الدكتور عبد الرحمان بن المامون لـ «الاتحاد الاشتراكي»: المستشفى العمومي لابد أن يكون قاطرة للصحة في بلادنا

نصف المغاربة فقط يلجون للعلاجات مرة واحدة في السنة

بسبب الثقل المادي لكلفة الخدمات الصحية

 

يعتبر النظام الصحي بمثابة العقد الذي يتكون من مجموعة من الحلقات المتصلة والمترابطة فيما بينها، وهو بهذا الشكل كلّ لا يتجزأ، وبالتالي فإن أي إصلاح لا يمكن إلا أن يكون شموليا، من أجل تحقيق الأهداف المتوخاة المتمثلة في تجاوز الأعطاب المسجلة والحصول على منظومة فعالة وناجعة تلبي احتياجات المواطنين الصحية على قدم المساواة، بشكل عادل ومتكافئ وبالجودة المطلوبة.
مفهوم النظام الصحي وطبيعته والوظائف التي يرتكز عليها، إلى جانب بعض مظاهر الاختلالات بالإضافة إلى دور القطاع العام، في ارتباط بمشروع الحماية الاجتماعية المهم، وخاصة في الشق المتعلق بتعميم التغطية الصحية، بعض من الجوانب التي سعت «الاتحاد الاشتراكي» لتسليط الضوء عليها مع الدكتور عبد الرحمان بن المامون، الخبير في الصحة العامة، الذي أجرت معه الحوار التالي:

n بداية ما معنى النظام الصحي وما هي الوظائف التي يقوم عليها؟

pp إن النظام الصحي هو مجموع المنظمات والمؤسسات والموارد المادية والبشرية التي تساهم في تنزيل وأجرأة السياسات الصحية لتحسين صحة المواطنين، وفقا لتعريف منظمة الصحة العالمية، ولأجل تحقيق هذا الهدف لا بد من الاعتماد على مجموعة من الوظائف، وعلى رأسها آلية الحكامة الجيدة والتي تشمل السياسات الصحية، القوانين، المحاسبة والتحفيز الكافيين وغيرها.
وظائف تهمّ كذلك النظام التمويلي الذي يتوخى مساعدة المواطن على الولوج للخدمات الصحية وحمايته مما يسمى بالمصاريف الكارثية، التي وبكل أسف حطّمت التوازنات المالية للعديد من الأسر التي وجدت نفسها سريعا في وضعية الفقر والهشاشة عقب إصابة أحد أفرادها بمرض مكلّف ماديا، كما هو الحال بالنسبة لأمراض السرطانات وغيرها.
وظيفتان أساسيتان ينضاف إليهما شق بالغ الأهمية أيضا وهو المتعلق بالموارد البشرية التي يجب أن تكون كافية كمّا وكيفا، وتستطيع بفعل الكفاءة التي يتعين أن تتوفر عليها الاستجابة لحاجيات وانتظارات الساكنة المتطورة والمتجددة بحكم تدخل مجموعة من المحددات المختلفة كما هو الحال بالنسبة لمحدد البيئة الذي يعتبر أساسيا.
أما بخصوص الوظيفة الرابعة فإن الأمر يتعلق بالخدمات الصحية، وهنا يجب تقديم علاجات فعالة وسليمة ذات جودة لا تعرض الشخص للأخطار، في أي مكان وأي زمان. ثم هناك الشق المعلوماتي، بحيث يتعين أن يكون النظام الصحي قادرا على التوفر على المعلومة وتحليلها ونشرها، والتي تتعلق بأداء المنظومة الصحية والمحددات المختلفة التي تتفاعل مع صحة المواطن. وأخيرا هناك الجانب المرتبط بالأدوية واللقاحات والمستلزمات الأساسية وكل التكنولوجيات الموجهة لخدمة صحة المواطن التي لابد أن تكون سليمة وذات جودة ومتوفرة بشكل يجعلها في متناول الجميع.

n حين نتحدث عن الخدمة الصحية، هل استطعنا الانتقال من المقاربة الكلاسيكية في التعاطي مع المرض إلى رؤية أكثر تطورا تأخذ بعين الاعتبار الحق في الصحة إلى جانب حقوق أخرى؟

pp إن كل نظام صحي يسعى لتوفير الأمن الصحي من خلال مقاربات مختلفة، ويهدف لتحسين صحة الأفراد والجماعات، سواء من خلال تقديم الخدمة الصحية وبالتالي تمكين المريض من العلاج، أو عبر سنّ سياسات قادرة على الرفع من مستوى التثقيف الصحي، والتركيز على الوقاية كمدخل أساسي، وبالتالي فإن استحضار مختلف التحديات التي تعيشها المنظومات الصحية اليوم يعتبر أمرا ضروريا من أجل نظام صحي ناجع وفعال، وهنا نجد الشق المتعلق كذلك بحماية السكان من المخاطر والتهديدات الصحية المستجدة، أخذا بعين الاعتبار كذلك أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ يجب حمايتهم أيضا من التداعيات المالية للأمراض.
لهذا، فإن أي نقاش اليوم يجب أن ينصب حول توفير منظومة تسمح للمواطن بالمساهمة في اتخاذ القرارات التي تهم الصحة، وتضمن الولوج العادل للعلاجات التي تتمركز على الإنسان لا على المرض في حد ذاته، خاصة وكما أشرت، فإن المريض هو وحدة مركبة تتفاعل مع المحددات الأحرى للصحة، وبالتالي فهناك أمراضا مرتبطة بطبيعة البيئة أو التغذية أو غيرهما من المحددات، بما فيها المحدد الثقافي.

n جرّب النظام الصحي في بلادنا مجموعة من الوصفات التي لم تمكّن لحدّ الساعة من علاج أعطابه، واليوم نتحدث عن إصلاح شامل، وقد أشرتم في حديثكم إلى الوظائف، فهل يكفي التركيز على وظيفة واحدة لتطوير المنظومة أم أن أي إصلاح جزئي سيكون قاصرا؟

pp إن منظمة الصحة العالمية تؤكد على اعتماد المقاربة النظامية، والجواب عن سؤالكم الدقيق يكمن في هذا التأكيد، لأنه لا يمكن إصلاح النظام الصحي بالاعتماد على وظيفة واحدة بل يتعين معالجة جميع الوظائف التي تعاني من الاختلالات، ونحن في المغرب، وبالرغم من كل المجهودات المبذولة، فإن النظام الصحي يعاني وبكل أسف من مجموعة من الأعطاب، بسبب شلّ وظيفة أساسية وهي وظيفة الحكامة، ضدا عن كل الخطط والمخططات والاستراتيجيات التي تم إحداثها، التي لم تمكّنا من التوفر على سياسة صحية تحدد التوجهات الكبرى في الميدان الصحي بناء على تشخيص علمي دقيق، لتكون المناظرة الوطنية الأولى على عهد المغفور له الملك محمد الخامس هي الوحيدة التي أطّرت لأي نظام صحي كنا نسعى إليه في تلك المرحلة.
اليوم لا زلنا أمام معضلات كبيرة، تتمثل في مركزة النظام الصحي واستمرار اتخاذ القرارات مركزيا وتجميع مجموعة من السلط والصلاحيات في بعض المسؤوليات، بعيدا عن الخصوصيات الجهوية والمحلية، لهذا وجب إعادة النظر في العديد من المساطر والتدابير الإدارية التي يمكن من خلال العقلنة واعتماد الحكامة الناجعة إيجاد حلول للعديد من الإشكالات بشكل سلس يسمح بتطوير المنظومة وتجويد خدماتها.

n تعبّد التغطية الصحية الطريق للمواطنين نحو مختلف الخدمات الصحية على مستوى الفحص والعلاج، المغرب يقطع اليوم شوطا مهما نحو تعميمها من خلال ورش الحماية الاجتماعية. ما هي أهمّ التدابير التي ترون أنها يجب أن تصاحب تنزيل هذا المحور، وهل يمكن للمستشفى العمومي أن يستعيد الريادة صحيا؟

pp بداية أود الإشارة إلى بعض الأرقام الدّالة، ومنها أن المصاريف العامة للصحة تتجاوز 50 مليار درهم في السنة، ويؤدي المواطن ما بين 52 و 53 في المئة من نفقات المصاريف العلاجية، علما بأن الاستفادة من الخدمة الصحية والتوفر على تغطية هو رهين بالأداء المباشر. وبلغة الأرقام دائما نجد أن استعمال الخدمات العلاجية ضعيف جدا لأنه لا يتجاوز 0.6 في المئة، وهو ما يعني أن نصف المواطنين المغاربة فقط يلجون للعلاج مرة واحدة في السنة، كما أن معدل الاستشفاء لا يتجاوز 5 في المئة، وهذه كلها أرقام تبين عدم قدرة جميع المغاربة على الولوج للخدمة الصحية وللعلاج بسبب العائق المادي وغياب تعميم للتغطية الصحية.
لقد جاء الخطاب الملكي واضحا وحاسما من أجل توفير التغطية الصحية لكافة المواطنين لأن المصاريف الصحية تثقل كاهل المحرومين منها وتؤرق بالهم، خاصة وأن فئة مهمة لا تتوفر على ضمان صحي. صحيح أن بلادنا قطعت أشواطا بالتدريج في هذا الباب، لكنها اليوم تصل إلى مرحلة الحسم، وهنا تكمن أهمية ورش الحماية الاجتماعية في أبعاده كلها، وعلى رأسها البعد المتعلق بتعميم التغطية الصحية، وهو ما يتطلب تدابير عقلانية تساهم في تجميع الموارد وتعزيز الجهود، كما هو الحال بالنسبة لضرورة توحيد الصناديق المدبرة للتأمين عن المرض والعمل على توفير كل الإجراءات التي تساهم في توفير تغطية صحية تقوم على مبدئين أساسيين هما المساواة وجودة الخدمات الصحية.
وبالعودة إلى الشق الثاني من سؤالكم المتعلق بالمستشفى العمومي، فإنه بالفعل يجب في إطار التدابير التي ترافق تنزيل ورش الحماية الاجتماعية وتعميم التغطية الصحية أن يقوم المستشفى العمومي بتأهيل ذاته لأنه يجب أن يكون قاطرة للصحة لا مكمّلا، خاصة وأن كل الجهود التي تم بذلها لم تقدم ما كان منتظرا منها، والجميع يلاحظ كيف أن هناك خدمات صحية غير متوفرة بالمستشفى العمومي أو أنها غير كافية أو كيف أن بعضها لا يحترم معياري الجودة والسلامة، وبالتالي فإن إصلاحه يعتبر ورشا أساسيا في ظل الورش الكبير.

n من بين التحديات التي قد تُطرح وبقوة خلال تعميم التغطية الصحية إشكالية ارتفاع الطلب في ظل الخصاص الكبير الذي تعرفه الموارد البشرية، وهو ما أشرتم إليه على مستوى الوظائف، إن على مستوى العدد الإجمالي للمهنيين كافة أو في ارتباط ببعض التخصصات، وهو ما يحيلنا كذلك على طبيعة التكوين. في نظركم كيف يمكن استيعاب الطلبات والاستجابة لها، وما هي البدائل المتاحة؟

pp يعاني المغرب بكل تأكيد من خصاص كبير في الموارد البشرية، وهو أمر يعرفه الجميع وتم التنبيه إليه في مناسبات عديدة، وكما أشرتم فإن تكوين وإنتاج مهنيي الصحة تعتريه العديد من النقائص، وبالرغم من الخطوات التي تم الإعلان عن القيام بها في وقت سابق، من قبيل الوصول إلى رقم 3 آلاف خريج من كليات الطب والصيدلة في السنة، فإن هذا الأمر لم يتحقق، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد الموارد البشرية بمختلف فئاتها في القطاع 17.4 لكل 10 آلاف نسمة، ضمنها 7.1 طبيب فقط لكل 10 آلاف نسمة.
اليوم من المهم أن نتساءل عن الإجراءات المتخذة المرتبطة بتقليص سنوات التكوين والوقوف على مدى ملائمة هذا الأخير للحاجيات المتعارف عليها والجديدة منها، في ظل استمرار مسلسل الهجرة الذي ينضاف إليه التقاعد، لهذا وكما أشرنا لذلك فإن التكوين يحتاج إلى معالجة عقلانية وإلى توفير كليات الطب والصيدلة بكافة جهات المملكة ونفس الأمر بالنسبة للمستشفيات الجامعية، وتطوير بنيات التداريب، وتأهيل المستشفى العمومي، وتطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص ومدّ الجسور بينهما بما يخدم صحة المواطنين عبر تحديد الوظائف والاختصاصات وإعمال مبدأ المحاسبة.

n ماذا عن أدوار باقي الوظائف الأخرى والتعديلات التي يجب أن تشملها لتطويرها والرفع من مردوديتها؟

pp إن هذه الوظائف هي متكاملة فيما بينها، وأي إصلاح لا بد أن يكون شموليا ويتناول كل وظيفة بعينها في تكامل مع غيرها، وبخصوص الشق المتعلق بالأدوية فمن المهم الإشارة إلى معطى مهم، والمتمثل في تغير البنية الوبائية في ظل التغيرات الديموغرافية، وبالتالي وجب ملائمة العرض الصحي مع هذا الوضع، في ظل تراجع الأمراض المعدية خلافا للأمراض المنبعثة والمستجدة، وفي ارتباط بثقل الأمراض المزمنة من قبيل السكري والضغط الدموي وأمراض القلب والشرايين والسرطانات، لهذا يجب اتخاذ ما يلزم على مستوى الوقاية والعلاج وتوفير الأدوية الضرورية تحقيقا للأمن الدوائي في بلادنا.
ثم هناك جانب آخر وهو المتعلق بالنظام المعلوماتي وتوفير المعلومة الصحية، وهنا تجب الإشارة إلى غياب قدرة كبيرة على التحليل والتوفر على المعلومة الاستراتيجية ذات الصلة بالبحث العلمي، الأمر الذي يجب تداركه، والرفع من إمكانيات ورش الرقمنة مع ضرورة حماية المعطيات الشخصية.

n عشنا جائحة كوفيد 19 بتبعاتها على النظام الصحي أساسا وباقي القطاعات الأخرى، ومن المحتمل حدوث جائحات أخرى، هل منظومة الرصد واليقظة في منظومتنا قادرة على القيام بأدوار استباقية وتعبئة الإمكانيات لمواجهة أي تحدّ صحي آخر؟

pp لقد أشرت إلى تحديات صحية مختلفة ستواجه الأنظمة الصحية عبر العالم وهي المرتبطة بالأمراض المستجدة والمنبعثة، وتسجيل تحديات صحية مختلفة يبقى واردا في ظل مجموعة من المتغيرات، لهذا يجب أن نتوفر على نظام لرصد الأمراض غير المعروفة منها أساسا لاتخاذ ما يلزم من تدابير، وأن نميز بين الرصد واليقظة، وهو ما يتطلب التوفر على أطر كفؤة مكونة تكوينا مهما وعلى نظام معلوماتي متطور وإشراك كافة القطاعات الترابية، مع استحضار أن 85 في المئة من الأمراض اليوم هي ذات منشأ حيواني، الأمر الذي يتطلب تعزيز كل الإمكانيات لرصدها وتتبعها وحماية الأمن الصحي والاقتصادي والاجتماعي لبلادنا.


الكاتب : حاوره: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 13/09/2022