الدكتور إبراهيم علام يكتب: ثلاثون يوما في زنازين الأسد

زوج أخت المناضل حسين كوار وعاشق شبكة الكلمات المتقاطعة لأبي سلمى

 

قضى الدكتور إبراهيم علام ابن بلدة عدلون بجنوب لبنان، الأستاذ الجامعي للرياضيات بفرنسا، 30 يوما في زنازين حافظ الأسد بسوريا، من سجن كفر سوسة الشهير والمهجع إلى سجن « فرع فلسطين «، ذاق الدكتور إبراهيم علام كل أنواع التنكيل والضرب، على يدي سجاني النظام البعثي، بتهمة ملفقة وهي قتل ضابط سوري سنة 1982، رغم أنه كان في ذلك التاريخ (1982) طالبا بفرنسا بين سنتي1981 إلى 1984 .
الدكتور إبراهيم علام، متزوج بلطيفة كوار، أخت المناضل الكبير حسين كوار، أحد قياديي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، مجموعة مراكش ومدير جريدة « أنوال «، كما للدكتور إبراهيم علام علاقة خاصة بجريدة « الاتحاد الاشتراكي» بصفة عامة، وبشبكة أبو سلمى للكلمات المتقاطعة، بصفة خاصة، حيث يضعها في صفحته الخاصة بالفيسبوك، وكتب عنها قائلا : «لعشاق اللغة العربية الحريصين على دقة المعاني وحسن اختيار الألفاظ في ما يكتبونه، هذه الشبكة الأخيرة لهذا الموسم، وهي لأبي سلمى الاتحادي (الاتحاد الاشتراكي) من عدد يوم الثلاثاء الماضي».
وعن حكايته بسجون سوريا كتب الدكتور إبراهيم علام مقالا خص به جريدة « الاتحاد الاشتراكي «، وفيه يروي كيف تم سجنه داخل زنازين النظام السوري في بداية الثمانينيات من القرن الماضي… وفي ما يلي نص المقال :

 

«في نهاية سنتي الدراسية الرابعة في فرنسا لم أكن أتوقع أبداً أن أقضي فرصة الصيف من ذلك العام في سجون نظام حافظ الأسد الأكثر رعباً وإرهاباً في التاريخ على الإطلاق. في تلك السنة اندلعت اشتباكات في بيروت أقفلت جراءها الملاحة الجوية في مطار بيروت الدولي فاقترح عليَّ بعض الأصدقاء أن أعود عبر دمشق، فالمسافة من الشام إلى بلدتي عدلون في جنوب لبنان تستغرق بالسيارة بضع ساعاتٍ فقط فركبتُ الطائرة من فرنسا إلى سوريا. لكن المخابرات السورية غيّرت برنامجي وقطعت رحلتي في مطار دمشق وأودعتني السجن لأسبابٍ لم أعرفها إلا بعد أسبوع من استضافتي في سجن كفر سوسة الشهير، وهو واحد من أسوأ سجون سوريا. في البداية أضربتُ عن الطعام لمدة أربعة أيام. وفي كل يوم كانوا يضعون لي الأكل ثم يرفعونه دون أن ألمسه. السجانون بمعظمهم أشرار ومعقدون نفسيّاً يشتمون لأتفه الأسباب ويدخلون في كل مرة إلى زنازين المعتقلين ويوسعونهم ضرباً بكل الوسائل وشتماً بأقذع الألفاظ. في اليوم الرابع دخل عليّ سجانٌ لئيم ضربني بكل ما أوتي من قوّة ولمدة طويلة وكان همّه أن يكسر إرادتي لا أن يطعمني. لكن عبثاً فعل وبقيتُ على إصراري. في المساء ذهب السجان المعتوه وحل محله آخر وكان والحق يقال رحيماً متفهماً. سألني عن أحوالي فعرفته عن نفسي وأني عائدٌ من دراستي في فرنسا لقضاء فرصة الصيف مع أهلي في بلدي. شرح لي ما ينتظرني من عذاب وقال إننا هنا لسنا في سويسرا. لا حقوق لإنسان ولا لكلب. لم يجرؤ موقوف واحد في تاريخ هذا السجن الإضراب عن الطعام والأفضل لي كما قال هو أن أطيعهم ولن تلومني إلا نفسي إذا استمررتُ في الإضراب. لكنني لم أسمع كلامه فأخذوني إلى غرفة التعذيب ووضعوني في ما يسمونه دولاب وهو إطار سيارة يلتف حول رقبتي وأسفل الفخذين فيطويني ويقيّد حركاتي بحيث لا يمكن أن أتوقى ضربات السوط الوحشية التي ستنهال عليّ بلا شفقة. أتذكر جيداً لحظة بلحظة ما جرى لي في تلك الغرفة. في البداية كنتُ أتلقى الضربات بكلّ رباطة جأش ودون أن يرف لي جفن وكنت أعدّها واحدة اثنتان … وظللتُ أحتملها حتى تجاوزت العشرين ثم صرختُ لا إرادياً أوّل صرخة من شدة الألم، تركتُ العدّ، وتتالت صرخاتي وتردد صداها في أقبية السجن حتى سمعني وأسف لحالي كل من فيه. وظلت الضربات القوية تنهمرُ على أجنابي وفي أخمص القدمين حتى انتفخت قدماي واحتقن الدمُ فيهما وصارتا مثل طابتين فأخرجوني من الدولاب وساعدني شخصان على الوقوف فلم أستطع فحملاني إلى دورة المياه وأطلقا الماء البارد على القدمين لمدة كافية أن تبعد عني مرض الغرغرينا. وعبثاً حاولا مساعدتي على الوقوف وكان الألم شديداً جداً فلم أستطع فسحباني سحباً على الأرض إلى زنزانتي ورمياني فيها. فقضيتُ ليلتي تلك وأنا أتوجّع وأبكي في سرّي بلا صوت بكاءً مرّاً هدّ كياني. لا أعرف ما الذي جنيته حتى أعاقب بهذه الوحشية. كيف لهم أن يظلموا طالباً مثلى في سن العشرين قضى أيامه في الغربة القاسية يشقى في الدراسة والتحصيل ثم يعود ليأخذ قسطاً من الراحة بين أهله وأقرانه. أنا لم أنخرط في أي نشاطٍ سياسي معادٍ لسوريا ولم أحمل السلاح قط. فما السبب الذي أتى بي إلى هنا؟
وفي أوّل تحقيق قال المحقق وأنا معصوب العينين إني متهم باغتيال ضابط سوري في سنة 1982 دون أن يحدد اليوم والشهر فقلتُ إنني لم أغادر فرنسا من سنة 1981 إلى سنة 1984 وهذا مؤكد بأختام الدخول والخروج على جواز سفري الذي هو بين أيديكم. ثم سألني عن بعض الأشخاص من أبناء قريتي فقلتُ إني أعرفهم فرداً فرداً. انتهى التحقيق هنا وأمر بإعادتي إلى الزنزانة. لم يزدني هذا التحقيق إلا عجباً. تهمة بهذا الحجم تتطلب دقة بالأسئلة عن المكان الذي جرت فيه الجريمة والأسلحة المستعملة وعلاقتي بالأشخاص المتورطين ومواجهتي بحقائق عني ترغمني على الاعتراف أو شيء من هذا القبيل. لم أعرف حتى اسم هذا الضابط الذي اتهمت بقتله ولا اليوم والمكان الذي قتل فيه. سؤالهم عن الأشخاص من قريتي كان يهدف فقط لإثبات هويتي وإذا ما كنتُ فعلاً من عدلون. فهم لم يطلبوا أي معلومات عنهم ولا عن الذي يجمعني بهم غير أنهم أبناء بلدتي.
بعد خمسة أيام نقلوني إلى المهجع. وهو غرفة صغيرة عرضها متران فقط وطولها حوالي عشرة أمتار وكان يهجع فيها ظلماً وعدواناً حوالي ثلاثين سجيناً سياسياً كلهم مثلي أبرياء. كنا نستمد النور من لمبة وحيدة معلقة في السقف. السجن كله تحت الأرض، لم نخرج إلى الشمس ولو لمرة واحدة. كنا ننام على جنبنا شبه متلاصقين فلا متسع في المهجع للنوم على الظهر أو البطن كنتُ أنام على جنبي طوال المدة وإذا أردتُ أن أنتقل إلى جنبي الآخر أطلب المسامحة من الجارين على الإزعاج وإذا نهضتُ لقضاء حاجة يضيع مكاني وعليّ أن أبذل جهداً وأفاوض لاسترجاع مكانٍ أنام فيه.
كان معنا في المهجع الكاتب والشاعر الفلسطيني حسن البحيري وكان يشغل رئيس قسم البرامج الثقافية في إذاعة دمشق تهمته أنه ألقى قصيدة لأصحابه في سهرةٍ ببيته ثم دس القصيدة في جيبه وبعد خروج الأصحاب طرق بابه ضابط المخابرات وطلب منه أن يُخرج القصيدة من جيبه ثم أخرجه من بيته من بين أولاده في الليلة ذاتها إلى السجن حيث قضى أحد عشر شهراً قبل مجيئي وبقي من بعدي لا أدري إلى متى. وكان معنا أيضاً ضابط في الجيش العربي السوري وصحفي وخطاط في جريدة البعث ذنبه أنه نسي الخط المستقيم فوق الطاء فصارت صاداً في عبارة «الرئيس البطل» وخرجت الجريدة من الطباعة بالعنوان العريض «الرئيس البصل» فجاءوا به إلى سجن كفر سوسة منذ أكثر من سنة. وكان معنا طبيبٌ من عائلة دمشقية عريقة. كان أهله يحملون له كل يوم ما يكفي لإطعامنا جميعاً فكنا نستغني تماماً عن طعام السجن الرديء. وكان معنا مهندسون وأساتذة وطلاب مثلي. وكانت الأحاديث والنقاشات راقية وفي كل المجالات ما عدا السياسة طبعاً. وكان معنا بدويّ أميٌّ لكنه خارق الذكاء انتهى به الأمر وطول المدة لأن يجادل في نظرية داروين والنسبية. كان السجناء يتقاسمون الأشغال اليومية من طهي وتنظيف وغسيل المواعين ولما جاء دوري في الغسيل مرّ السجّان الرحيم ورآني أفرك الصحون وبقربي جبلٌ من الأواني فقال لي انهض واترك هذا وقال لرئيس المساجين المسؤول عن المهام: أترك هذا الشاب، طالبُ الهندسة في فرنسا لا يغسلُ الأطباق. حاولتُ أن أشكره فنهرني بغضب وفهمت أنه لا يريد أن يبدو عليه متعاطفاً حتى لا يُعاقب.
ثم نقلوني إلى سجنٍ آخر من أشهر وأقسى السجون الدمشقية وهو ما يسمونه «فرع فلسطين» والاسم إهانة لفلسطين عبّر عن رفضها الكثير من المناضلين الفلسطينين.
في هذا السجن سألني المحقق الذي نسي قضية قتل الضابط عن رأيي بمواضيع سياسية عامة مثل الوجود السوري في لبنان وموقفي من بعض الأحزاب وكل هذا « العلاك الفاضي» كما يقول السوريون. وطلب مني أسماء أشخاص يمكن أن يشهدوا بصحة أقوالي. وهنا تفطنتُ إلى مدير الثانوية في قريتي الذي ترقى في حزب البعث فرع لبنان حتى صار عضواً في القيادة القطرية وكان بيني وبينه الكثير من المودة والتقدير والإحترام. وبالفعل في اليوم التالي جاء الفرج وأطلقوا سراحي بعد أن صادروا نصف ما في حقيبة السفر من أمتعة وكتب. وقال المحقق مازحاً بعد أن أزال العصبة عن عيوني: إن لم تسامحنا بما أخذناه سنعيدك إلى الزنزانة. ابتسمت تصنّعاً لهذه المزحة الغليظة قائلاً «مبروكين عليكم». وحملت ما تبقى مني ومن أمتعتي وخرجتُ إلى الشمس بعد ثلاثين يوماً في ظلام وأقبية أكثر الأنظمة الشمولية شراً وبلاء».


الكاتب : الدكتور إبراهيم علام

  

بتاريخ : 13/12/2024