التلقيح أحد الدعائم الرئيسية للطب الوقائي
وآلية مهمة للسيطرة على الأمراض المعدية
خلدّ العالم ومعه المغرب قبل أسابيع فعاليات الأسبوع العالمي للتلقيح، الذي يشكّل مناسبة سنوية للوقوف على ما حققته اللقاحات من مكاسب صحية واقتصادية واجتماعية، بقطعها الطريق أمام التداعيات الوخيمة للفيروسات، وبالحدّ من الوفيات التي تسببت فيها العديد من الأمراض، وبتحسين جودة الحياة.
وتعتبر هذه المحطة السنوية مناسبة لاستعراض آخر المستجدات العلمية المتعلقة باللقاحات وتطورها، ولحظة كذلك للتحسيس والتوعية بأهمية احترام جدولة التلقيح لتفادي الأزمات الصحية المختلفة، كما وقع في بلادنا، إذ بعد جائحة كوفيد وما ترتب عنها، وبعد عودة الحياة إلى طبيعتها بفضل التلقيح، عشنا مؤخرا أزمة صحية تتعلق بظهور بؤر لمرض الحصبة، التي اتسعت رقعتها وتسبب في وفيات وفي إصابات كثيرة، كان من الممكن تفاديها لو تم الحرص على تمكين الرضع من اللقاحات المضادة في التوقيت الضروري لأخذها.
«الاتحاد الاشتراكي» واستمرار في تخصيص صفحاتها لمواد ذات بعد تحسيسي وتوعوي ضد الأمراض المختلفة، حاورت الدكتور محمد الحسن اطرابلسي، وهو طبيب مختص في الصحة العامة والتدبير الصحي مهتم بالصحة الجماعاتية، لتسليط الضوء على تفاصيل البرنامج الوطني للتلقيح واللقاحات التي يوفرها، وعن أهميتها والإشكالات المرتبطة بتفادي مواعيد الحصول عليها، وكذا خارطة استعمالها وغيرها من المحاور الأخرى.
o o ما هي بدايات التلقيح عبر العالم وكيف توجّه الطب نحو هذه الاستراتيجية الوقائية في الصحة؟
n n إن علاقة الإنسان بـ «التلقيح» بصوره المختلفة هي علاقة قديمة، فقد مارس الصينيون التطعيم ضد الجدري منذ القرن الحادي عشر، لجعله أقل ضراوة من خلال وضع الشخص الذي يُرغب في تحصينه على اتصال بمحتويات السائل المستخرج من الحويصلات المتقيحة للمريض، وذلك على الرغم من عشوائية وخطورة التبعات الناجمة عن هذه الممارسة، حيث أن معدل الوفيات كان يصل إلى 1 أو 2%. وانتقلت هذه الممارسة تدريجيا على طول طريق الحرير حتى وصلت إلى الغرب بداية القرن الثامن عشر، حيث تبين بأن التطعيم يسمح بالرفع من متوسط العمر المتوقع عند الولادة بما يزيد قليلا على ثلاث سنوات بالرغم من بعض المخاطر المصاحبة.
وقد كان الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر، الذي يعتبر من مؤيدي التطعيم ضد الجدري، قد سمع عن اعتقاد شعبي شائع مفاده أن الإصابة بجدري البقر من شأنها أن تقي من الإصابة بالنوع البشري للجرتومة. وفي 14 ماي 1796، قام بتطعيم طفل بسائل مستخرج من تقيح في يد مزارع مصاب بجدري البقر، وبعد ثلاثة أشهر، عند تطعيمه للطفل، تبين أنه محصن كليا، فانتشرت هذه الممارسة تدريجيا في جميع أنحاء أوروبا. حيث على الرغم من الحركات المناهضة والمعارضة، اكتسبت لقاحات جينير مساحة مهمة؛ بعد إدخالها في عام 1800 إلى فرنسا من قبل دوق لاروشفوكولد – ليانكورت. وبعد ثلاث سنوات تكونت الجمعية الجينيرية الملكية، التي أضحت تطعم الساكنة مجانا، وقد أصبح الجسم الطبي حينذاك يتقبل تدريجيا فكرة الجرثومة الضعيفة، فقد تبين جليا أنه لا يمكن التطعيم بجراثيم مرض ما، كان من المفترض أن نحصن أنفسنا ضده، كما سبق مع التطعيم ضد الجدري، دون التسبب في إثارة المرض نفسه. فبدأ مفهوم المناعة يكتسب أرضية شيئا فشيئا، على الرغم من قلة المعرفة بآليات وميكانيزمات اكتساب أو ردود المناعة في ذلك الوقت، حيث افترض بحق أن التطعيم بجرثومة مضعفة يمكن أن يساعد الجسم على التعرف على النسخة للجرثومة المعدية فيما بعد عند التعرض لها والدفاع عن نفسه ضدها.
وقام لويس باستور وزملاؤه فيما بعد بتوضيح مبدأ تأثير التطعيم، على إثر أبحاث كوخ، الذي ربط بين الميكروبات والأمراض، حيث سمح له هذا الاكتشاف بتحسين التقنية، مما مكنه من محاولته الأولى لتطعيم قطيع من الأغنام أكثر من ثمانين سنة بعد ذلك ضد داء الكوليرا. وكان أول تطعيم للإنسان مخالفا لتقنية ادوارد جينر الأصلية، هو تطعيم طفل ضد داء الكلب أربع سنوات بعد المحاولة الأولى، فعندما تعرض جوزيف مايستر، طفل في التاسعة للعض من قبل كلب مصاب بداء الكلب، لم يجد باستور أمامه إلا أن يقبل التحدي رغم أنه لم يكن طبيبا، لكي ينقد هذا الطفل وذلك بإجراء تجارب اللقاح محققا النجاح الذي نعرفه، فكان هذا إعلانا لمولد التطعيم الحديث. وهكذا، تم إعداد أول لقاح مضاد لبكتيريا الجمرة الخبيثة باستخدام الجرثوم المضعف من طرف باستور، الذي لم يفته أن يشيد بجينر، واصفا إياه بأحد أعظم الإنجليز. وطُبّق مبدأ التخفيف من طرف باستور كذلك عند تحضيره للقاح داء الكلب كما سبق، وذلك بأخذه لمسحوق من النخاع الشوكي لأرانب مصابة بالفيروس، وحقن سائل مشتق من هذا المسحوق مائة مرة، داخل مخ الحيوانات وذلك من كلب إلى آخر تباعا.
ثم بعد ذلك وإبان الحرب العالمية الأولى، أدت جائحة الأنفلونزا الإسبانية إلى مقتل واحد من بين كل 67 جنديا أمريكيا، مما عجل بتطوير لقاح الأنفلونزا ومع ذلك لم تتم الموافقة على استخدام أول لقاح ضدها لصالح الجيش إلا سنة 1945، ثم استخدم للتطعيم المدني في السنة الموالية، وذلك بفضل جهود الطبيبين توماس فرانسيس جونيور وجوناس سالك. وبعد ذلك ببضع سنوات ثم تطوير أول لقاح فعال ضد شلل الأطفال على يد جوناس سالك، تلاه لقاح البرت سابين والذي يستعمل عن طريق الفم، فتم اختباره وإنتاجه بالاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، حيث كانت تشيكوسلوفاكيا أول دولة في العالم تقضي على شلل الأطفال.
o o من خلال هذه النجاحات التي تم تحقيقها صحيا، ما هي الأشواط التي تلت هذه الخطوات لاحقا؟
n n لقد انضاف إلى هذه النجاحات المتوالية صحيا كما أشرتم إعلان منظمة الصحة العالمية عن برنامج القضاء على الجدري، حيث تم الشروع في عمليات التطعيم الجماعي وإعداد برنامج لتطوير التطعيم في جميع أنحاء العالم مستهدفا أمراض الخناقة والحصبة وشلل الأطفال والتيتانوس والسل والسعال الديكي، وذلك في بداية السبعينات، حيث شرع في استعمال اللقاحات المدمجة. كما انكبت الجهود على القضاء على سرطان عنق الرحم وذلك بتطوير أول لقاح ضد الفيروس المسبب (الورم الحليمي البشري)، فاستعمل أول لقاح بداية القرن الحالي. وتواصلت جهود منظمة الصحة بالموافقة قبل خمس سنوات على استعمال لقاح ضد ايبولا وآخر تجريبي ضد الملاريا التي تفتك بالأطفال.
بالمقابل لقد علمتنا جائحة كوفيد-19 فيما بعد، رغم القلاقل والمشاكل المصاحبة، كيف سيكون العالم عرضة للشلل في غياب السرعة المتوخاة والتفاعل بل والاستباقية للرد على المخاطر الفيروسية والطوارئ الصحية وتحدي الوصول العادل إلى اللقاحات والأدوية عالميا. ولا أحد ينكر اليوم أن اللقاحات انقدت أرواحا بشرية أكثر من أي اختراع طبي آخر في التاريخ، حيث وفرت الحماية ضد أكثر من 20 مرضا مميتا، وبالتالي انخفض عدد الوفيات بين الأطفال بنسبة تزيد عن 50 في المئة خلال الثلاثين سنة الماضية. واليوم ورغم كل هذه الجهود، لا يزال 20 % من الأطفال غير محصنين، حيث أدت المعلومات المضللة والاضطرابات في الوصول إلى الخدمات الصحية أثناء جائحة كوفيد-19 إلى انخفاض معدلات التطعيم في أكثر من 120 دولة، ففي العشرين سنة السابقة منذ 2000، تم تفادي أكثر من 56 مليون حالة وفاة بسبب الحصبة لوحدها.
o o هذا عن التطور التاريخي بشكل عام، فكيف كانت تجربة المغرب مع اللقاحات؟
n n لقد عمل المغرب على إصدار أول قانون في الجريدة الرسمية منذ أكثر من قرن، كما أصدر مراسيم ودوريات لتوطين وتعميم اللقاحات وحملات التطعيم. وإذا كانت الأمراض المعدية قد تراجعت بشكل مذهل فالفضل يرجع في ذلك بالأساس إلى التطعيم، الذي يعتبر أحد الدعائم الرئيسية للطب الوقائي وهو كذلك أحد أعظم نجاحات الطب بصفة عامة وبتكاليف معقولة. فمنذ أن أضحى التطعيم حقا أساسيا للطفل، تمت السيطرة على عدد مهم من الأمراض المعدية، وتحسنت صحة الأطفال المغاربة بشكل ملحوظ.
إن المغرب يعتبر من الدول الرائدة التي نجحت في التصدي للمراضة الناجمة عن معظم الأمراض المستهدفة ببرامج التلقيح، فكان هو أول بلد يصادق على شهادة القضاء على الكزاز الوليدي في عام 2002 «إقليم المكتب الإقليمي لشرق الأوسط». كما لم يتم الإبلاغ عن أي حالة إصابة بشلل الأطفال منذ عام 1987، وكان يستعد للحصول على التصديق من طرف الهيئات المختصة بخصوص استئصال شلل الأطفال، إضافة إلى أنه لم يسجل أية حالة دفتريا منذ عام 1991، فضلا عن تسجيله لانخفاض هام في حالات التهاب السحايا المستدمية النزلية منذ ظهوره في عام 2007 بنسبة تزيد عن 85%، وتتواصل المجهودات مسترسلة لتحقيق نجاحات أخرى.
o o هذه المكاسب الصحية، كيف تمكن من المغرب من التوصل إليها؟
n n لقد جاءت هذه النتائج بفضل التصدي المبكر لهذه الأوبئة وبكفاءة تدبير اللجان التي تتابع المعطيات العالمية وتعمل على ضمان الحصول على الأمصال المطلوبة بعد أخذ العلم بأهميتها وقيمتها المضافة. وهكذا فقد بادر المغرب لإدخال لقاح الجدري منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تلاه لقاح السل في الخمسينيات، ثم إدخال لقاح مدمج ضد الخناق والكزاز والسعال الديكي بداية الستينيات. وشرعت بلادنا منذ ذلك الحين في تنظيم حملات التطعيم بهذا الخصوص وكذا ضد شلل الأطفال في نقاط ثابتة وخلال حملات تطعيم جماعية.
مع بداية الثمانينات وعند تقييم استراتيجيات التطعيم، أظهرت المعطيات انخفاضا في التغطية مما جعل المغرب يقدم على وضع برنامج للتمنيع الموسع (EPI) بهدف تطعيم 80% من الأطفال، وتم رصد جميع الإمكانات وتعبئة الموارد البشرية الضرورية لتغطية الأقاليم والعمالات وتمت تعبئة طلبة كليتي الطب للرباط والدار البيضاء، حيث كان لي شرف المشاركة بمنطقة اثنين سيدي اليمني نواحي أصيلة لمدة خمسة أيام سنة 1983 رفقة زملائي الطلبة. لكن بعد خمس سنوات اضطر المغرب لإعادة هيكلة هذا البرنامج بعد تقييمه وبعد أن تبين أن نسبة التغطية لم تتجاوز 50%، فتم وضع أسس برنامج للتحصين الوطني (PNI)، الذي امتد بانتظام لسبع سنوات وتم توسيعه ليشمل تطعيم النساء في سن الإنجاب للوقاية من مرض الكزاز عند الأطفال حديثي الولادة وعند الأمهات، تلتها حملات مصغرة لأربع سنوات وذلك لفائدة الأقاليم ذات التغطية المتدنية وخاصة في المناطق القروية. وحرص المغرب على تكثيف الجهود لإنجاح الاستراتيجية الوطنية لاستئصال شلل الأطفال.
بعد ذلك سارع المغرب بداية 2000 لإدخال لقاح مضاد لالتهاب الكبد من نوع ب، تلاه اللقاح المدمج ضد الحصبة والحصبة الألمانية (RR) في المدارس، وأول جرعة معززة لـلدفتيريا والكزاز وشلل الأطفال عن طريق الفم عند عمر 18 شهرا، ثم اللقاح المضاد للأنفلونزا من النوع ب، ولقاحات أخرى، التي كان لها دور كبير في تحصين الأطفال. كما عمل المغرب على تنظيم حملات التطعيم منذ 2008، بتنظيم حملة وطنية ضد الحصبة والحصبة الألمانية للأطفال من 9 أشهر إلى 15 سنة والحصبة الألمانية للفتيات من 15 إلى 24 سنة، و تم إدخال الجرعة المعززة الثانية لـلدفتيريا والكزاز وشلل الأطفال عن طريق الفم في سن الخامسة، دون أن ننسى تنظيم الحملة الوطنية التالية بعد خمس سنوات ضد الحصبة والحصبة الألمانية (من 9 أشهر إلى 19 سنة)، فضلا عن إضافة الجرعة الثانية من لقاح الحصبة والحصبة الألمانية عند عمر 18 شهرا. وإلى جانب ما سبق فقد تم الحصول على لقاحات مركبة جديدة كاللقاح خماسي التكافؤ DTP-Hib-HB واللقاحات المضادة للمكورات الرئوية، وفيروس الروتا، ومنذ عشر سنوات أصبح لقاح شلل الأطفال المعطل ضمن برنامج التمنيع، فقد عمل المغرب على التحديث المنتظم لجدول التطعيمات بناء على توصيات منظمة الصحة العالمية والتهديدات الوبائية.
o o هذا العدد المهم من اللقاحات التي تعزز بها البرنامج الوطني للتمنيع في مراحل مختلفة، هل الآباء والأمهات على علم بوجودها وهل هناك وعي تام بأهميتها؟
n n لقد دأبت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية منذ سنوات مضت على تسطير استراتيجيات للتلقيح، وعملت على تنظيم حملات تواصلية عن طريق الوسائل السمعية البصرية، وكذا خلال لقاءات مع الساكنة عند زيارات المراكز الصحية أو المستشفيات عند الولادة وقبل ذلك خلال السبعينيات كانت فرق صحية تعمل على طرق أبواب المنازل وتقوم بحملات للقرب عند زيارة القرى والدواوير حتى توصل اللقاح وخدمات أخرى وقائية واستباقية.
وإجمالا تتمحور استراتيجية وزارة الصحة حول تفعيل أهداف برنامج التحصين الوطني (PNI)، فبفضل الرعاية الموصولة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، والرئاسة الفعالة لصاحبة السمو الملكي الأميرة للا مريم، أشرفت سموها على انطلاقته في 1987 بأوامر من جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وحرصت سموها على مواكبته وإحاطته بعناية خاصة، وهكذا أصبح المغرب أحد البلدان الرائدة الملتزمة بضمان حق الأطفال في الصحة من خلال السماح لهم بالوصول إلى لقاحات آمنة وفعالة ذات جودة ومجانية، مما يسهم في الحدّ من وفيات ومراضة الأطفال حديثي الولادة والرضع والأحداث، مع تحقيق والحفاظ على تغطية تطعيمية تناهز 95 % لكل لقاح.
ويعزز هذا العمل الحصول على إشهادات القضاء على بعض الأمراض المدرجة في قائمة منظمة الصحة العالمة، وتروم الاستراتيجية تعزيز جدول التطعيم الوطني بكل اللقاحات والتعزيزات المناعية التي تثبت نجاعتها، إلى جانب تتبع ومراقبة الأمراض المستهدفة وتطبيق المخططات الواقية من التلوث عن طريق الحقن أو المعدات الأخرى المستعملة في التمنيع، بالإضافة إلى إشراك القطاع الخاص في كل ما يخص التطعيم، بل وصحة الأم والطفل عموما، دون إغفال التكوين المستمر للعاملين في القطاع لمراقبة ورصد الأعراض السلبية التي يمكن أن تنجم عن التطعيم، مع الحرص على الإدارة الجيدة لسلسلتي التبريد والتعقيم ومراقبة أنظمة الرصد والإنذار، كما هو الحال بالنسبة للتعرف على أعراض الفيروسات أو البكتيريات المستهدفة.
هذا العمل يرافقه التواصل الشفاف مع المواطنين حول مخاطر وفوائد اللقاحات، بإشراك الإعلام والقيمين الدينيين والمجتمع المدني لنشر الرسائل المفيدة حول التطعيم، ثم العمل على تقييم أداء هذه البرامج بإجراء مسوحات دورية لتتبع مدى تغطية برنامج التطعيم ووقع التدخلات وذلك بفضل الأنظمة المحدثة لهذا الغرض. إن كل هذه الجهود تصب في اتجاه توجيه الاستراتيجيات وتفعيل التدخلات بالموازاة مع المتطلبات والاحتياجات، ويجب ألا ننسى الدور الهام الذي يلعبه التعاون والشراكة مع المنظمات الدولية في رصد التمويلات والدعم التقني واللوجيستيكي لمنظمة الصحة العالمية واليونيسيف وبعض الدول التي تسعى لتقاسم المعطيات والخبرات في المجال.
هذا العمل الدؤوب جعل المغرب يقضي على التيتانوس أو الكزاز الوليدي منذ اكثر من عشرين سنة، ويوقف تسجيل حالات شلل الأطفال منذ ما يناهز عشرين سنة كذلك، كما أنه لم تسجل أي حالة دفتيريا منذ أكثر من ثلاثين سنة، دون أن ننسى مكافحة الحصبة أو بوحمرون، وكذا متلازمة الحصبة الألمانية الخلقية، وخفض حالات التهاب السحايا المستدمية النزلية نوع «ب» إلى الخمس منذ تسجيل ظهوره سنة 2007. لقد أدى تكاثف الجهود إلى الحد من وفيات الرضع والأطفال، ومازال المغرب يطمح إلى إدخال لقاحات أخرى وتوسيع الفئات المستهدفة ووضع جدول موحد بين القطاعين العام والخاص مع العمل على تطوير المهارات للعاملين في المجال ومواكبة الأبحاث العلمية للتأكد من نجاعة الاستراتيجيات المتبعة، بالإضافة إلى استعمال التكنولوجيا المعلوماتية لضبط ورصد المعطيات باستمرار، بقي فقط الانخراط في بادرة المرصد الوطني لحقوق الطفل الحديثة في وضع سجل معلوماتي لتتبع التطعيم، لكن مع الحرص على جعله مشتركا بين جميع المتدخلين عن طريق الشبكة العنكبوتية وتسهيل الولوج بواسطة قن شخصي لكل طفل.
o o هناك عدد مهم من الأسر التي تعيش ارتباكا مرتبطا بمواعيد تلقيح أبنائها وتجهل تفاصيل البرنامج التلقيحي، هل يمكنكم تقديم صورة عن المسار التلقيحي لكل رضيع وطفل؟
n n بالفعل هناك بعض الحالات التي يمكن أن تقع في هذا الأمر، وهنا يجب التوضيح بأنه عند الولادة وخلال الأربع وعشرين ساعة الأولى وجب التلقيح ضد التهاب الكبد الفيروسي «ب». ثم في الشهر الأول يحصل الطفل على تطعيم ضد داء السل «ب-س-ج» وكذا التلقيح ضد التهاب الكبد الفيروسي «ب» إذا لم يتمكن من ذلك عند الولادة، ثم الجرعة 0 من مضاد شلل الأطفال عن طريق الفم.
وعند بلوغ الشهرين يحصل الرضيع على الجرعات رقم 1 من مضادات شلل الأطفال عن طريق الفم، والروتافيروس، تم المركب الخماسي المضاد للدفتيريا أي «الخناقة»، والكزاز والسعال الديكي أي «العواية»، والهيمو فيلوس انفليونزا نوع «ب» و التهاب الكبد الفيروسي «ب». وخلال الشهر الثالث يحصل على الجرعات رقم 2 لكل من مضادات شلل الأطفال عن طريق الفم وللروتافيروس وللمركب الخماسي. ثم في الشهر الرابع يلقح الطفل بالجرعات رقم 3 لكل من مضادات شلل الأطفال وللروتافيروس وللمركب الخماسي بالإضافة للحقنة 2 لمضاد البنوموكوك والحقنة الأولى لمضاد شلل الأطفال.
وعند بلوغ الشهر التاسع يحصل الطفل على المضاد المركب للحصبة «بوحمرون» والحميراء «الريبيول»، ثم عند نهاية السنة الأولى يتم تلقيحه بالجرعة 3 لمضاد البنوموكوك، وعند بلوغ الشهر الثامن عشر يحصل على تذكير لمضاد شلل الأطفال «جرعة 4»، للمضاد المركب للحصبة والحميراء «جرعة 2» ومركب المضاد للديفتيريا والكزاز والسعال الديكي «تذكير رقم 1»، ويحصل على تذكير رقم 2 من نفس المضاد الأخير عند بلوغ السنة الخامسة بالإضافة لتذكير لمضاد شلل الأطفال عن طريق الفم.
في المجمل ومنذ 2014 أصبح عدد المستضدات المقدمة 11 بعد أن كان محصورا في خمسة في الثمانينات، وهو ما يعكس الرغبة الدائمة في تغطية الاحتياجات في هذا المجال وفقا للمعطيات الوبائية، ويتضمن مراجعة وتحديثا دوريا لجدول التطعيم الوطني، علما بأن دولا أخرى لها برمجة مغايرة حسب خصوصيتها.
o o هذا المجهود الذي أشرتم إليه لم يحل دون ظهور أزمة صحية ترتبط بمرض الحصبة، فما هي أسباب عودة المرض وبقوة مثيرة للاستغراب والحيرة؟
n n إن هذا الوضع الصحي الذي أشرتم إليه والذي تتبعنا تفاصيله جميعا يمكن أن نقف بخصوصه عند أسباب واضحة وأخرى ثانوية، ومن بينها ما يتعلق بالقلاقل والارتباكات المتعلقة بجائحة كوفيد 19، التي كانت تحد من الحركية والتنقل للمراكز الصحية، بالإضافة للمخاوف التي رافقت انتشار هذا الفيروس، وتأخر المعرفة والإحاطة بالأسباب وكيفية انتقاله والمضاعفات الناجمة عن الإصابة بالمرض، وبعد ذلك ما رافق عملية التطعيم والحصول على الجرعات والتواصل بخصوص بعض الأعراض الجانبية التي رافقت عمليات التلقيح، التي تكون مبدئيا حاضرة في جميع اللقاحات بل وحتى عند تناول بعض الأدوية وذلك منذ عشرات السنين. فبدل أن نولي الأهمية المستحقة للجهود المبذولة آنذاك بفضل القنوات الدبلوماسية برعاية سامية والتي مكّنت المغرب من الحصول على الجرعات الكافية من اللقاحات قبل عدة دول متقدمة إضافة للأدوية والمستلزمات والتي بذلنا جهودا جبارة لتصنيعها محليا، غرقنا وسط التوجسات واللغط بل والتشكيك والتهويل في الأحداث الجانبية التي أصبحت مادة دسمة في مواقع التواصل الاجتماعي، و»معاشا» يوميا لتفريغ الضغوطات النفسية والارتباكات الناجمة عن حظر التجوال التي مازالت ترخي بظلالها على الحالة النفسية لبعض المواطنين، بل وفاقمت من أعراض بعض الاختلالات التي كانت رابدة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى وبعد عودة الحياة تدريجيا إلى طبيعتها، لم نتدارك التوقف الذي أصاب العملية التواصلية للتأكيد على ضرورة استكمال الجدول التمنيعي للأطفال، والتطرق بوضوح للعدد الكافي من الجرعات لكل مستضاد للوصول للمناعة المطلوبة «ثلاثة جرعات للحصبة»، وكذا التطرق لبعض الفيروسات أو البكتيريات التي تتطلب التذكير كل سنة أو عدة مرات في العمر، كفيروس الزكام أو الأنفلونزا ذو التركيبة الريبوزية المتغيرة باستمرار والتي يدخل فيروس كوفيد 19 في نطاقها مع التعديلات المخبرية التي مازال الشك يحوم حولها. فبسبب معدل التحور العالي للفيروس «بخلاف الحصبة»، فإن لقاح الأنفلونزا المهيأ سنويا عادة ما يوفر الحماية لمدة لا تزيد عن بضع الشهور، ونتوقع كل عام أن تكون سلالات الفيروس أكثر انتشارا، مما يسمح للمختبرات بتطوير لقاحات من شأنها أن توفر أفضل حصانة ضد هذه السلالات. فيتم إعادة صياغة اللقاح في كل موسم دون أن يشمل جميع السلالات النشطة في العالم، حيث تستغرق هذه الصياغة وإنتاج ملايين الجرعات اللازمة للتعامل مع الأوبئة الموسمية ما يناهز نصف سنة، في بعض الأحيان تصبح سلالة جديدة بارزة خلال تلك الفترة، وقد لا ينفع اللقاح المتلقى إذا لم يؤخذ أسبوعين قبل أن يتعرض للعدوى.
كما يجب التأكيد على أن بعض المهنيين أنفسهم يحتاجون لتحفيز ذاكرتهم وتحيين معلوماتهم بالمستجدات، فما بالك بالتواصل المستمر مع عموم المواطنين لجعلهم يتبينون أهمية هذه التدخلات الصحية، وأنا استغرب بجد لبعض الخرجات غير المهنية، فقط للإثارة، لمهنيين وشخصيات ذات تكوين علمي من المفروض أن يعلموا أن هناك دائما أعراضا جانبية لكل دواء وبأن الإجابة تبقى رهينة بعدة معطيات أخرى. إن نشرات الإصدار الموجودة مع كل دواء تتضمن تنبيهات وتوصي بالأخطار عن كل حادث جديد لم يتم التطرق إليه، ومن حق أي أحد تعرض للضرر أن يعمد لطلب حقه وجبر ضرره عند ثبوت العلاقة بين الضرر الحاصل والعناصر المكونة لما تناوله، وكذلك الحال بالنسبة للأمصال.
كل هذه العوامل أرخت بظلالها على العمليات الوقائية الاستباقية في المجال الصحي ومن بينها عمليات التمنيع، أضف إلى ذلك أن المنظومة الصحية نفسها أصبحت تعيش متغيرات وتحولات جذرية تميل أكثر صوب العلاجات الاستشفائية أو البعدية رغم التكلفة المرتفعة والتي رهنت أنظمة صحية لدول كانت تعتبر أن اقتصاداتها توفر لها هذا النهج الامتيازي قبل أن تعود إلى إستراتيجية مزدوجة. ثم لا ننسى من جانب آخر أن المغرب بدأ يسجل نقصا ملموسا في أعداد وتوزيع المهنيين الصحيين في الصفوف الأمامية مقارنة بالمتطلبات ولملء المؤسسات الجديدة التي تمت تهيئتها، إضافة إلى تغييرات في الاستراتيجية المتبعة في علاجات القرب الأولية التي تراجعت في شقها التنقلي أو الميداني، كما يجب ألا ننسى أن العملية التواصلية انشغلت أكثر بمخلفات الجائحة وبالتطلعات الإصلاحية للمنظومة في شقها الاجتماعي، والمهني والقانوني… إضافة إلى أن ارتفاع أرقام الإصابة بالحصبة ليس استثناء محليا بل ثم تسجيل موجات عالمية عدة، فعلى سبيل المثال، في المنطقة الأوروبية، أبلغت منظمة الصحة العالمية بين يناير وأكتوبر 2023 عن 30 ألف حالة إصابة بالحصبة، أي أكثر بـ 30 مرة ما تم الإبلاغ عنه في عام 2022.
لقد سبق وأن تطرقنا معكم في حوار سابق، وعبر جريدتكم المحترمة «الاتحاد الاشتراكي» إلى دور الخدمات الأولية الوقائية وكيفية تنظيمها قبل وعند بداية الثمانينات، فقد كان هناك ما يشبه طب وعلاج الأسرة الذي تحاول الحكومة اليوم العودة إليه، حيث كانت العملية ترتكز على بطاقة التلقيح والملف الصحي والدفتر العائلي والسجل الأسري الورقي المتواجد في المراكز الصحية والذي كان له الدور الأساسي في تتبع الحالة اللقاحية والوقائية للأم والطفل والعلاجات الأخرى، فكان الممرض الرئيسي يسهر بتفان على التتبع اليومي للمواعيد المنتظرة والعمل على استدعاء كل من تخلف عن التواريخ المبرمجة بل ويكلف من يطرق البيوت في غياب طرق تواصلية أخرى كما هو الحال اليوم. وبادرة رقمنة الدفتر الصحي التي اعتمدها المرصد الوطني لحقوق الطفل كما أسلفت، والتي يجب أن تستغل لجعل هذا الحامل الالكتروني مشتركا بين جميع المتدخلين من صحة وتعليم وتكوين مهني ودور الشباب… سيسهّل الولوج إما عن طريق الشبكة العنكبوتية أو بواسطة ملف إلكتروني محمول ومخزّن في رقاقة الكترونية لكي يتسنى تتبع واستدراك أي تخلف عن مواعيد المراقبة الصحية الوقائية والعلاجية.
o o لقد جعل الخطاب الرسمي المرتبط بالتلقيح؛ في الغالب اللهم بعض الاستثناءات؛ هذه الخطوة مقترنة بالرضيع والطفل فقط وأوقفها بشكل أو بآخر عند سنّ الخامسة ولا يتم الحديث عن التلقيح عند البالغين بالشكل الكافي، ما هو تعقيبكم على هذا الأمر؟
n n هي ملاحظة مهمة، ويجب أن نعلم بأنه في كل الدول هناك لقاحات أساسية وأخرى اختيارية وتكميلية لكنها محبذة كثيرا لعدة أسباب، أهمها أن المناعة لبعض المستضدات ليست مكتسبة طول العمر، فجرعة أخرى من اللقاح المدمج الرباعي أو الخماسي في القطاع الخاص عند سن 11 أو 12 ، إضافة للتلقيح ضد الأنفلونزا السنوية حتى بعد سن 65 تكون مطلوبة. ثم هناك جرعات أخرى للمهنيين أو مستضدات يفرضها التنقل لبعض الدول، دون أن ننسى التأكيد على مستضد الكزاز للنساء في سن الإنجاب وكذا لقاح ضد الفيروس المسبب للورم الحليمي البشري عند الفتيات.
كما تجب الإشارة إلى أن كلفة التوصل بلقاحات الأطفال حتى بلوغهم السنتين عن طريق اليونيسيف كباقي الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل، تناهز 60 دولارا دون أن تتعدى الكلفة 100 دولارا بإدخال نفقات أخرى، إضافة إلى أن التلقيح في القطاع الخاص يدخل ضمن سلة العلاجات المتكفل بها.
إننا اليوم كلنا أمل في أن يصل المغرب كما خطط لذلك إبان جائحة كورونا لتحقيق السيادة الصحية وضمنها السيادة الدوائية، تنفيذا للرؤية الملكية الرامية، لجعل المملكة قطبا بيوتكنولوجيا لا محيد عنه على صعيد إفريقيا والعالم، قادرا على تأمين الاحتياجات الصحية للقارة على المديين القصير والطويل، من خلال إدماج البحث الصيدلاني والتطوير السريري، وتصنيع وتسويق المنتوجات البيو-صيدلية ذات الضرورة الكبرى، ولضمان الاكتفاء الذاتي للمملكة من اللقاحات، ولللايفاء بالاحتياجات الإفريقية.