز دعمه (بشكل مباشر أو غير مباشر) بل قد يصبح هذا ضروريا، وفق النظرية المذكورة ذاتها، حين لا يستطيع السوق وحده ضمان شرائه أو وصوله إلى القارئ المفترض،
* والحال أن هذا هو الحال، عموما في دول الجنوب، مثل المغرب، التي يفرض عليها المنطق بذلك (نظريا على الأقل) وجوب دعم الكتاب. لكن المشكلة كيف؟ هل تتولى الدولة ذاتها طبعه ونشره وتوزيعه (المثال الاشتراكي) أو ترك ذلك للسوق الحرة (المجتمع الليبرالي) ، أو محاولة الجمع بينهما (الديموقراطية الاجتماعية) أي ترك إنتاج الكتاب للسوق، لكن مع تقديم دعم لبعض عناصر سلسلة القيمة، (خفض الضريبة أو إلغاؤها، فرض سعر موحد ، وتقديم إعانات لإنتاجه وترويجه ونشره..)؟
* تعدد التجارب العربية في هذا الصدد، إذ في حين تركت لبنان (وإلى حد ما سوريا) مسألة الكتاب للسوق، بما جعلها تخلق صناعة ثقافية حقيقية للكتاب شملت سوقها العالم العربي، اختارت مصر ترك الكتاب للسوق مع دعمه بالطرق المذكورة (ما خفض من ثمنه وجعله في متناول القارئ المصري والعربي)، بل وتكفلت الدولة ذاتها –أحيانا- بنشر عدد من سلسلات الكتب والمجلات مباشرة (برنامج المجلس القومي للترجمة، مكتبة الأسرة..)، كما حصل في الكويت كذلك.
*بالنسبة للمغرب، فقد اختار في البداية (1968-1999) ترك إنتاج الكتاب وترويجه للسوق، دون تدخل تقريبا (مع استثناءات قليلة معزولة). وهذا قبل أن يختار بداية من سنة 2000، اتخاذ قرار لدعمه (مع المسرح) والتي تم تحويلها مع مرسوم 2013، كما ذكر، إلى سياسة أكثر تدقيقا وتفصيلا للدعم(لجنة وطنية، دفتر تحملات..)
* لكن السؤال اليوم هو: ما الغاية من الدعم؟ ولمن وجب أن يتوجه؟، وكيف؟ ذلك أنه إذا كانت الغاية هي تقريب الكتاب للقارئ، فهذه الغاية لم تتحقق، كما أن اقتصار الدعم على دور النشر (العرض) وإهمال الجمهور (الطلب) لم يعد له معنى. ما يطرح في الواقع، مدى جدوى الدعم، على الأقل في شكله الحالي.
-5-
الخلاصة أن انتقاد اتحاد الناشرين المغاربة على خفض الدعم عن الكتاب والنشر هذه السنة، يغلب عليه طابع المصلحة أكثر من شيء آخر، أي الدفاع عن «مكتسبات» أضحت للأسف غير مستحقة، في تقديري. ووجب لذلك، ليس تكريس الدعم (حتى لا أقول الريع) القائم، الذي ظهرت عيوبه ونقائصه بوضوح (الانحرافات المذكورة أعلاه، غياب القارئ…). ولكن التفكير في صيغة أخرى للدعم.
وهذا مثلما وجب التفكير في إعادة النظر في أسلوب الدعم المقدم إلى باقي فروع الصناعات الثقافية (الموسيقى والكويرغرافيا، المسرح، السمعي بصري…)، مما لا يتسع المجال للتوقف عنده هنا. وأكتفي، في ما يتعلق بالكتاب والنشر، بتقديم الاقتراحات التالية:
أ- في مسألة العرض:
إلغاء الدعم المباشر للكتاب المقدم لدور النشر والمؤسسات الأخرى.
تحويل مبلغ الدعم بأتمه إلى شراء القطاع الثقافي لبعض الكتب المختارة التي تنشرها هذه الدور (بين 50 و100 نسخة من كل كتاب). وهذا لدعم الخزانات ودور الشباب (632 خزانة، و680 دارا للشباب).
إلغاء الضريبة على قطاع الكتاب، المغربي تحديدا (أي المصنع في المغرب : إنتاجا، وترويجا، وتسويقا)، كدعم غير مباشر لدور النشر، وللتأثير كذلك على ثمن هذه الكتب في السوق.
ب- في مسألة الطلب:
تنشيط أو تنفيذ الاتفاقية المبرمة بين وزارة الشباب والثقافة والاتصال ووزارة التربية والتعليم، المتعلقة، بالتربية على القراءة في المؤسسات التعليمية (المدرسة، الثانوي، الجامعة)، بما يخلق «جيل القراء « في المستقبل.
اختيار أفضل الكتب المنشورة، لفرضها كمقررات إضافية في هذه المؤسسات (قصص روايات، كتب فكرية، علمية..).
دعم جمعيات القراءة، وإقامة مهرجانات لقراءة في كل جهات المملكة، مدعمة ببرامج في وسائل الإعلام، والأرضيات الرقمية اليوم.
يبقى السؤال المحير اليوم هو: هل ما زلنا نعيش في «عصر الكتاب»، أم أننا دخلنا إلى «عصر الشاشة» (الفضائيات، الحاسوب، الهاتف النقال، الذكاء الصناعي…)، ولن يفيد بالتالي أي دعم، انخفض أم ارتفع، لأجل إحياء الكتاب وهو رميم؟ مجرد سؤال، مطروح للنقاش.
*صحافي وكاتب