الدكتور ناصر السوسي يكتب عن حليم في ذكرى رحيله .. حليم جسد بحق التوجه الرومانسي في الموسيقى العربية

 

تحل ذكرى رحيل الفنان العربي الكبير العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ .
من يذكر من رعيلي هذا الفنان الفذ، يذكر بحق زمن الرومانسية الفنية في أبهى صورها وأرقى تجلياتها ( محمد عبد الوهاب،اسمهان ،السيدة أم كلثوم ،ليلى مراد، صباح ، فريد الأطرش ،ناظم الغزالي ،محرم فؤاد ،محمد قنديل ،هاني شاكر ، وردة ، اسماعيل أحمد ،علية التونسية/المغربية ، فهد بلان كأمثلة لاغير ..) و أروع تمظهراتها وفي أرقى أشكالها فضلا عن ذلك في التشكيل والسينما والإبداعات السردية ، إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وكتابات جبران خليل جبران، أو النظم الشعري نزار قباني …
ولد الفنان العربي عبد الحليم حافظ بمنطقة الشرقية -الزقازيق – بمصر في 21 يونيه 1929 ، أبان منذ حداثته عن ميولات فطرية نحو الغناء ،لهذا ظل مرتبطا و متشبثا بالفن الموسيقي حتى بعد رحيل والدته و اضطرار والده إلى الارتباط بسيدة أخرى وهي السيدة الزوجة التي ستقلب حياة عبد الحليم و أخته الكبرى علياء رأسا على عقب من خلال حمل الأب على التخلي عن طفليه ليعيشا في دار الأيتام بمدينة الزقازيق وهذا ما يرويه ابن بلدته الشاعر أحمد فؤاد نجم في مذكراته التي نشرها الشاعر العربي الصديق الدكتور حسن نجمي .
سيتعلم عبد الحليم حافظ قواعد علم الموسيقى بالمعهد الفني شيئا فشيئا ليصير بعد ذلك أستاذا مختصا في آلة الأبوا ثم أستاذا لمادة الصولفيج بمعهد البنات، وليتمكن بالموازاة مع ذلك من إتقان العزف على آلتي العود والبيانو.
وبقاهرة المعز لدين الله الفاطمي، سينساق عبد الحليم مع فضاء العاصمة ليكون منصتا دقيقا ومرهفا لنبضها وتحولاتها و إيقاعها الثقافي والفني الذي كان حافلا بالأدب و طافحا بالشعر والمسرح والموسيقى والتعبير الجسدي الراقي بدار الأوبرا والمسارح الكبرى بالإسكندرية وبور سعيد والإسماعيلية ،أي بإبداع الجمال الذي صور بعض تفاصيله ببراعة الروائي الدكتور «علاء الأسواني» في رائعته « عمارة يعقوبيان « ليتداعى كثير منه رويدا رويدا مع الشروع في إقرار سياسة الانفتاح التي صورها بفنية لافتة الشريط السينمائي الذي يحمل عنوان « زوجة رجل مهم « التي شخصتها الفنانة القديرة «ميرفت أمين» بمعية الراحل الكبير « أحمد زكي» و الأستاذ «حسن حسني « وهو الشريط الذي يقارب بمعماره الفني ونقده الصميمي أحداث 1977 الدامية بمصر، الأحداث التي ترتبت عن نهج سياسي بعينه انتهجه نظام الرئيس أنور السادات عقب حرب أكتوبر سنة 1973 ثم رسخته بشكل فج معاهدة « كامب ديفيد « .
كان عبد الحليم حافظ فنانا بكل ما في الكلمة من معنى؛ و قارئا نهما للدواوين الشعرية التي أنتجها رواد الشعر العربي نزار قباني، عبد الرحمن الأبنودي ، عبد المعطي حجازي، و إيليا أبوماضي، وأشعار مرسي جميل عزيز وحسين السيد ومأمون الشناوي، ومحمد حمزه ،على سبيل الذكر لا الحصر.
عبقرية عبد الحليم لا تتمثل، في تقديري الشخصي، في أدائه الغنائي وحسب ؛ ذلك أنه كثيرا ما كان يدلي ببعض الآراء الوجيهة في التأليف الموسيقي الذي يتم إلباسه للقصائد الشعرية التي يرغب في تأديتها مثله في ذلك مثل سيدة الطرب العربي الست أم كلثوم وهذا ما أكده الموسيقار العربي الكبير الأستاذ محمد الموجي حينما ألح عليه عبد الحليم كيما يغير أو يعدل مقاطع بعينها من ألحانه لروائع ، « قارئة الفنجان « أو «أحضان الحبايب « ،و بضرورة إضافة وصلات موسيقية بإيقاع شعبي راقص غالبا ما كان يستمد من موازين الغناء الشعبي المغربي( ألحان الموسيقار بليغ حمدي ) بغية إقحام جمهوره في لجة أدائه وعرضه، وهو ما نستطيع لمس دقائقه في المقدمة الموسيقية ل « مداح القمر « المثيرة بروعة الحوار بين آلة القيتار مع الفنان عمر خورشيد و آلة «الأورغ» التي مهر في تطويعها البيانيست PIANISTE العبقري « «مجدي الحسيني « .
يضاف إلى هذا أن عبد الحليم كان حريصا أشد الحرص على ضبط التوزيع الموسيقي L› ORCHESTRATION و مهووسا جدا بتأدية الألحان على الوجه الذي يراه كاملا ، و هذا يظهر بكل وضوح أثناء تسييره اللافت والجذاب للفرقة الماسية التي ظل ينعتها طوال حياته بالكتيبة.
كان عبد الحليم حافظ فنانا عربيا عظيما، مرهف الإحساس . مطربا بمعنى الكلمة؛ وفي هذا الصدد قال عنه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي « إن عبد الحليم حافظ فنان أصيل، فنان في عمقه، ذو سحر مدهش لن يدريه غير كبار المبدعين لأنه كان بحق صادقا في صوته وفي أحاسيسه وتعابيره وأدائه «.
عاش عبد الحليم حافظ تجربة عذاب مرير مع دائه المزمن، عاش بجسم نحيف نخرته البلهارسيا ومع ذلك ظل محتفظا في دخيلته بقوة هائلة خلاقة على حد تعبير الأديب العربي الدكتور يوسف إدريس و الموسيقار» كمال الطويل» ،قوة خارقة لانظير لها أسعفته على التحمل والجلد هدفا في الاستمرار في تجربة حياة كانت قاسية بالغة المرارة، كابدها بأناة وصبر مدهش، صبر شبيه بصبر أيوب .
يظل عبد الحليم حافظ على الدوام هرما من أهرام فننا الموسيقي العربي، نذكره، فنذكر بكل تأكيد روائعه التي أثتت طفولتنا ومراهقتنا ورومانسيات جيل بكامله ، « أهواك « و «أنا لك على طول «و «ضي القناديل « و « يا مالكا قلبي « والويل الويل « و «على حسبي وداد « و «جبار « و « أحضان الحبايب «و « لست أدري « ،نذكر أيضا « أي دمعة حزن « و « موعود « و « فاتت جنبنا « و « نبتدي مين الحكاية « و « رسالة من تحت الماء «… و القائمة طويلة التي عشقها محبو فنه فرددوها بشغف من حرقة الوجد و لوعة العشق ولظى الهيام.
لن ينسى عبد الحليم حافظ و لن أنسى أبدا خبر نعيه ذات صبيحة حزينة من 30 مارس سنة 1977 لما كنت مختليا بنفسي وسط غابة الكارتينغ بمدينتي الملونة « منكبا على تحضير دروسي قصد اجتياز امتحانات الباكالوريا في آخر تلك السنة.
رحم الله حليما الفنان الذي أطربنا وهو يتفطر من حر الآلام.
رحم الله حليما الفنان الذي جسد بحق التوجه الرومانسي في الموسيقى العربية.


الكاتب : ناصر السوسي

  

بتاريخ : 06/04/2023