الدكتور سعيد عفيف لـ «الاتحاد الاشتراكي»: الهيكلة الشاملة لقطاع الصحة تتطلب مسؤولية جماعية تضع الوطن والمواطنين على رأس الأولويات

استمرار تجاهل مراجعة التعريفة المرجعية يزيد من ثقل
المصاريف العلاجية على كاهل المرضى

 

يعاني المغرب من خصاص كبير في الأطر الصحية عامة والطبية خاصة، ويعتبر نزيف الهجرة صوب الخارج، وقلّة أعداد الخريجين، وضعف التكوين والتكوين المستمر، وغياب خارطة صحية، إضافة إلى سوء توزيع الأطباء ترابيا، فضلا عن غياب التحفيزات وغيرها، من الإشكالات الكبيرة التي لها وقعها وتبعاتها المتعددة على المنظومة الصحية.
إكراهات متعددة أرخت بظلالها على طريقة ولوج المواطن للصحة، مما رفع من منسوب الانتقادات، سواء من طرف المهنيين أنفسهم أو من طرف المواطنين، وجعل التنظيمات المهنية الصحية، النقابية والجمعوية، تطالب منذ سنوات بالقيام بمجموعة من الإصلاحات، التشريعية بالأساس، إضافة إلى اعتماد آليات الحوار والتنسيق وإعمال الحكامة لتحقيق النجاعة على مستوى التدخلات.
واليوم ومن خلال مشروع قانون الإطار، تتضح معالم خارطة الطريق المتعلقة بمستقبل الصحة في بلادنا، والتي تحتاج إلى تأطير ومواكبة من طرف كل الشركاء والمتدخلين، لكي لا يتم تكرار نفس الأعطاب، ولتسليط الضوء على ركائز هذا المشروع وآثاره على الصحة العامة، وتوضيح المسؤوليات الفردية والجماعية من أجل إنجاح ورش الحماية الاجتماعية، خاصة في الشق المتعلق بالتغطية الصحية، التقت «الاتحاد الاشتراكي» الدكتور مولاي سعيد عفيف، رئيس الفيدرالية الوطنية للصحة والجمعية المغربية للعلوم الطبية.

 

أكد الدكتور مولاي سعيد عفيف في تصريح لـ «الاتحاد الاشتراكي» أن الإشكال العميق الذي ظلت تعاني منه المنظومة الصحية يتمثل في القيام بجملة من الإصلاحات الجزئية واعتماد برامج ومخططات محدودة في الزمان والمكان، لم تعرف الكثير منها الاستمرارية، لأن سياسات أخرى حلّت محلها لتمحوها وكأنها لم تكن، مشددا على أنه اليوم، وبفضل الاهتمام الخاص لصاحب الجلالة الملك محمد السادس بصحة المواطنين والمواطنات، الذين اعتبرهم جلالته من أفراد أسرته، وبالعودة إلى الخطابات الملكية التي أكدت على إعادة هيكلة شاملة لقطاع الصحة وليس فقط القيام إصلاح جزئي، وبالرجوع إلى الورش الملكي للحماية الاجتماعي، فإن قطار تطوير المنظومة الصحية قد تم وضعه على سكته الصحيحة، وكل الخطوات ذات البعد التشاوري والتنسيقي بين كافة المتدخلين تؤكد ذلك، كما أن الترسانة القانونية المواكبة لتعميم التغطية الصحية تكشف عن ذلك وبوضح كبير، وعلى رأسها مشروع القانون الإطار 06.22 بمختلف دعاماته.
وأوضح رئيس الفيدرالية الوطنية للصحة أن أهم خطوة يجب القيام بها في ظل التغير الكبير المرتقب في قطاع الصحة تكمن في الاهتمام بالموارد البشرية، إذ أنه لا يمكن للمنظومة الصحية أن تكون متقدمة بالبنيات التحتية فقط وبالتجهيزات، مبرزا أن العنصر البشري هو العمود الفقري لقطاع الصحة، والجميع يعلم كيف أن هناك مراكز صحية للقرب كثيرة تم تشييدها وتجهيزها ولكنها وبكل أسف ظلت مغلقة بسبب ضعف وندرة الموارد البشرية، مما يتطلب اعتناء أكبر بهذه الفئات المختلفة. وأضاف الدكتور عفيف أن الجميع تابع كيف جاءت اليوم الوظيفة العمومية الصحية لتجيب عن الكثير من علامات الاستفهام في هذا الصدد بالنسبة للقطاع العام والجامعي.
وشدد الدكتور عفيف على أن إكساب القطاع الصحي العمومي الجاذبية لن يتأتى إلا من خلال تحفيز المهنيين، مبرزا أنه حين الحديث عن الأطباء نموذجا، فإن الأجرة الشهرية يجب أن تتوافق مع سنوات التكوين، سواء بالنسبة للطبيب العام أو للطبيب الخاص، والتي تتراوح ما بين 9 سنوات سابقا، 8 مستقبلا، و 14 سنة، مؤكدا على أنه لهذا السبب يجب أن يكون الأجر منصفا وعادلا ويتعين ضمان الاعتبار المادي والمعنوي للمهنيين، وحمايتهم والدفاع عنهم. وأضاف عفيف بالقول «نحن نعاين جميعا حالات الاعتداء اللفظي والبدني والعديد من الحملات المسيئة والمشيطنة لصورة الطبيب، على سبيل المثال، والتي تتم صياغتها وتشكيلها بصيغة التعميم هنا وهناك، في القطاعين العام والخاص على حد سواء»، الأمر الذي يرى الخبير الصحي بأنه يجب القطع معه.
وأبرز رئيس الجمعية المغربية للعلوم الطبية في تصريحه للجريدة أن الحديث عن الموارد البشرية يدفع للوقوف عند النقطة المتعلقة بالتكوين الأساسي الذي تم اتخاذ قرار بتقليص مدته للسماح بتوفير عدد أكبر من الخريجين، موضحا أن هذه الخطوة يجب أن تحرص على شرط الجودة من جهة وأن ترافقها إجراءات لتوفير أرضيات التداريب من جهة أخرى لاستيعاب أعداد الطلبة وضمان تكوين وفقا للمعايير المطلوبة. ودعا عفيف إلى أهمية الاستفادة من خبرات الأساتذة الذين توجهوا للعمل بالقطاع الخاص وإلى أن يتم استثمار كل البنيات الصحية سواء تعلق الأمر بالمستشفيات الجامعية أو الجهوية أو الإقليمية والمصحات والعيادات من أجل تكوين أطباء الغد، والعمل على إحداث كليات في كل جهات المملكة ونفس الأمر بالنسبة للمستشفيات الجامعية، مشددا في هذا الإطار على أن الجميع يرى اليوم بأن مدينة في حجم الدارالبيضاء هي في حاجة ماسة إلى مستشفى جامعي ثانٍ، ثم الاهتمام بالتكوين المستمر.
وأكد الدكتور مولاي سعيد عفيف أن إصلاح المنظومة الصحية بشكل كامل، لا بد أن يرافقه تنزيل خارطة صحية جهوية تضمن ولوجا عادلا ومتكافئا أمام الجميع للعلاجات على قدم المساواة من طنجة إلى الكويرة، وتؤسس لشراكة فعلية بين القطاعين العام والخاص، لا تقف عند حدود اقتناء خدمات تصفية الكلي، وأن يساهم فيها كل المعنيين المباشرين والمتدخلين الترابيين والسلطات المحلية للتدقيق في الأولويات وتحديد الحاجيات وفقا لرؤية شمولية. وأشار المتحدث كذلك إلى النقطة المتعلقة بمسار العلاجات، الذي أكد على أن هذا النقاش يحظى بأهمية كبرى اليوم، وسيزداد تزامنا والدخول الاجتماعي، لأنه محدد أساسي من محددات ضمان الحق في الصحة باعتباره حقا دستوريا، ويرتبط بحق آخر لا يقل أهمية وهو حق الاختيار. وأكد الخبير الصحي على أن هذا المسار يجب أن يحترم مجموعة من الخصوصيات المرتبطة بالمريض من جهة وبالطبيب المعالج، الذي قد يكون عاما أو خاصا، والذي قد يتحول في وقت معين إلى موجّه صوب طبيب آخر حسب الضرورة المرضية، ويشعر الصندوق المؤمّن والوكالة الوطنية للتأمين الصحي من أجل التتبع وكذلك في الشق المرتبط بالوقاية. وأبرز عفيف أن 3 في المئة من المنخرطين في نظام التأمين الإجباري عن المرض يستهلكون 50 في المئة من ميزانيته بسبب كلفة الأمراض المزمنة التي يعانون منها، ومن بينها السرطان والسكري والقصور الكلوي والضغط الدموي، مشددا على أنه من الضروري إيلاء الوقاية الأهمية الكبرى التي تستحقها لتفادي هذه المآلات المكلفة صحيا وماديا، ويتعين تشجيع الدواء الجنيس واحترام البروتوكلات العلاجية.
وبخصوص الدعامات التي جاء بها مشروع القانون الإطار والخطوات المهيكلة التي سيعرفها قطاع الصحة، أبرز الدكتور عفيف في ارتباط بالنقطة المتعلقة بإحداث هيئة عليا للصحة أن أطباء للقطاع الخاص طالبوا منذ سنوات بإحداث هذه الهيئة وأن يتم تعيين رئيسها من طرف صاحب الجلالة، لكي يتأتى التوفر على نظرة شمولية تخص السياسة الصحية في بلادنا على المدى المتوسط وكذا البعيد، بعيدا عن كل الحسابات السياسوية والصراعات الانتخابية، بجعل الوطن والمواطنين على رأس الأولويات. وأوضح رئيس الفيدرالية الوطنية للصحة أن هيئة بهذه الأهمية الكبيرة ستعمل على سن سياسات واضحة ومستمرة، خاضعة للتقييم خلال كل مراحلها، وستقطع مع تعدد البرامج التي تتغير بتغير الحكومات، وستنظر للصحة بالشكل الصحيح، خاصة وأن الجائحة الوبائية قد بينت للجميع كيف أن هذا القطاع هو إنتاجي وليس فقط استهلاكيا. وأضاف الدكتور عفيف أنه إلى جانب هذه الهيئة هناك الوكالة الوطنية للأدوية، مشيرا كيف أنه اتضح للجميع مرة أخرى أهمية واستعجالية تشجيع المختبرات الوطنية ودعم علامة «صنع في المغرب»، مشددا على أن الصناعة الدوائية المحلية هي صمام أمان، وأحد السبل الرئيسية لتحقيق السيادة الدوائية والأمن الصحي، مبرزا أنه تم تسجيل تراجع في نسبة التصنيع التي كانت تؤمّن حوالي 80 في المئة من الاحتياجات الدوائية إلى حوالي 65 في المئة، لكنه لا بديل آخر عن هذه الصناعة وعن دعمها وتشجيعها، مؤكدا على أن من شأن الوكالة تحقيق وضمان هذا الأمر، بما يحول دون انقطاع الأدوية والمستلزمات الطبية بشكل عام ويجعلها في متناول المواطنين من خلال تبسيط المساطر الإدارية المختلفة وإعمال الحكامة وتدبير كل التفاصيل بكامل الاستقلالية. وفي نفس الإطار أشار الدكتور عفيف إلى خطوة إحداث وكالة للدم ومشتقاته، معتبرا أن هذه المادة الحيوية التي لا تصنع ولا يتم توفيرها إلا من خلال التبرع، في وجودها تتواصل الحياة وفي انقطاعها وانعدامها تصبح حياة المرضى وضحايا الحوادث المختلفة في خطر، وبالتالي فهي بحسبه لا يمكن إلا أن تشكل قيمة مضافة إلى جانب باقي الهيئات وفي إطار السياسات القادمة في تحسين ولوج المواطن للعلاج وللصحة بشكل عام.
ووقف الدكتور عفيف في تصريحه للجريدة عند نقطة تثقل كاهل المرضى والمتعلقة بمنسوب الإنفاق الصحي، مشيرا إلى أن استمرار تحمل المؤمّن لشق كبير ومهم من المصاريف العلاجية عن كل ملف مرضي أمر يجب أن يعاد فيه النظر بشكل عاجل، مؤكدا على أنه لا يمكن الحديث عن عدالة صحية في ظل استمرار معيقات مادية تحول دون ولوج المرضى للصحة وللعلاج، مبرزا أن هناك مرضى يتحملون حوالي 54 في المئة من مصاريف ملفاتهم والملفات التي تخص أفراد أسرتهم الصغيرة، أما إذا تم احتساب نسبة الاشتراك فإن النسبة قد تصل إلى 60 في المئة. وشدد الخبير الصحي على أن هذا الإشكال الكبير يمكن تجاوزه باحترام القانون، أي بمراجعة التعريفة المرجعية التي تم توقيع اتفاقيتها في 2006، وتم الالتزام بمراجعتها كل 3 سنوات، الأمر الذي لم يتم احترامه. وأوضح المتحدث على أن الحكومة اليوم ومع الدخول الاجتماعي والسياسي لهذا الموسم مدعوة للانكباب على معالجة هذا الوضع، لأن المصاريف المسترجعة تتم باحتساب كلفة كل ملف بناء على ما حددته الاتفاقية من تسعيرة، سواء التي تخص الطبيب العام أو الاختصاصي أو كلفة الإنعاش أو أي تدخل آخر، والحال أن واقع الأسعار الحالي هو مختلف تماما عن مضمون هذه الاتفاقية، مما يجعل المريض يؤدي الفرق إن أراد العلاج.
ونبّه الدكتور عفيف إلى إن مراجعة التعريفة المرجعية، وخلافا لما يروّج له البعض، لا تعني رفع الأطباء لتسعيرة العلاج، وإنما الرفع من نسبة المصاريف المسترجعة باحتساب واقعي لكلفة العلاج اليوم، وهو ما سيشجع على الولوج للخدمات الصحية المختلفة، علاجا ووقاية كذلك، مشددا في نفس الوقت على أنه إذا ما تم تخصيص درهم واحد في الوقاية فإنه كفيل بأن يوفر 8 دراهم على مستوى العلاج، مضيفا بأن هذه المراجعة ستقطع مع عدد من الممارسات كالشيك الذي يقدم ليس كضمان وإنما كوثيقة أداء، داعيا ارتباطا بهذه النقطة الصناديق المدبرة للتأمين الصحي إلى احترام القوانين بمنح شهادة التكفل بالعلاج في أجل 48 ساعة وتسديد المصاريف العلاجية في أجل اٌقصاه شهرين، مؤكدا على أن كل هذه المعيقات الإدارية المرتبطة بالتعريفة إذا ما تم الاهتمام بمعالجتها فسيصب ذلك في مصلحة المواطن.
وفي السياق ذاته، أوضح الدكتور عفيف أن احترام الطبيب للتعريفة المرجعية والعمل بها يجب أن ترافقه تحفيزات، على غرار ما هو معمول به في سائر الدول ومنها فرنسا، إذ أن نسبة الاشتراك في التأمين عن المرض للأطباء فيها محددة في 6.5 في المئة، لكن بالنسبة لمن يحترمون التعريفة المرجعية فإن الصندوق يؤدي عنهم نسبة 6.4 في المئة ولا يسددون هم سوى 0.1 في المئة، وهذا مثال يؤكد رئيس التجمع النقابي للأطباء الأخصائيين بالقطاع الخاص على منهجية العمل التي يمكن القيام بها في إطار تكاملي يهدف إلى خدمة المصلحة العامة وإلى تحفيز الكل للعمل من موقعه. واختتم الدكتور عفيف تصريحه بالتأكيد على ضرورة تعزيز التشاور بين مختلف المتدخلين في كل المراحل والخطوات التي تتعلق بالمنظومة الصحية، سواء في الشق الخاص بالمواطنين أو بالمهنيين بمختلف فئاتهم، في القطاعين العام والخاص على حد سواء، منوها في نفس الوقت بقرار إحداث مديرية للقطاع الخاص في الوزارة ودعا بالمناسبة إلى تسريع تنزيله، إضافة إلى ضرورة تطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والعمل على الرفع من المردودية والنجاعة باعتماد الحكامة لتسريع وتيرة التكفل والعلاج والتعويض، مؤكدا في هذا الباب على ضرورة تشجيع الرقمنة وإحداث بطاقة خاصة بالمواطن، تغنيه عن الوثائق وعن التنقل والتردد على الكثير من المصالح وتبسط من الإجراءات على المشرفين الصحيين هم أيضا.


الكاتب : حاوره: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 13/09/2022